غرباؤنا
قصص ليديا ديفيس
ترجمة محمد عبد النبي
حَقيبة أوراقي
مِن الواضح أنَّ حقيبة أوراقي كانت هي السبب وراء اختياري مُجددًا للتدرِّيس في الفصل الدراسي التالي. لقد تأثَّروا كثيرًا لأنها كانت تبدو تمامًا كحقيبة أوراق.
كما أنني كنتُ أعلم كيف أمشي في الممرات وأنا أحمل حقيبتي. كنتُ أستطيع فَتح بابَ مكتبي والدخول إليه. كان لدي كُرسي دَوَّار على عجلات في مكتبي. كنتُ أترك بابي مفتوحًا خلال الساعة المخصصة لوجودي في المكتب، وأُحْكم غَلْقه فورَ انتهاء الساعة. كانت سكرتيرة القِسم تفعل كل ما أطلبه منها، في حدود المعقول. كنتُ حذرًا فيما أطلبه منها. كنت أبدو نشيطًا ومشغولًا أمامها، ولكن مع ابتسامة مهذبة. كان هناك صندوق البريد الخاص بي، يحمل اسمي بخط عريض، تحت ساعة الحائط. وعندما ألتقي بأحد الطلاب في الممر، كنت أتحدَّث إليه بتعبير الوجه المناسب، مُشتتًا وشاردًا، لكن إجاباتي كانت دائمًا واضحة وحاسمة.
***
على مَضَض
تقول القطة: "أنا هنا فقط على مَضَض." لا يفهم الكلب، فتفسِّر له القطة معنى كلمة مَضَض. للأمر علاقة بنوعٍ مِن التَسامُح. يتعلق الأمر بإذْنٍ لكنه فقط غير مباشر، إذْنٌ نابع من الفشل في المَنْع. تَستَخدِم كلمة ضِمنيّ. لا يفهم الكلب ضِمنيّ. تستسلم القطة. تحسبُ أنه ربما فهم الفكرة على كل حال.
تعلم القطة أنهم يحبُّون الكلب ويتسامحون معها فقط. ثمَّة حماس حقيقي عندما يُحيُّون الكلب، لدى دخولهم من الباب الأمامي. تجلس هي بعيدًا في الخلف، تراقب، لأنَّ الكلب يكون جامحًا للغاية عندما يثبُ عليهم. يرونها في الخلف ويقولون: "مرحبًا، قطقوطة!" لكن بِغير كثير دفء. الكلب أكثر تَعبيرًا منها. لكنه لن يفهم كلمة تعبيري، رغم أنه يُجسّدها. (لن يفهم معنى يُجسِّد.)
لاحقًا، تقول القطة للكلب، الذي يقف أسفل منها، في المطبخ، يراقبها ويتشمم الهواء: "الآن هي غادرت الغرفة وأنا جالسة هنا على بُعد بوصة واحدة من ساندويتش الدجاج الخاص بها. هذا يشكِّل ضَغطًا عليّ." تمدُّ مخلبًا وتَمس الساندويتش، لكنها ليست مرتاحة.
يحبها الكلب ويهتم بها. على الرغم من أنه لا يعرف كلمة ضغط، فهو لن يجد أي ضغط في الوجود بالقرب من ساندويتش الدجاج.
ثم تقول إنها تعاني من مشاكل مع غددها اللعابية في مواقف معينة ولا تستطيع مَنع نفسها مِن فتح فمها وغَلقه.
لاحقًا، تعود القطة لمضغ المقشَّة مرة أخرى.
لا يفهم الكلب لماذا قد تفعل ذلك.
تقول القطة: "إنَّها توبخني لأنني كنتُ أمضغ المقشَّة. تتركها خارجًا وأنا أراها. ثم تراني وأنا أمضغها فتأتي وتأخذها وتضعها بين الثلاجة والجدار حيث لا أستطيع الوصول إليها، رغم أنني أحاول. أحاول عندما تبدو في متناول يدي."
يستمع الكلب إليها وهي تشرح كل هذا. إنَّه على الأقل نوع من التغيير بدلًا من الذهاب للخلف والنوم مجددًا في تلك البقعة من ضوء الشمس، كما اعتاد أن يفعل بين حينٍ وآخَر طوال الصباح، مُتتبعًا حركة بقعة الضوء عبر الأرضية.
***
قصة إخبارية وجيزة
من زمن بعيد
سمعنا هذه القصة منذ سنوات في نشرة أخبار المساء: عروسة وعريس في ليلة زفافهما أفرطا في تناول المشروبات الكحولية مع الأصدقاء ثم صعدا إلى سيارة العروسة وانطلقا. في نهاية طريق مسدود بالقرب من جسر علوي فوق الطريق، أوقفا السيارة، وأطفآ المحرِّك، وبدآ يتشاجران بصوتٍ عالٍ. كان جدالهما مسموعًا في المنازل القريبة واستمرَّ وقتًا طويلًا للغاية حتَّى بدأ ينصت إليهما عدة جيران. بعد مدَّة، صرخَ العريس في وجه عروسته: "تمام، ادهسيني إذَن." عندذاك، كان الجيران يراقبون أيضًا من نوافذهم. نزل مِن السيارة، وصفقَ البابَ من خلفه بقوة، واستلقى أمام العجلة الأمامية ناحية مقعد الراكب. دَوَّرت العروس السيَّارة وقادت المَركبة التي تزن 4000 رطلًا فوقه. مات فورًا. كان عمر زواجهما بضع ساعاتٍ فقط. وعندما مات، كان لم يزل مرتديًا بدلة الفَرَح.
