2337036
2337036
عمان الثقافي

عن الهجرة والكتابة

24 مايو 2023
24 مايو 2023

«كل الناس لديهم مكان في التاريخ، مكاني أنا هو الغيوم»

ريشارد بروتيجان

«أسوأ أنواع المنفى هو أن تكون منفيا في بلادك»

روبير ساباتييه

الكتابة عن تأثير بلدان المهجر والأوطان البديلة على الكُتاب والشعراء العرب مسألة شائكة ومعقدة وعرضة للكثير من اللبس بسبب التطور التكنولوجي الهائل الذي غيّر جذريا مفهوم المسافة والمواصلات بين بلدان العالم والانتشار المهول لوسائل التواصل الاجتماعي عبر شبكة الإنترنت والهواتف النقالة والذي خلخل بقوة مفهوم المكان وأفرغ مفاهيم أخرى متصلة بهذه المسألة، مثل الغربة والاغتراب والمنفى والترحال واللجوء والنزوح... إلخ من حمولتها الدلالية التي إما باتت متقادمة أو نخرها الاجترار.

وقبل الغوص في حجم وأبعاد هذه التأثيرات على الإنتاج الإبداعي أستحضر واقعة حدثت معي في بداية الألفية الثالثة. تلقيت مكالمة هاتفية من صحفية فرنسية تعد وتقدم برنامجا أسبوعيا يُعنى بالمجلات والدوريات الثقافية في الإذاعة الثقافية الفرنسية «فرانس كولتور» واقترحت عليَّ المشاركة في حلقة تستضيف فيها الكاتب التونسي الراحل عبد الوهاب المؤدب الذي خصص عددا من مجلة «ديدال» التي كان يشرف على إدارتها لموضوع الصحراء وتجلياته في الأعمال الأدبية. كنت في نهاية العشرينيات من العمر غارقا في هجرة حديثة أحاول أن أجد موطئ قدم بين ثقافتين ومكانين متباعدين... وكنت أصدرتُ في تلك الفترة مجلة اسمها «إسراف» وخصصنا عددها الأول لتجربة الكاتب والمفكر الفرنسي جورج باتاي. شاركت في ذلك البرنامج غير أنني لم أخف تضايقي من هذا «الاهتمام المفرط» بالصحراء من طرف كاتب تونسي مقيم منذ عقود طويلة في باريس التي نعيش فيها فضاءات المدن الغربية «الكوزموبوليتية» بامتياز. لم أكن صراحة مستعدا في تلك اللحظة للحديث عن الصحراء وسكينتها وزهدها الصوفي وتساؤلاتها الوجودية لأنني ببساطة كنتُ أعيش متوترا وقلِقا على وقع أسئلة كبرى وحارقة يطرحها فضاء المدينة الغربية المسلح بالإسمنت والصخب، والمضاء بألق التطور التكنولوجي الهائل وما يفرزه من عزلة واغتراب وسط الزحام.

هاجرت في خريف 1990 للدراسة في جامعة بوردو في جنوب غرب فرنسا وسرعان ما اتخذت قرارا بالإقامة الدائمة وتدبير أموري لتسهيل هذا الخيار. كانت هجرة وقودها الرغبة. الرغبة في العيش في تماس مباشر مع الثقافة الفرنسية بشتى جوانبها وتجلياتها. الرغبة الجامحة في الحياة والاستمتاع بملذاتها في فضاء أجمل قوامه الحرية والأمان واحترام الفرد وخصوصيته. كانت هجرة اختيارية وطوعية ضمن مسار شخصي ولم تكن اقتلاعا عنيفا أو هربا من استبداد سياسي أو فكري كما حدث للبعض. كان العقد الأول من هذه الهجرة «ركضا في الاتجاه المعاكس للوطن وفترة اكتشاف لنمط العيش الفرنسي وانغماسا جارفا في الحياة وساعدني على ذلك جموح الشباب وقوة الفضول والرغبة في اكتشاف الآخر ثقافة ولحما ودما».

وبعد عدة سنوات مثمرة رغم مشاق الحياة اليومية وما تستلزمه من كدح ومخاطرة، تمكنت من تطويع اللغة الفرنسية حد خوض مغامرة الكتابة بها وتعرفت عن كثب على شعراء وكتاب فرنسيين وتتوجت تلك الفترة بنشري لقصائد في مجلات أدبية فرنسية ومقالات في الصحف، وكانت الكتابة مباشرة باللغة الفرنسية وليس ترجمة عن العربية نابعا من الرغبة في تجربة الكتابة والتفكير من داخل اللغة الفرنسية. وبالموازاة واصلت القراءة والكتابة بالعربية ناهلا من الجديد الشعري والنثري والفكري العربي في بلدان المهجر والبلدان العربية وساعدني على ذلك وجود شريحة مهمة من المبدعين العرب في باريس. والواقع أن باريس في عقد التسعينيات من القرن الماضي كانت تعيش تقريبا الفترة الأخيرة من توهجها بالحضور الإبداعي العربي وكانت الدائرة الخامسة في باريس، حيث يوجد معهد العالم العربي ومجموعة من المكتبات العربية فضاء للقاء العديد من الكتاب العرب العابرين أو المقيمين في فرنسا أو في بلدان الشتات الأوروبي والأمريكي. لقاءات غنية بفضل تنوع الشعريات العربية واختلاف مشاربها ومآلاتها.

