No Image
عمان الثقافي

فن الجرافيك يدخل المعركة ليقاتل مع غزة.. وينتصر

27 ديسمبر 2023
27 ديسمبر 2023

لم تكد الحرب على غزة فلسطين تبدأ حتى استقطبت فور حدوثها فن الجرافيك، والمَشاهد الفنية بشكل خاص، لسهولتها في التعبير، حيث إن لوحات الجرافيك تحمل معنى منتزعا مما يحدث فعلا، في ظل مواكبة التقارير الصحفية والصور للحرب، حيث يتمكن الفنان أينما كان من عمل تشكيله الذي يجمع الصور بمحيطها، موظفا التقنيات الحديثة والسهلة في التكوينات، ذات الطابع التضامني وفق جماليات فنية. إنه كولاج فني عصريّ معبر، يأخذ مادته من الواقع المصور، ليأخذه رمزيا وجماليا إلى ما يجعله فنا عميقا مؤثرا.

ما كان يمكن جعل فن الجرافيك، كأول فن يتفاعل مع الأحداث قبل ثلاثة عقود، لأن الشعر هو الذي كان يحتل صدارة التعبير السريع، حيث كان الشعر بشكل خاص، من الفنون الأدبية التي تسبق فنون السرد، كون الشعر يقوم على الانفعال اللحظي، بعكس السرد القصصي والروائي الذي يحتاج وقتا أكثر، حتى يستطيع السارد التقاط أنفاسه.

وهكذا، فلم تمر سوى ساعات على عبور المقاومين، حتى ظهرت عدة لوحات جرافيك، تجمع أسلوب الملصقات «البوستر» بالمَشاهد التشكيلية، وقد ظهر فيها بشكل خاص استخدام المقاومين نوعا من المظلات لتجاوز الحواجز الاحتلالية. وكان منبع تلك اللوحات هو الفخر والتغني بفعل المقاومين في عبور الحواجز المنيعة.

بعد أيام قليلة، ظهرت لوحات التضامن الفني جنبا إلى جنب مع استمرار الفخر بصمود المقاومة، حيث تركز ذلك على المشاهد التي يجري بثها بشكل مباشر، من خلال الفضائيات.

أجمعت اللوحات على بعث رسائل للجمهور العالمي والعربي، تعرّي جرائم الحرب التي امتدت إلى معظم الناس في قطاع غزة. وهكذا تمت إعادة تشكيل الرسم والكلمات والصور والرموز، لإيصال الرسائل بأسلوب واضح ومؤثر، ومعبّر فعلا عما يكون من قصص المآسي المتعلقة بقتل المدنيين، خاصة الأطفال والنساء.

ومن اللافت في الأعمال الفنية التركيز على جعل خارطة قطاع غزة شكلا أساسيا فيها، بحيث يمكن القول إن خارطة قطاع غزة الآن صارت مألوفة للعالم. وهناك من ربط بشكل خاص بين لوحة «جرنيكا» وخارطة غزة.

وبشكل عام، يمكن تلمس الموضوعات المثارة في أعمال فن الجرافيك، على النحو التالي:

مظلات:

ولعل أكثر لوحات الجرافيك، متشابهة في هذا الموضوع، سماء واسعة زرقاء، ومظلات راعى فيها المصممون المنظور الفني، فاللوحة التي بين أيدينا هنا، التي لم تحمل توقيعا، احتوت 11 مظلة بدخان الموتورات. لوحة أخرى جعلت من الطيور سقوف المظلات، تجر العاشقين للعودة إلى بلادهم، واحتفت معظم لوحات الجرافيك بالعبور الذي تم بأدوات بسيطة لم يتوقعها الاحتلال.

أطفال وأمهات:

معظم ما تم نشره من لوحات فن الجرافيك في مواقع التواصل الاجتماعي تحديدا، كان موضوعها الرئيسي الأطفال والأمهات، باختيار حالة الاحتضان، في ظل ما تم نشره إعلاميا من قتل للأطفال والنساء، وتشريدهم.

