عمان الثقافي

فن الكتابة بالحواس الآداب الإنسانية ما بين الإنجاز والتلقي

25 يونيو 2023
25 يونيو 2023

الجمال والمتعة الفنية

الكتابة المنتصرة للفعل الإبداعي تصير الأنا المذابة في أنوات أخرى تشتبك في الحس الفني وما يخلفه من أثر.

كتب الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر: «علم الجمال يأخذ العمل الفني على أنه موضوع وبصفته موضوعا للوعي الحسي بمعناه العام. واليوم يسمى هذا الوعي الحسي، التجربة الشعورية، والطريقة التي يعيش بها الإنسان تجربة الفن، ينبغي أن يكون جوهرها واضحا. التجربة ليست المنبع المهم بالنظر إلى المتعة الفنية فقط، بل هي كذلك بالنظر إلى الخلق الفني، فكل شيء تجربة، وتكون التجربة هي العنصر الذي يموت فيه الفن والموت يتم ببطء...»، فالوعي هنا هو عملة متبادلة ما بين صناع العمل الفني والمتلقي وفق آلية حسية ظاهرة ومضمرة تعلي من قيمة هذا الفن على اختلاف مستهلكيه وسبل إنتاجه.

يقيني أن الفنون الراقية والفلسفات المتقدمة والنخبوية تستطيع أن تشارك في توجيه الوعي والمعرفة الأسمى، أن تتغلغل في بيوت الناس بطرق شتى تساعد على نقل العلوم والفلسفة والآداب الإنسانية إلى المتلقي في صيغ مختلفة يقدمها الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع، بما في ذلك منصات سوشيال ميديا التي تطرح إعلاما بديلا يعتمده رؤساء الدول وكبار الكتاب والصحفيين للإدلاء بآرائهم في قضايا معاصرة وعاجلة، وفنية ومن قاع العالم وهوامشه.

***

لنفترض أن الفنون الجميلة والإنسانية ليست معجزات إلهية بل عمل يفكر بالجماليات المحسوسة. وأعتقد يمكننا أن نصقل مهارات الكتابة من خلال القراءة والتثقيف الأكاديمي أو الذاتي. فالكاتب في أي حقل يقرأ ويكتب بطريقة تختلف عن قراءة شخص آخر غير منشغل بهموم الكتابة. الكاتب يبحث في تفاصيل البناء والحبكة والصورة والترهل والإيقاعات. حضور تجليات الحواس والرموز في النص تمسك بلباب القارئ وتمكنه من تذوق نكهة النص بأبعاده اللامرئية. مهارة النص تكمن في أن يحدث هذا التلقي وكأنه عفوي وليس تعدٍ على التلقائية والصدق الفني الذي يتكرس بالمران وبالمعرفة.

**

الوصول إلى الآخر والتوغل في معرفة الذات البشرية وملابساتها يقع في صلب عملية الخلق، إذا اعتبرنا الذات الفردية هي جزيئة في بوتقة الوعي والأنا الجمعية الكونية.

من تجربتي في القراءة والكتابة، أعرض أفكارا ووجهات نظر تبلورت مع الممارسة والدراسة والقراءات النوعية في مضمار يخصص له حقل دراسات في الجامعات ودور النشر العالمية وتتجاهله الثقافة العربية.

وكثيرا ما نسمع أحدهم يقول للكتّاب أو يعلن كتابة: هذا النص يمثلني ويتحدث عني، أو يقول ما لا أستطيع التعبير عنه. ومن هنا تلجأ بعض الصحف إلى إجراء استفتاءات لمعرفة ما هي الكتب الأكثر تأثيراً وأهمية في مسار هذا الكاتب أو ذاك. وهناك رؤساء دول يعلنون عن قائمة المطالعة وأهم الكتب التي أثرت بهم، ومنهم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.

**

دائما سيكون هناك نخبة منتجة للفنون ونخبة قارئة وتتلقى بوعي نوعي، والكسالى على الجانب الآخر. الفنون واحة يصنعها البشر وعلى اختلاف ظروف حياتهم واستعدادهم السيكولوجي إلى جوار الموهبة والاستعداد الذاتي الفطري، ويتلقفها القراء من بعيد ومن قريب، من لغات مختلفة.

**

لماذا الشعر!

كيف نتلقى الشعر الذي هو بقي خالدا في مخطوطات على رقم طينية منذ بابل وإلى آخر منجزات الثورة التكنولوجية التي لن ينتصر فيها الذكاء التكنولوجي على مشاعر الإنسان واحتياجاته!

«الشعر الحقيقي يحسن التواصل قبل أن يُفهَم» كتب ت. س. إليوت، الشاعر الإنجليزي الكبير الذي اختبر في كتاباته الحدود اللانهائية للمخيلة البشرية وفضولها لتفكيك سر الخلود والوجود.

