No Image
عمان الثقافي

غابة صغيرة في جيبي

26 سبتمبر 2023
26 سبتمبر 2023

يخرج شهناز كل صباح من غرفته الوحيدة على السطح، يتجاوز أكوام قطع الكرتون والعلب المعدنية التي تملأ المساحة الفارغة أمام الغرفة، ويتجه إلى الطرف؛ حيث الحاجز الذي يفصل سطح البناية عن الشارع ذي المسار الواحد في الأسفل، يطل من علٍ على سوق الحمرية الذي بدأ لتوه يستقبل نهارا رطبا كالعادة. بعينه الخبيرة يبدأ في تفحص حاويات القمامة المصطفة على طول الزقاق الممتد من مدخل العمارة حتى محل الصرافة عند المنعطف، يحدد من أيها سيبدأ مشواره اليومي، يراقب قليلا الحياة في الأسفل، ثم يعود ليغلق باب الغرفة الذي تركه مفتوحا.

حين يبدأ في هبوط السلم أكون أنا على وشك الخروج من شقتي التي أتشاركها مع أربعة من أبناء بلدتنا البعيدة والمرمية على حافة الرمل، أسمع خطواته الثقيلة على الدرجات المغطاة بالبلاط الرديء، أنتظره حتى يصل، حين يقترب أقول: صباح الخير جناب، يكون لحظتها حانيا رأسه للأسفل تحت ضغط الرزمة الضخمة من قطع الكراتين التي يحملها فوق كتفيه. يرد: صباح النور. يمط كلمة النور بشكل جميل ومحبب، يسير أمامي حتى مخرج العمارة الذي يفصله رصيف ضيق عن الشارع الذي يكون ضاجا بالبشر، والأصوات، والروائح في أغلب أوقات اليوم.

أساعده في وضع الرزمة على الأرض. يطقطق فقرات رقبته، ويحرك كتفيه، ليتخلص من تنمل ذراعيه الناتج عن ثقل ما كان يحمله.

وصل شهناز إلى شارع الحمرية في ساعة متأخرة من الليل قبل أربع سنوات، كنت قد أنهيت عملي، وجلست أنتظر صحن (المصالا) في المطعم الباكستاني المقابل للبناية التي أسكن في أحد غرفها. وضع حقيبته على الأرض، واستأذنني لأن يشاركني الجلوس على الطاولة، ودون أي مشقة بدأ الحديث يسيل بيننا وكأننا لسنا غريبين يلتقيان صدفة في طاولة على الرصيف. أخبرني أنه وصل لتوه من محضة، بعد أن ترك العمل مع كفيله السابق. وكأي غريبين يلتقيان في طاولة، لا يفصلها عن الشارع سوى صف من الأصيص المزروعة، انهمرت الحكايات بيننا طويلا. قال: إنه هرب من عمله السابق قبل أن يصل إلى حافة الانهيار «كنت أنام، وأسمع الأشجار تنتحب في رأسي، أستيقظ كل ليلة، وأنا أشعر بالعصارة الخضراء التي تسيل من الجذوع المقطوعة وكأنها حمم تسيل في وريدي. وفي الصباح أعتلي مرغما صندوق شاحنة صغيرة، تذهب بعيدا عن الأعين في عمق الصحراء وأبدأ في جذع الأشجار، وتقطيعها في قطع صغيرة متساوية، ثم نعود بها في الليل ونقوم بتكديسها في إحدى المزارع، حتى تجف ومن ثم نقوم ببيعها. في أحد الصباحات امتنعت عن ركوب الشاحنة. زمجر كفيلي وتوعد، وحين شاهد الإصرار في وجهي؛ طلب مني أن أغادر المزرعة حالا. وضعت ملابسي القليلة في حقيبة قماشية واتجهت إلى الشارع العام».