***
كان الجميع يبكون
ليس من السَهل العيش في هذا العالم: الكُلُّ منزعج باستمرار لأمورٍ كبيرة أو حتَّى صغيرة لم تمضِ على ما يُرام. واحدٌ أهانه صديق، وآخَر تُهمله أسرته، ثم آخَر خاض جدالًا سيئًا مع زوج أو زوجة أو ابن مراهِق.
غالبًا ما يبكي الناس عندما يكونون غير سعداء. هذا أمر طبيعي. لمدة عام أو نحوه، في فترة شبابي، عملت في أحد المكاتب. قُبيلَ وقت الغداء، ومع شعور الناس في المكتب بالجوع والتعب والضيق، كانوا يشرعون في البكاء. كان يعطيني رئيسي وثيقة لأنسخها على الآلة، فأدفعها بعيدًا بغضب. كان يصرخ في وجهي: فلتنُسَخ هذه!"، فأرد صراخه بصراخ: "لن أنسخَ شيئًا!" هو نفسه كان يتجهَّم وهو على الهاتف ثم يرطم السمَّاعة في القُرص بعنف. قربَ الوقت الذي يتأهَّب فيه لتناول الغداء، كانت دموع الإحباط تسيل على وجنتيه. وإذا مرَّ به أحد معارفه في المكتب ليصحبه للغداء، كان يتجاهل ذلك الشخص ويوليه ظهره. عندئذٍ كانت عينا ذلك الشخص، هو أيضًا، تغرورق بالدموع.
بعد الغداء، كنا جميعًا نشعر بتحسُّن، ويصيرُ المكتب مفعمًا بالهمهمة والحركة المعتادة، أشخاص يحملون الملفات ويسيرون بهمَّة هنا وهناك، وتنفجر ضحكات مفاجئة من مقصورات العمل، ويمضي العمل جيدًا حتَّى وقتٍ متأخِّر من فترة الأصيل. عندئذٍ، ومع تزايد تعبنا جميعًا من جديد، أكثر تعبًا حتَّى ممَّا كنا عليه في الصباح، وجوعى من جديد، كنا نشرع في البكاء من جديد.
معظمنا في الواقع كان يواصل البكاء ونحن نغادر المكتب. في المصعد، كنا ندفع بعضنا البعض جانبًا، وفي الطريق إلى محطة المترو كنا نُحدِّق بشدة في الأشخاص القادمين باتجاهنا. على السلالم النازلة إلى المترو، كنا نشق طريقنا شقًا نازلين عبر الزحام الصاعد.
كان الوقت صيفًا. في تلك الأيام لم يكن هناك تكييف هواء في عربات المترو، وبينما كانت الدموع تبلل خدودنا، كان العَرَق أيضًا يتدفَّق على وجوهنا وظهورنا وأرجلنا، وكانت أقدام النساء تتورم في أحذيتهن الضيقة، بينما كنا جميعًا واقفين مُكتظين، نتأرجح بين المحطات.
بعض الناس، رغم أنهم كانوا يبكون عند دخولهم عربة المترو، كانوا يتوقفون عن البكاء تدريجيًا أثناء طريق عودتهم إلى بيوتهم، خصوصًا إذا وجدوا مقعدًا. كانوا يرمشون برموشهم المبللة ويبدأون في قضم براجِم أصابعهم راضين وهم يقرؤون صحفهم وكتبهم، عيونهم لم تزل ملتمعة.
قد لا يبكون مرة أخرى في ذلك اليوم، ليس قبل اليوم التالي. لا أدري، لأنني لم أكن معهم، يمكنني فقط أن أتخيل. عن نَفسي فلم أكن عادة أبكي في المنزل، إلا على المائدة، إذا كان عشائي مُحبِطًا للغاية، أو قُبيلَ وقت النوم، لأنني لم أكن أرغب حقًا في الذهاب للسرير، لأنني لم أرغب في الاستيقاظ في اليوم التالي والذهاب إلى العمل. لكن ربما كان آخرون يبكون في المنزل، ربما حتى طوال المساء، بحسب ما وجدوه هناك.
* هذه ترجمة قصص مختارة من أحدث الكتب القصصية للكاتبة الأمريكية ليديا ديفيس (Our Strangers)، ليديا ديفيس كاتبة قصة أمريكية شهيرة كما أنها مترجمة عن الفرنسية أنجزت أعمالًا مهمة مثل مدام بوفاري لفلوبير وبعض أجزاء البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست، وهي معروفة بقصصها القصيرة المبتكرة بذكاء والمقتضبة للغاية. في خريف 2003 تلقت جائزة "العباقرة" من بين 25 آخرين التابعة لمؤسسة ماكارثر، في حيثيات هذه الجائزة ورد أنَّ أعمال ليديا ديفيس تظهر لنا "كيف يمكن للغة في حد ذاتها أن تكون مصدر تسلية، وكل ما يمكن كلمة واحدة أن تقوله وأن تسكت عنه...وكيف يمكن لهذا أن يستولي على اهتمام القارئ... تمنح ديفيس القراء لمحة من تفاصيل حياة كانت خفية عليهم من قبل ذلك، كاشفة عن منابع جديدة للرؤى الفلسفية والجمال." في 2013 حصلت على جائزة المان بوكر الدولية.