في فكر المنذورين للعمل المنتج الإبداعي المتفرد في أي حقل كان، لا بد أن تكون الموهبة مدعمة بالرغبة في معرفة الآداب الإنسانية. النص وظله، الكاتب وقارئه يتجاذبان أطراف النص، يتشاجران على نقاط قوته وضعفه، يتسامران في صمت حول الأثر الذي ينتجه ويتلقاه كل منهما. ذلك الظل الذي لا وجود له إلا بخلق نقطة للتواصل بين الكلمة ومنتجها، بين القارئ والكتابة. في تلك المساحة التي لا تصبح مفهومة كليا وتبقى قابلة للتأويل يحقق الإبداع غايته وحقيقته المرجوة والتي عبر عنها الشاعر البريطاني المعروف ت. س. إليوت في تراثه الشعري الخالد، في القول الوارد أعلاه، بأن الشعر الحقيقي يعرف طريقة الوصول إلى الآخر دون أن يتعرى كلياً من خبايا الفتنة المستترة. أشياء وأحاسيس وأفكار كثيرة تصل دون قصدية وإقحام، وفي ذلك نفحات من ألوهية تتقاطع مع الذي نعتقد أننا نعرفه ولا نراه.

**

«من هذا الذي في قواه العقلية ويقول: أنا أنذر نفسي لأكون كاتبا فاشلا، وسوف أستمر في أن أكون كاتبا دون المستوى!» نانسي بيكارد،

كاتبة أمريكية حازت رواياتها التي زادت عن 15 رواية في صنف الجريمة والغموض على عدد من الجوائز الأدبية المرموقة المخصصة في الأدب الأمريكي. وهي مشتركة في تحرير كتاب عن الكتابة وما يعيق طريق الوصول إلى الهدف من الكتابة. إذ لا أحد حقا يجلس ساعات في حجرته، صومعته محاطا بالقلق والشخصيات الغريبة والأفكار الخيالية منعزلا عن متع أخرى، فقط كي يقتل الوقت ويموت دون أن يصل إلى المجد الذي يحثه على الاستمرار. المجد؟ لا، ليس مجد السلطة والمال بل تلك الرغبة في تحدي الذات وصنع قيمة عليا من لا شيء عدا الكلمة والمهارات وإعمال الموهبة، إلى جوار الإخلاص للفكر والكشف عما لا نعرف.

**

القارئ العادي والنخبوي -غير الأكاديمي- يستطيع أن يفهم النص ويتواصل مع رسالته دون وعي مكتمل بآليات هذا التشابك. القارئ النوعي يتذوق نكهة النصوص التي بين يديه وعينيه دون أن يمتلك تلك الأدوات النقدية الأكاديمية والمعرفية العميقة. يعشق بعض الكتب ويمقت بعضها الآخر لأسباب تخصه. الكاتب يجتهد كي يضع بين يدي القراء ما يستحق انتباههم ورفقتهم قبل أن يصابوا بالضجر ويضعوا الكتاب أو القصة أو القصيدة جانبا.

**

نحن الكتّاب قد نمتلك تلك الموهبة وقد نفشل دون أن نصل إلى ما نرغب. ولا أحد يريد أن يكتب كي يبقى فاشلاً ويثير حقد الآخرين وضغينتهم، إلا أولئك الذين هم في الأساس ضد القراءة والكتابة والتأليف كعمل تنويري جمالي فني.

وقد نخيب آمال أنفسنا والآخرين دون أن نصل إلى ما نحب ولكن المغامرة تستحق العناء وتلك اللعبة ما بين المتخيل والمكتوب شائعة، غزيرة بالمفاجآت والاكتشافات الخيال وما يوازي ذلك في حبر الكتابة مسألة معقدة وخاضعة لمعايير مختلفة قد نلمس بعضها في هذا البحث. فالكتابة مقامرة ومغامرة معرفية، نحن فيها الرابح والخاسر والمؤمن والكافر بالصنعة والإلهام.

**

للنصوص عيون وآذان وحواس مضمرة

بعض الحواس لها كفاءة نقل النص من الجمود إلى الاشتباك بالآخر حتى ليصبح للنص وجوده في بعد أقصى من هذا البعد الواضح المقنن. فالعين ما تعاين من ألوان الحياة المرتبطة بمشاعر باطنية تحاكي القارئ بصورها الفنية التي تنوب عن القبلة وعن الجسر، وعن صور الحرب. ولكل لون إثارة مختلفة عن آخر حين يكتب. النظر يولد شعورا يخلقه اللون والمساحات المتقاطعة طبيعية وعمرانية. للنصوص عيون نرى بها الجوار والمسافات، نتخيلها بعين العقل-الداخلية.