تلك الليلة والتي بعدها بات شهناز برفقتي مستغلين ذهاب أحد زملاء الشقة في إجازة قصيرة، بعد يومين استطعنا إقناع مالك البناية أن يؤجر شهناز غرفة السطح مع المساحة الفارغة أمامها بشرط أن يتولى تنظيف السلم والمساحات أمام الشقق بشكل دوري ويقوم بحسم أجرته من إيجار الغرفة الشهري. كانت سعادته كبيرة بتوفر مساحة فارغة من السطح أمام بابه، وكنت مستغربا في البداية من إصراره على الحصول على مكان يتوفر بقربه مساحة فارغة، ولكنني بعد شهر من سكنه فوق غرفتي بطابقين أدركت السبب.

****

وضعنا رزمة الكراتين الضخمة أمام البناية، وقطعنا الشارع إلى مطعم بشارة الذي بمجرد أن لمحنا نخرج حتى وضع كوبي الشاي بالحليب مع صحني العدس على الطاولة. بعد قليل ستصل الشاحنة التي يقودها ابن عمه مع اثنين من أبناء بيشاور. سيقومون بوزن الكمية وتدوين وزنها في دفتر ثم يرصونها في صندوق الشاحنة. قبل منتصف النهار بقليل ستمتلئ عن آخرها برزم قطع الكراتين المستخدمة، سيتجهون بعدها لتفريغها في أحد مصانع إعادة التدوير في الرسيل. وعند نهاية كل أسبوع يستلم شهناز مبلغا جيدا من ابن عمه نظير الكمية التي قام بتجميعها من الكراتين. أشاهد لحظتها سعادة في عينيه تتجاوز مسألة الحصول على المال، يقول لي مفسرا: «أنا أحاول بعملي أن أعتذر لكل الأشجار التي قمت بجذعها في عملي السابق، كل قطعة كرتون تراها أمامك هي أنين شجرة تم انتزاع لحاءها عنوة. حتى الآن لا زلت أعاني من اضطراب النوم الذي خلفه صوت الأغصان وهي ترتطم بالأرض. في كل ليلة أحلم والدي -الراقد في قبره منذ عشرين عاما- وهو يعرض عني، كلما اقتربت منه يبتعد ثم يختفي في الضياء، كان يعمل حارسا للغابات، ينظر إلى كل شجرة في الأحراش وكأنها أحد أفراد عائلته. يقول لنا وكنا أطفالا: الله أراد أن يقرب لنا صورة الجنة حين منحنا هذا الاخضرار الممتد، لا ترفع منجلك في وجه شجرة، قبل أن يموت أوصى أن يدفن تحت شجرة (نيم). أراد لجسده أن يتحلل ثم يتسلل إلى جذور شجرة معمرة قبل أن يغادر أوراقها على شكل ذرات أوكسجين تأخذ طريقها إلى رئة أحد أطفاله».

كان لشهناز نظرته العميقة في الحياة على الرغم من تعليمه المتدني. نظرة ربما اكتسبها من شظف العيش الذي رافقه في حياته. يقول لي وأنا أشاهده يتناول سمك السردين النافق على الشاطئ ثم يقذفه إلى البحر: «لا شيء يفقد قيمته في الحياة يا صديقي. تلك السردينة الهامدة على الرمل ستعود بشكل أو بآخر إلى مطعم بشارة وسنتناولها في غداء الجمعة»، نضحك معا ونواصل سيرنا. كنت قد اتفقت مع شهناز على أن أقتطع جمعة في كل شهر لا أذهب فيها إلى بلدتي البعيدة، ويتوقف هو عن عمله في ذلك اليوم. ننام حتى ما قبل الظهر، نستيقظ ثم نذهب إلى جامع السلطان في روي. بعد الصلاة نعود لنتغدى سمكا مشويا في مطعم بشارة. نرجع لننام. وفي العصر نذهب إلى الشاطئ ونأوي قبل أن يغلق بشارة مطعمه.