من هذه اللوحات، عمل فني موقع باسم غيداء أحمد، عرضت فيه 13 طفلا مكفنا، راعت فيه المصممة المنظور، لكن بإيحاء استمرارية القتل، وقد تم كتابة: ليسوا أرقاما.

في حين، وفي ظل النقص الحاد في الوقود، تعرّض المواليد الخدج لخطر الموت بسبب انقطاع الكهرباء، فكان عمل الفنان فؤاد اليماني مصورا لمولود في الحاضنة، وقد تم وضع القيود في رسغيه، في حين اقتحمت 4 فوهات بنادق فضاء المولود المستطيل.

من الأعمال الفنية التي انتشرت كثيرا، ما تم تصميمه من الأطفال الشهداء، حيث ظهروا بأجنحة، هابطين من السماء، يحلقون في سماء الوطن، في الأماكن التي قصفها ودمرها الاحتلال. عشرون طيرا من طيور الجنة، وأم تحتضن طفلها، تم تكوين جسد الأم من ركام المنازل المدمرة.

عمل آخر انتشر بشكل لافت هو لطفلة جالسة وسط الدمار في صدمة. طفلة وحيدة تم تكوينها من خلال الركام والبيوت المهشمة، احتلت الطفلة ثلث اللوحة. واللوحة حملت توقيع سيار عمر. وكانت وكالة «معا» قد نشرت عملا فنيا صادم يحتوي صور أطفال شهداء معا وخلفهم الدخان والنار، إضافة إلى لوحة جرافيك انتشرت، وهي معبرة فعلا عن أقصى الألم، إنها صرخة طفل هارب من النيران.

من أكثر الأعمال تأثيرا، بين فنون الجرافيك هنا، منظر حمامة تؤنس طفلا يتأمل ركام البيوت، في حين مثلت الأعشاب الخضراء الناجية حياة جديدة قادمة.

عمل آخر بدون توقيع، أم تضم طفلها، تم تكوين العنصرين من صور ركام البيوت، تكرر فيه استخدام المآذن كذراع، في محاكاة لشاهد المصلي، وقد حملت قبة المئذنة الذهبية رمزا نورانيا.

وأم أخرى ضمت طفلها ما بين البحر والمدينة، تم التكوين الفني للأم وابنها من صور ركام البيوت المدمرة.

كما اشتهر عمل فني يصور الأم وهي تجر عربتين فيهما طفلان رضيعان، لعلها تنجيهما من الموت المحقق، قامت بإبداعه الفنانة شيرين أحمد، مذيلة بعبارة: حرة صامدة قوية هي المرأة والأم الفلسطينية.

أما العمل الفني لكامل كامل، فقد أظهر الأب وهو يرفع طفله الشهيد نحو السماء كقربان، وهنا ظهر الفم المفتوح بصرخة ألم، في حين ظهر القلب المشتعل نارا ونورا. أما الخلفية فكانت ليلا وبشرا آخرين يشهدون ويشاهدون في ظل احمرار ما قد يبدو بصيص الأمل. وهو العمل الفني الذي أظهر الأب.

نساء:

عمل فني للفنان إسلام جمال، صرخة لرجل يحمل فتاة مضرجة بالدماء اختفى جزء من الذراع.

فقد ظهرت الصرخة في أكثر من عمل فني، لتذكرنا بلوحة الفنان الإسباني فرانسيسكو جويا (1746 – 1828) الذي رسم الألم على اتساعه، وعلى اتساع فتحة الفم، فتحات أفواه الأعمال الفنية تحيلنا إلى لوحة جويا الشهيرة (الثاني من أيار) كتسجيل مأساوي للحرب الإسبانية والمقاومة ضد الهجمة الفرنسية الشرسة. «ففي عام 1808 اقتحم الفرنسيون الأرض الإسبانية وشهدت البلاد ويلات الحرب ووحشية الغزاة والتنكيل والمجازر، فكانت لوحات «كوارث الحرب» لجويا التي أردفها بلوحات «فظائع الحرب» لتكون صرخة ألم تنفر من القتل».

