No Image
عمان الثقافي

في خدمة الموسيقى العُمانية

24 أغسطس 2022
24 أغسطس 2022

في مارس من عام 1989 توظفت في مركز عُمان للموسيقى التقليدية التابع حينها لوزارة الإعلام بوظيفة «موسيقي» وكنت حديث التخرج، وبعد عدد من السنوات تغير المسمى الوظيفي إلى «باحث موسيقي»، وأعتقد أنني كنت من أوائل الموسيقيين العُمانيين الذين درسوا الموسيقى أكاديميا. ورغم أنني كعازف على آلة العود وبعض الآلات الأخرى في ذلك الوقت إلا أنني لم أشتغل كثيرا في سوق العزف، ولكن علاقاتي كانت وطيدة مع عدد من المطربين في مقدمتهم سفير الأغنية العُمانية الفنان سالم بن علي سعيد (رحمة الله عليه) الذي اشتغلت معه أكثر بالمقارنة مع الآخرين كعازف وموزع موسيقي لعدد من أعماله الغنائية منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، وتتوجت علاقتنا الشخصية والفنية بتأليفي كتاب بعنوان: من الغناء العُماني المعاصر.. دراسة في ألحان سالم بن علي وجمعان ديوان، ونشره النادي الثقافي في عام 2018.

وفي الواقع صرفت معظم وقتي في المجال البحثي أثناء العمل بالمركز، وفي هذا السياق أكرمتني وزارة الإعلام بدورة طويلة في المعهد العالي للموسيقى العربية في القاهرة لدراسة الموسيقى العربية، ثم حصلت على تفرغ لدراسة الماجستير في المعهد العالي للموسيقى بجامعة تونس تحت إشراف الأستاذ الدكتور محمود قطاط الذي اجتمعنا مرة أخرى بعد التخرج في إدارة ملتقى العود الدولي بمناسبة مسقط عاصمة الثقافة العربية 2006، وقبل ذلك كان قد طلب مني عندما كنت أحضّر رسالة الماجستير إعداد كتاب عن آلات الموسيقى التقليدية العُمانية بمناسبة انعقاد مؤتمر المجلس الدولي للموسيقى في مسقط تحت عنوان: «التوجهات والرؤى المستقبلية للموسيقى العربية»، وحثني بقوله: إن هذا الكتاب مهما كان حجمه هو الشيء الوحيد الذي سيبقى بعد انتهاء جلسات هذا المؤتمر.

تنوعت تجربتي مع الموسيقى العُمانية وشملت عدة مجالات: باحث، وملحن، وعازف على آلة العود، وإداري عندما توليت إدارة مركز عُمان للموسيقى التقليدية من 2006 إلى 2019، ومديرا للجمعية العُمانية لهواة العود من 2019 إلى 2020. وفي الواقع كنت كعازف على آلة العود عضوا أساسيا في الجمعية العُمانية لهواة العود منذ تأسيسها، وشاركت في فعاليتين من فعالياتها السنوية باحثا وعازفا، وقدمت في الندوة التي انعقدت بمناسبة تأسيس الجمعية عام 2008 دراسة بعنوان: «آلة العود في الجزيرة العربية.. دراسة تاريخية». وفي تلك المشاركتين قدمت أول محاولاتي في التأليف الموسيقي لآلة العود أهمها معزوفة بعنوان: «تسميع لآلة العود» عام 2009.

وبعد تقاعدي من العمل الإداري في 2020 تفرغت أكثر للتلحين والعزف وكتابة المقالات عن الموسيقى العُمانية. ورغم ظروف جائحة كورونا تمكنت مع بعض الزملاء والزميلات من تأسيس فرقة البلد الموسيقية بهدف توطين الموشحات وبعض القوالب الفنية العربية الغنائية والآلية غير المعروفة في الموسيقى العُمانية، كبصمة فنية جديدة في هذا العهد الجديد. وفي مارس الماضي من عام 2022 دشّنا أول ألبوم للفرقة من ألحاني بعنوان: «موشحات البلد»، احتوى على أول موشح عُماني بعنوان: «يا من هواه» من مقام الرست على قصيدة السيد سعيد بن أحمد البوسعيدي المشهورة، وموشح بعنوان: «طار الفؤاد» وآخر وطني بعنوان: «شعلة المجد» للشاعر سامي المعمري. كما ضم الألبوم في إطار مشروعنا التأليف للآلات الموسيقية أول سماعي بعنوان: «سماعي البلد»، وعودية بعنوان: «في انتظار القمر».