كنت في بداية تعارفنا أظن أن هوس شهناز بتجميع كل ما يمكن إعادة استخدامه أو تدويره ليس سوى وسيلة لكسب المال والرزق، لكن مع مرور الأيام تكشف لي أن الأمر يتعلق بشغفه بفكرة استدامة وديمومة الأشياء في الكون، فهو وإن كان عمله الرئيس يعتمد على جمع قطع الكرتون المهملة، وإعادة بيعها إلا أنه وبين فترة وأخرى، وكلما صعدت إلى غرفته على السطح أجد صنفا جديدا قد احتل مكانه بين الركام. منذ فترة بدأت ألاحظه وقد بدأ يجمع العلب والقطع المعدنية ويكنزها في أكياس بعد أن يضغطها. بعدها وجدت شوالين من قطع الخبز المتيبس والمتعفن في أحد أركان المكان، منذ أسبوع وجدته وهو يحمل كمية من الملابس القديمة وبقايا قطع القماش التي جمعها من محلات الخياطة، ودكاكين بيع الأقمشة.

****

في الأيام التي يخفت فيها تردد العملاء على الشركة، يسمح لي مديري أن أغادر مبكرا، أصعد إلى بشارة لأساعده في تقطيع ألواح الكرتون، وترتيب المكان في الأعلى، أجده غارقا في توضيب أحد المواد، وتجهيزها لمتعهد قد يصل في أي لحظة. وكمن يفيق من إغفاءته يقول لي: «لو استمر البشر يتعاملون مع الأشياء وكأنها ورقة محارم، يستعملونها لمرة واحدة فقط، سيأتي يوم وستنضب موارد الأرض». أعرف حينها أن هذه الفكرة كانت تدور في رأسه قبل أن أصل. حين ننتهي نغسل أيدينا من مغسلة قديمة قرب الباب، وجدها مرمية بجانب مجمع للقمامة، وأخذها ثم هيأ لها مكانا في السطح. نحمل شوالي الخبز الجاف، ونهبط لنتعشى. سيأتي بعد قليل صاحب مزرعة للمواشي ليأخذ الخبز.

في إحدى الليالي صعدتُ إلى السطح لأودع شهناز قبل أن أذهب في إجازتي السنوية، والتي ستضاف إليها عطلة العيد. وجدته جالسا على مقعد قديم أعاد إصلاحه، وهو ينظر للقمر المكتمل، أحضرتُ علبة أصباغ فارغة، وجلست عليها، كان يتوقع حضوري لذلك وضع كوب شاي إضافي بجانب حافظة الشاي.

- فيم تفكر، هل لا تزال تخشى على الكوكب واستدامة موارده؟

حين لاحظ ابتسامة ساخرة على وجهي، اقترب مني:

-في الحقيقة أنا الليلة أفكر في ابنتي، لقد فتّتني الغربة بما يكفي يا صديقي.

فتح تلفونه على صورة حديثة لابنته أرسلتها له عصر ذلك اليوم. تقف في الباحة الأمامية لمنزلهم الخشبي في بيشاور بجانب شجرة صغيرة بدأت تبرعم، ويدها الصغيرة تشير بفرح إلى الغصن الجديد الذي بدأ يظهر. أخذ الهاتف من يدي وقام بتكبير الصورة على الشتلة التي تقف بجانبها (كيران). «هذه نبتة نادرة وتكاد أن تنقرض. جلب عمي بذورها من المرتفعات، وقام بغمرها في منقوع الأوراق لمدة طويلة، ثم غرسها في التربة المخلوطة بنشار الخشب، لو نبتت ستكون بداية لإعادة زراعتها واستدامتها. سنسمي هذه الشجرة كيران».

تعودتُ منه بين فترة وأخرى وحين تشتعل جذوة الحنين في صدره أن يبيح لي بنيته في إنهاء تغربه، والعودة إلى دياره ليعمل حارسا للغابات وينشئ معملا ولو بسيطا لإعادة التدوير في قريته الصغيرة، لكنه يعود في الصباح أكثر حماسا للعمل، والبقاء في شارع الحمرية. اقترحت عليه أن يزورني يوم العيد في القرية، ليكتشف عيدا مختلفا لكنه فاجأني بأنه بدأ العمل بدوام مسائي في أحد المشاتل، وأنه سيقضي عطلة العيد يعتني بالشجيرات الصغيرة في تلك الغابة المصغرة.