حضور جرنيكا بيكاسو

الفنان Antonio Rodriguez Garcia رسم رجلا يتأمل لوحة خارطة قطاع غزة وقد تمت تعبئتها بلوحة جرنيكا، وقد تم إنجازها باللونين الأبيض والأسود. رسم لوحة الجرنيكا الفنان بيكاسو عام 1936 بعد المأساة المروعة التي راح ضحيتها سكان القرية الإسبانية الوادعة جرنيكا عندما ألقى عليها الألمان وابلا من قنابلهم، فدمرت القرية بمن فيها عن آخرهم، واندثرت تحت الأنقاض جثث ألفين من القرويين العزل هم كل سكان هذه القرية البائسة ... ففي صباح 26 نيسان، الذي كان يوم السوق الأسبوعي للقرية، فوجئ السكان البسطاء بالسماء من فوق رؤوسهم وقد امتلأت بالطائرات الألمانية الغازية تلقي بقنابلها عليهم، وتدك البلدة بمن فيها حتى أحالتها إلى دمار ورماد وأشلاء، كي تكون عبرة للشعب الإسباني حتى يخضع للسلطة العميلة للنازيين..

في لوحة جرنيكا ذات الثمانية أمتار طولا تعبير عن الألم الإنساني ووحشية القتلة. وقد أبدعها بيكاسو بأسلوب الفن المعاصر، والذي يتأملها على ضوء فتحة فم الغزي في صور وكالات الأنباء يرى كيف عبّر بيكاسو من خلال فتحات الأفواه، للبشر والخيول، والأيدي المرفوعة إلى أعلى فزعا، تماما كرؤوس الغزيين والغزيات.

فتحات أفواه الأمهات والآباء والأخوة والأخوات مثيرة للتأمل لعمق حزنها على الفقد العظيم، سحنات الوجوه..إيقاع الكلمات ونظرة العيون..التي لم تكن كافية لتثير تفكير الطيار الضارب من أعلى، دون أن تصاب ملابسه بغبار..

أما الفنان عبد الهادي شهلا، فقد صمم شخصا يحضن تابوت أحد الشهداء، حيث كتب فلسطين. يظهر وراءه شهيد ممدد، ويعلو العمل رسم يحاكي الذعر الموجود في جرنيكا بيكاسو.

كما عبرت الفنانة سوزان نيفس، من خلال استخدام شكل قطاع غزة، ليحاكي لوحة جرنيكا، لكن بشكل مكثف للبشر المحصورين والمقتولين داخل الشكل.

موضوعه غزة

أحد الفنانين العرب، الذي يبدو من بلاد الشام؛ فلم تظهر معلوماته على صفحته على الفيسبوك جنسيته، لكن اللافت في أعماله الفنية منذ الحرب الصهيونية على غزة، أنه جعل غزة موضوعه. من لوحاته حين جعل من البيوت المقصوفة كأنها أشجار تميلها الرياح القوية، في حين جعل الشهداء يمرون من فوقها مطمئنين في طريقهم إلى السماء.

اللوحة الثانية، جعل قطاع غزة كأنه وعاء يملأه إسرائيليّ وأمريكي بارودا، وينز الوعاء دما.

واللافت أن جزءا مهما من هذه الأعمال قد خلت من توقيع مبدعيها، ولا نعرف السبب في ذلك.

نجاح البوسترات

لقد نجحت البوسترات، وفنون الجرافيك بشكل عام، التي استخدمت برامج الحاسوب، منذ بدء المعركة في السابع من أكتوبر، ولفتت انتباه متابعي السوشيال ميديا، وتمت مشاركات واسعة له. والسبب أن هذا الفن خلق للوصول للجماهير.

لقد واكبت فنون الجرافيك الحرب طوال فترة الحرب، حتى كأنه صار أحد وسائل توثيقها، وليس فقط التضامن مع غزة.