وكانت تجربتي المباشرة مع الموسيقى العمانية قد بدأت في الواقع من خلال وظيفتي في مركز عُمان للموسيقى التقليدية، وقبل ذلك لم أكن أعلم الكثير عن أنماط الغناء التقليدي العُماني، فأنا أنحدر من أسرة ريفية غير موسيقية، وتغربت منذ طفولتي أثناء حرب ظفار إلى اليمن ثم الاتحاد السوفييتي حيث ساقتني الأقدار إلى عالم الموسيقى في اليمن أولا، ثم طالب في معهد جلايير في مدينة كييف عاصمة جمهورية أوكرانيا تحت إشراف الدكتورة ليدا الكسندروفنا، وعدت إلى أرض الوطن بعد تخرجي عام 1988م.

لم يكن في ذلك الوقت بالمركز موسيقيون يمارسون الموسيقى، ولكن بعض الزملاء كانت لهم نشاطات ومشاركات فردية خارج إطار العمل الرسمي مثل: الزميل صالح الملبق عازف الآلات الإيقاعية التقليدية، والزميل علي الغزالي عضو فرقة وزارة الإعلام، وهي الفرقة التي كان يفترض أن أتوظف فيها، ولكن لظروف معينة وجدت نفسي في المركز. وفي الواقع كنت أتوق للانضمام إلى فرقة موسيقية بسبب اهتماماتي كممارس، ولم أكن أعلم بوجود المركز إلا بعد لقائي بسعادة علي الأنصاري وكيل وزارة الإعلام في ذلك الوقت الذي استقبلني في مكتبه مشكورا قبل أن يقرر تعييني، فعرّفني بالمركز وسلّمني كتاب «تقرير مشروع جمع وتوثيق الموسيقى التقليدية» الذي أعده الدكتور يوسف شوقي مصطفى ورفعَته وزارة الإعلام للسلطان قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، في عام 1985.