- هل تحتاج إلى كل هذا الإرهاق في العمل المتواصل؟

- وجودي في المشتل ليس عملا، إنه مكافأة أقدمها لنفسي، أنا أقوم بترميم روحي هناك، وأحاول أن أستعيد بعضا من إنسانيتي التي فقدتها بسبب عملي السابق، ثم إنني لا أستطيع أن أعيش بعيدا عن رائحة الجذور. قبل أن تذهب ألقي تحية على شجرة صداقتنا، ستفتقدك.

عندما وصل تلك الليلة والرضوض بادية على روحه كان يحمل بذرتها في صرة داخل حقيبة ملابسه، بعد يومين من استقراره التقط أصيصا قديما، وزرعها بداخله على السطح، قال: هذه ستكون شجرتنا معا.

نزلت إلى غرفتي التي سأبيت فيها وحيدا هذه الليلة بعد أن غادر البقية إلى القرية، كنت أفكر في ذلك الرجل الذي يشرب الآن الشاي وسط أكوام المخلفات في الأعلى، ولا يتوقف أبدا عن التفكير في استدامه كل شيء في البيئة من حوله. كيف لهذا الإنسان الضئيل أن يتجاوز ذاته ويفكر في سلامة هذا الكوكب الضخم، ويحمل هم بقائه وكأنه أحد أطفاله.

منذ أن التقيت شهناز أصبت بعدوى الاستدامة في نظرتي للأشياء من حولي، صرت أتجنب رمي الأشياء والتخلص منها، كما كنت أفعل ذلك من قبل، بدأ قلقه يتسرب إلى قلبي بمجرد أن تتجاوز مدة استحمامي خمس دقائق، بت أتجنب كل مظاهر الهدر في حياتي. لا أذكر بأن أحدا من قبل استطاع أن يطبع تأثيره على حياتي كما فعل هو.

*****

بعد أن قضيت شهرا بعيدا عن شارع الحمرية، عدتُ محملا بهدايا والدتي إلى صديقي الذي تعرفه جيدا من خلال حديثي عنه، توقعت أنني سأجده، وقد أضاف مواد أخرى يمكن تدويرها واستدامتها إلى مملكته على السطح، وضعت حقيبة ملابسي في الغرفة، وحملت هدايا أمي، وصعدت إلى الأعلى. لأول وهلة توقعت أنني في سطح بناية أخرى. كان خاليا ونظيفا كما رأيته قبل أربع سنوات. لا شيء هنا سوى الأصيص المزروعة، وحبل الغسيل الذي ما يزال مكانه، بعد قليل وصل وكان يحمل حقيبة سفر جديدة اشتراها للتو..

«لقد مات عمي في العيد، لا أحد هناك سيرعى أبناءه من بعده، كما وإنني يجب أن أرث عمله في حراسة الغابة، وأنا لم أعد أطيق الغياب أكثر. تعال لتساعدني لأرتب الحقيبة الأخيرة في الداخل، موعد سفري مساء الغد».

لم يكن يمزح أبدا. كما وأن الحزن الذي هبط دفعة واحدة على قلبي كان حقيقيا، وسقوطي كان حقيقيا، وانتحابي كان حقيقيا أيضا.

حين أفقت من ذهولي بدأت أشعر أنني بمفردي في فقاعة كونية فارغة، ووحدي أجوب الفراغ اللامتناهي. تحاملت ودخلت غرفته، كان قد جهز كل شيء إلا أغراضا قليلة مضافا إليها هدايا أمي سيضعها في الحقيبة التي اشتراها قبل قليل.

في المساء الذي تلا تلك الليلة لوح لي «شهناز» بيمينه، بينما بيده الأخرى يحتضن شجرة صداقتنا التي كانت هي الأخرى حزينة ولا تريدنا أن نفترق.

تمت

سعيد الحاتمي كاتب وقاص عماني