وهكذا الأذن وما تسمعه من أصوات وإيقاعات خارجية، وما تشكله الكلمات من جوقة أصوات داخلية نشعر بها ولا نراها. هناك نصوص نسمع روحها تتغلغل وتنادينا، تحكي معنا ولنا وعنا وتمتعنا فنكمل القراءة. ذلك الإيقاع السري لرقصة الكلمات في سطر واحد تسحينا من آذاننا للإصغاء.

**

يزداد النص قوة حين يكون مطعما بنكهات مغايرة وغنية تفوح من سروة في النص، أو كتاب عتيق في اليد، أو مرارة مصدرها نفسي أو مرتبط بنوع من الخضار. النكهات هنا تحيل إلى بعد نفسي وفلسفي وتعكس عمقا من أعماق التجربة والنص. رائحة القهوة تثير عالماً باطنياً حسيا ونفسيا، رائحة التراب بعد المطر، تسحرني شخصيا وتأخذني إلى طفولتي البعيدة في بلاد أبعد من الحلم. وهناك نكهات مرّة وترتبط سيكلوجيا بنشأتنا وطرق عيشنا.

**

وهناك الجسد... مساحات مترامية لتلمّس المادة أو الجسد المكتوب في العمل الإبداعي. جلد الإنسان يشغل كامل الجسد وأكثر الأعضاء حسية. الجلد يلامس الفاكهة ويلامس الأقمشة ويلامس أطراف الجسد العاشق أو الميت. اللمس، لسان وأصابع ووصال ووخز كالشوك وكالحرير. النص قماشة يحيكها المؤلف ويلمسها القارئ والكاتب بحاسة الشعور، إذ يخلق تلك المشاعر التي لا يتكهن بها إلا صانع الرقعة الأدبية. وتكمن أهمية النص في اختراقه تلك المساحة الناقلة عبر الصفحة المكتوبة بين الكاتب والقارئ.

حين يصبح للكتاب رائحة خاصة تنبعث من مفردات وصور ومشاهدات ونكهات ينغرس النص في روح القارئ، يوقظ ذاكرته يحيله إلى مجريات أخرى في حياته، يترك لك تفاصيل غنية ليست عبارة عن مجازات فارغة من المحتوى وليست تفاصيل خالية من الارتكاسات على أرض الواقع.

**

الصورة الفنية بحد ذاتها تحمل مدلولات وإحالات حسية سواء أكانت لوناً، أو شبكة من الانفعالات المرتبطة بما تفرزه الألوان من مشاعر، والروائح من ذكريات وإثارة سلبية أو مبهجة. فحين ننسج النص ببعض هذه المهارات تنبعث في الكتاب الأرواح، تتدفق بين السطور وتحتها دورة دموية مرهفة ومثيرة للعشق، للغضب، للتأمل، للأمل أو السخرية.

**

مراحل إنجاز النص

التحف الفنية والتماثيل في الشوارع والبيوت، وقطع الأثاث، لا تخلق دفعة واحدة وبضربة إزميل حاد. الكتابة كذلك تمر بمسودات ومراحل زمنية كي تكتمل وتصبح مناسبة للقاء مع العشاق من أي عمر وعرق، في أي منعطف وظرف وبيت.

نكتب مشروعا أدبيا أو فنيا، نجمع أفكارا ثم نحاول أن نجد الصيغة الأنسب لعرضها وكسب ثقة المتلقي بالإضافة إلى متعتنا الشخصية في الكشف عن شيء يسعدنا ويرضي طموحنا وشبقنا للحفر في المجهول. تذوق المتعة الشخصية أثناء رحلة الكشف والكتابة تأتي قبل الرغبة في الحيازة على تصفيق وتثمين الآخرين. وكي نستمتع بهذا، نبحث في ذخيرتنا الروحية والعلمية عن مهارات الصنعة الفنية لإنجاز العمل. نضع المسودة الأولى، ثم نقوم بالتحرير والتشذيب وفي تلك الرحلة نختبر أحاسيس النص وحسيته. ننظف النص ونخلصه من الصور الدخيلة والطفيليات، نحسّن جماليات الصورة واحدة بعد أخرى، نعاين لغة المقطع الآخر. نجتهد في أن نجعل المشهد شهيا ويبعث على المتعة. تخريب وتحوير وإعادة تشكيل المعرفة المسبقة المطروحة أمامنا تحتاج إلى إرادة وعزيمة كي نخلق شيئا جديدا له وجوده الخاص المستقل عنا بعد النشر.

**

تحرير النصوص والعقول

مهما كان العمل الفني متقنا، سيبقى ناقصا. لا شيء يكتمل كليا في الحياة وفي الكتابة، حتى الموت لا ينهي قصتنا مع الحياة، الموت لا ينهي حمولة الذكريات والإرث الذي في بواطن الكتب، وصورتنا في عيون الآخرين، وكذلك الحال مع النصوص والآداب العالمية الجيدة. فلا بد من عين أخرى للنظر في النص.