وبالرغم من أن تأثيرات الصور الفوتوغرافية والفيديوهات على الجمهور كبيرة، إلا أن وقع البوسترات كان أكثر تأثيرا على الشعور والفعل، كونها لا تكتفي بالتعبير، بل بالتأثير على السلوك.

بوستر فلسطين

في السبعينات والثمانينات، عرف سفراء فلسطين في أوروبا مثل الشهيد عز الدين القلق، أحد دبلوماسيي الثورة الفلسطينية في أوروبا، وكذلك الشهيد الدبلوماسي محمود الهمشري، اللذين جمعا حولهما الفنانين الفرنسيين وفنانين أوروبيين ممن يتضامنون مع الشعب الفلسطيني، وتم عمل معارض لهم، حيث تم نشر العديد منها في الصحف والمجلات، حتى ضاق الاحتلال بهما، وعرفا كيف يتعاملان مع الخطاب الغربي من خلال خطاب إنساني فني وجمالي مناسب.

والشهيد عز الدين قلق، أول من اشتغل على تجميع ملصقات المقاومة الفلسطينية التي بلغت 600 ملصق.

وقد عرفت الأرض المحتلة كذلك انتشار البوسترات، وقد اختبره عدة فنانين، إلا أن الفنان د. عبد الرحم المزين، ابن غزة البار، كان هو الأبرز والأكثر إبداعا بين مجايليه، خصوصا في الانتفاضتين الأولى عام 1987 والثانية عام 2000.

أما اليوم، فكل فنان، وبسبب انتشار الأخبار بسهولة، صرنا نجد الفنانين/ات هم من أنفسهم يبادرون للتضامن مع الشعب الفلسطيني، من جنسيات متعددة. ولعل جهة فلسطينية أو عربية توثق هذا التضامن الجمالي مع غزة تحت نيران تشيب رؤوس من بقوا هناك، على خاصرة البحر الأبيض المتوسط.

الأصل في الفن المعبر عن الحرب أن ينفِّر من شرها ليدفع البشر ومتذوقي اللوحات إلى الخير والجمال. ولا أدري كيف يكون بحوزة البشرية مثل هذه اللوحات لجويا وكلاي وبيكاسو وآخرين وتستمر في مسلسل القتل والاحتلال. والمفارقة أن بلادا تدعي الحضارة وحقوق الإنسان إما أنها تدعم الاحتلال وإما أنها تصمت على فظائعه أو تتحدث بدبلوماسية هشة توازي بين القتلة والضحايا.

البوستر-الجرافيك المعاصر

وفن الجرافيك الذي انتشر بقوة في العقود الثلاثة الأخيرة، بالاستفادة من برامج الحاسوب الحديثة، أصبح أكثر سرعة بالإبداع، لكن الذي منحه الانتشار الواسع هو عالم السوشيال ميديا، وكلاهما، نتاج تلاقي الإنترنت بالحاسوب.

لقد ارتبط فن الجرافيك بالطباعة الصينية في القرن السابع لدى أسرة تانج، وظلت تتطور وصولا إلى القرن التاسع عشر. كما أن هناك علما خاصا يفسر خطوطه وألوانه. وقد منحت تقنيات الحاسوب فن الجرافيك طفرة في التعبير والسرعة. ولعل فن الجرافيك مرتبط بفن البوستر (الملصق)، وله عدة استعمالات سواء كان الترويج لمنتج أو حدث معين كالأحداث الوطنية أو المهرجانات الاقتصادية والسياسية والفنية أيضا. على الرغم من أن الإعلانات العامة المطبوعة يمكن إرجاعها إلى القرن الخامس عشر، إلا أن الملصق كما هو مفهوم اليوم لم يظهر حتى عام 1867 تقريبًا، نظرًا لاختراع الطباعة الحجرية، التي سمحت بإنتاج ملصقات ملونة ببراعة بسعر رخيص وسهل.

تحسين يقين ناقد وكاتب من القدس