لم يستغرق جلوسي وقتا طويلا على كرسي الوظيفة قبل النزول للميدان.. وبمناسبة الكرسي، أتذكر إنه لم يكن لي ولا بعض الزملاء المشتغلين في الجمع الميداني والأرشفة مكاتب خاصة بنا كموظفين، فنحن نقضي ساعات العمل الرسمية في الاستماع إلى التسجلات السمعية ومشاهدة التسجيلات المرئية وتوثيق بياناتها وأرشفتها. وهكذا في شهر يوليو من عام 1989، صحبني الأستاذ خلفان بن أحمد البرواني مدير مركز عُمان للموسيقى التقليدية في ذلك الوقت مع فريق من التلفزيون العُماني في مهمة ميدانية إلى ولاية أدم في داخلية عُمان، حيث كانت تلك أول مقابلة مباشرة لي مع الموسيقى التقليدية في شمال الوطن. وعلى كل حال توليت في تلك المهمة كتابة بعض البيانات التوثيقية عن التسجيلات السمعية والمرئية. كانت المناسبة عرس والحضور كبير من النساء والرجال والكبار والصغار، والفرقة المدعوة محترفة من ولاية عبري، قدمت عرضا فنيا متنوعا غاية في الروعة والجمال والإتقان، وكان الميدان الذي تؤديه هذه الفرقة بأسلوب متفرد، تتوالى أدواره واحدا تلو الآخر، ونحن معهم وسط ذلك الجمهور الغفير في عمق مزارع أدم وغابة النخيل الرائعة وحرارة الصيف الملتهبة. منذ ذلك الوقت أتيحت لي العديد من الفرص للعمل الميداني وجمع وتوثيق أنماط الغناء التقليدي العُماني، فزرت معظم محافظات سلطنة عمان في مهمات رسمية وخاصة. إن هذا النشاط البحثي الذي كان يتم مرات عبر المهمات الرسمية وأخرى غير رسمية، تعلمت منه الكثير عن هذه الموسيقى العريقة والزاخرة بالثراء والتنوع، فوجدت نفسي لا أوثق فقط أنماط غنائية وآلات موسيقية وتجارب شخصيات موسيقية تمتلك مهارات فائقة فحسب بل وكذلك أكتسب معارف عن جانب من تاريخ بلادي الثقافي على لسان الموسيقيين، إنه تاريخ فني حيوي ومؤثر ويستحق أن يدون في موسوعة خاصة به. من هنا، كان البحث الموسيقي مدرسة لي لدراسة الموسيقى العُمانية وقوالبها الفنية وأساليب أدائها من جهة، وملاحظة المتغيرات التي تحدث في هذه الموسيقى من جهة أخرى، وكان هذا عونا لي عندما أصبحت مديرا للمركز والجمعية في التخطيط لفعاليتهما وتنفيذها. وبناء عليه أسست في عام 2015 فرقة تابعة لمركز عُمان للموسيقى التقليدية كانت بمثابة ورشة تدريب مكثفة لتطوير المهارات والقدرات الموسيقية تحت إشرافي المباشر، حيث ضمت الفرقة أعضاء محترفين وحديثي التخرج، كما تابعت العمل الميداني في الولايات الحدودية والصحراوية بين اليمن والسعودية التي لم توثق من قبل لتدريب الموسيقيين بالمركز، وأشرفت على عقد دورتين للمؤرخين الموسيقيين العرب في مسقط، وقدمت في أول ندوات هذا الملتقى الموسيقي التاريخي دراسة بعنوان: «مدخل إلى التأريخ للموسيقى العُمانية»، وفي هذا السياق كنت قد حاولت في كتابي: «الموسيقى العُمانية مقاربة تعريفية وتحليلية» دراسة تطور لغة الموسيقى العُمانية ومكانتها في المجتمع والثقافة العُمانية. كما تشرفت بعضوية لجنة الموسوعة العُمانية تحت إشراف معالي الدكتور عبدالله بن ناصر الحراصي مشرفا على مجال الموسيقى العُمانية. وقبل ذلك وفي التسعينيات من القرن العشرين كلفتني وزارة الإعلام بتمثيل سلطنة عمان في المجلس التنفيذي للمجمع العربي للموسيقى، وبترشيح من سعادة الشاعر عبدالله بن صخر العامري رحمة الله عليه ضمتني وزارة التراث القومي والثقافة إلى عضوية لجنتي تطوير الأغنية العُمانية، ومهرجان الأغنية العُمانية. وفي 2011 تشرفت بعضوية مجلس أمناء جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب بناء على المرسوم السلطاني رقم: 18/ 2011م. وهكذا، وبكل تواضع أستطيع القول أن رصيدي اليوم من البحوث والدراسات في خدمة الموسيقى العُمانية بلغت: أربعة كتب، وأكثر من ثمانية عشر بحثا ودراسة منشورة في مجلات عٌمانية وعربية، بالإضافة إلى عدد آخر من المقالات والمحاضرات، والأغاني الوطنية والعاطفية من ألحاني المنشورة التي ربما كان أهمها بالإضافة إلى الألبوم الأخير مع فرقة البلد: «زيد الحكي» و«قِبلة الشمس» للشاعر مسلم بن سعيد الحمر وغناء الفنانة ليلى نصيب. وأغنيتين جماعيتين بعنوان: «شموس المجد»، و«والله عليكِ نغار» للشاعر علي بن أحمد المعشني، ومطلعها:

مَن فينا ما يحبِك .. من فينا ما يودِك

مَن فينا لي يرضى .. بغيرِك بلاد ودار

والله عليكِ نغار

وفي الواقع ازداد اشتغالي بالتلحين والتأليف الموسيقي مع فرقة البلد التي تضم نخبة من الموسيقيات والموسيقيين العُمانيين، وإن شاء الله مستمرون معا في خدمة الموسيقى العُمانية الطربية، ونتطلع إلى تحقيق إنجازات مهمة على الصعيدين العربي والعالمي.

مسلم بن أحمد الكثيري موسيقي وباحث عماني