في دور الكتابة الأجنبية والمحترمة في الساحة العربية، هناك محرر خبير في قراءة النص وتحسينه وتهذيبه. المحرر/ة يقرأ بدقة وحيادية، ويلفت انتباه الكاتب إلى نقاط النقص وعدم اكتمال الفكرة أو الصورة أو الحدث في القصة. وهنا نسلم بأن الإبداع ليس إلهاما خالصا، بل موهبة وإتقان صنعة على مراحل، دون أن تكون دليلا واضحا للخلق الفني. النجار مثلا، لديه مقاسات لصنع باب وإطار وطريقة تركيبه، لكن فنية صناعة تحفة جمالية مختلفة باختلاف صانع الأثر الذي يعرض نتاجه الشخصي للآخر في النهاية.

**

ترجمة المشاعر إلى شعر وقصة وراوية للصغار أو للكبار، تحتاج أن يتساقط عن ذهنك الخوف والحذر ويتبلور ذلك الخيط الفاصل بين العري المتعمد الاصطناعي والعراء الطبيعي للروحي والكامن والمثير.

الإبداع رحلة تجري بمنتهى الخصوصية والسرية. ما بين القلب واللسان والفكر خطوط تتجه شرقا وأخرى تتجه غربا وأخرى تتقاطع على محيط الدائرة وتكمل الدوران لترسم وتكتب وتحفر في الصخر أو الرخام أو على جذع الشجر. خطوط أخرى مستترة لا تفصح علنا عما استتر.

صاموئيل بيكيت الكاتب المسرحي الإيرلندي الشهير الذي سيخلده التاريخ الأدبي العالمي قال: «أن تفشل، أن تفشل ثانية، وأن تفشل بشكل أفضل» ودائما هناك فرصة للوقوف وفي يدنا كتاب للغد. الكتابة متعة وموهبة، حفر وتعرية وتعزيل وترميم وليست استجماما في الفراغ، وكذلك القراءة.

**

نسمع الكلمات، نشمّها، نحسها، نتذوقها، نلمسها، ظاهرها وباطنها، وتلك متعة ثمينة، سمها علم الظواهر وما شئت من أسماء ومصطلحات، ولكن يا قارئي وصديقي لا تبخل علي بأذنك وفمك وعينيك وقلبك أولاً فيما أنت تمشي معي وفي جواري. للقراءة طبقات وللكتابة آبار ومع ذلك تستطيع أن تموت عطشا ولا تصل البئر المعرفة الكلية للأشياء.

خلق الإبداع، إن لم يصب في تشذيب وتهذيب إنسانيتنا وفطرتنا، سيبقى عاجزا ومجرد تفصيل عابر وصغير في ظاهرة الكون الكلية. ستبقى هناك أبعاد لن تسمها وتحسها كليا، ولكنك تتسمر أمام جمالها الناقص والمكسور والغائب.

**

الفنون واحة يحج إليها الفضوليون إلى المزيد من المعرفة، العطاشى لتذوق الجماليات التي تمثلنا وتدفعنا للحلم.

ذلك الحلم الممتد منذ كتابات جدتنا «انخيدوانا» الشاعرة السومرية الأولى، وصولا إلى رقم الطين التي كتبت عليها محلمة جلجامش قبل قرون، وصولا إلى الكتابة عبر الملفات الإلكترونية في زمن الذكاء الاصطناعي الذي يهددنا بالبدائل المفبركة، بعيدا عن مشاعر البشر وأحاسيسهم وأحلامهم المستقبلية التي كانت وستبقى محور الحضارة والفلسفة والآداب الإنسانية.

**

حين يكون لديك صخرة ترفعها ألف مرة إلى أعلى الجبل وتراها تسقط، ربما عليك أن تغير الهدف والطريقة والصخرة. دعك من «سيزيف» وأسطورة العقاب الأبدي لرجل على سوء سلوكه، تلك حكاية من أساطير الشعوب قبل الميلاد بقرون. وحين يكون بين يديك نص أو قصة لا تستطيع كتابتها كما يحلو لك، أتركها جانبا، أخرج من النص إلى الشارع، إلى كتاب آخر، وحاول من جديد.

هامش: المقولات بين قوسين قمت بترجمتها أثناء المطالعة من مصادر مختلفة، ومنها كتاب بعنوان «سبع خطوات في طريق الكاتب/الرحلة من الإحباط إلى الإنجاز» تحرير الروائية نانسي بيكارد ولين لوفت. وبعضها من كتابات للشاعر ت.س إليوت، ومارتن هايدجر «أصل الفنون».

جاكلين سلام كاتبة سورية تعيش في كندا