مرت مياهٌ كثيرة تحت هذا الجسر، جسر الهجرة وخيار الإقامة الدائمة في باريس التي تجاوزت ثلاثة عقود، ولا يزال سؤال الكتابة من داخل تجربة الهجرة قائما ومؤرقا بل إنه يزداد حدة وضراوة مع تقدم العمر وتراكم التجارب. انحسر المد الثقافي العربي في باريس مثلما انحسر المد الثقافي الفرنسي بنفسه تحت ضربات العولمة المزلزلة وتراجع الأدب عن مواقعه المتقدمة والطليعية في الحياة الفرنسية. لكن سؤال الهجرة والكتابة ظل حاضرا بقوة ليس فقط لأن الإبحار «في أعماق المجهول للعثور على الجديد» كما كتب شارل بودلير في قصيدة «الرحلة» في ديوانه «أزهار الشر» هو بمثابة قدر شعري، بل أيضا لأن هذا السؤال اختبار جوهري على المستوى الشخصي وكان سببا رئيسيا وراء تأجيل إصداري لأول مجموعة شعرية عن دار «توبقال» المغربية بتشجيع من الشاعر محمد بنيس بعنوان «كلما لمستُ شيئا كسرته» لغاية أواخر عام 2005، أي بعد مرور عقد ونصف من الزمن على إقامتي في الهجرة.

سؤال الهجرة والكتابة كان أيضا محرضا على تخلصي من كل الأشعار التي كتبتها قبل هذا التاريخ لأنها ببساطة لم تكن تعبر عن هواجس مقامي الجديد وأسئلته الحارقة. ولم تكن في مستوى التحديات الأسلوبية والجمالية والفكرية التي يفرضها واقع الهجرة على «نوعية» الكتابة الشعرية التي أطمح لها. ذلك أن الكتابة «المهجرية» قد تسقط بسهولة في فخاخ الحنين المفبرك والنبرة المتباكية على الماضي وأطلاله. والواقع أن هذا الديوان بمجمله «شهادة نزقة» عن الهجرة وجغرافيتها الملتبسة في مقابل التاريخ وسلاسل موروثه وهنا نموذج من قصيدة الديوان الافتتاحية وعنوانها «دروس باريسية» وتبدأ كالتالي:

«ماذا لو كانت هجراتنا مجرد أعذار؟

ماذا لو كنّا في الواقع مجرد شخصياتٍ ثانوية

لا تتحمل أدنى حبكة؟

نرقص. نحب. نخون. نمسكُ الأعمار من الوسط وننصبُ الكمائن: الجغرافيا بدل التاريخ.

وفجأة نجد أنفسنا مكبلين بالسلاسل».

أن تكون كاتبا مهاجرا فهذا يعني أنك على استعداد تام لقبول ما تفرضه أو تقترحه عليك منعرجات الحياة ومسالكها الوعرة. فقد يُتاح للمرء أن يعيش في بحبوحةِ «أيام في الجنة» وهو عنوان لرواية فذة عن عوالم الهجرة في لندن للكاتبة العمانية غالية آل سعيد أو يكتوي بنار «فصل من الجحيم» وهو عنوان حارق لديوان الشاعر الفرنسي آرثور رامبو. تُضاف إلى هذين الفصلين فصول أخرى فيها خليط من المتناقضات بين البهجة واليأس، الخير والشر، الراحة والعذاب، القلق والسكينة إلخ... وفي هذا الفصل «المهجري» الجديد يعيش المبدع في خضم إيقاع تسليعي ضار ومتوحش يتقادم فيه الجديد بسرعة البرق ويكتسب فيه القديم قوة الحنين. سيتألم الشاعر بلغته العربية ويحاول جاهدا التواصل مع عالم جديد بلغة أخرى لا ألفة لها ولا معرفة بندوبه السرية الضاربة في القِدم. عندئذ يبدو الانتقال من جغرافية لأخرى مثل رحلة «عوليسية» تقوده بلا هوادة إلى ندوب ذلك الجرح الشخصي الذي قال عنه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز: «جرحي كان يوجد قبْلي وأنا وُلِدتُ لتجسيده».

أحيانا لا مناص من الصراخ مثلما فعل الشاعر السوري نوري الجراح، الذي كان من أول الداعين للالتفات إلى تجارب الشعراء العرب في أوروبا وتناوُلِ خصوصياتها، حين تساءل بحدة: «ماذا نفعل في أوروبا في مدينة لا جبل فيها، وتحت سماء كالحة وواطئة. ماذا نفعل، ماذا نفعل، غير أن نستيقظ ونتحرك وننام، غير أن ننام ونحلم أننا في الجبل، وأننا ننظر جهة الصيف... ماذا نفعل في أوروبا، أي قدر حملنا على الثأر من أعمارنا بهذه الطريقة، أي انتقام من الذات أن نـزحف على هذه «الأوروبا» المترعة بالظلمة...».

تبدو تساؤلات الجراح نوعا من التقييم الغاضب والمشروع لمسار وصيرورة المبدع المهاجر الذي يعود في مرحلة ما من حياته، مكرها أو مختارا، إلى أعماق نفسه وكينونته السحيقة وملاذه الداخلي. إنه «موسم الهجرة» العكسية إلى جنوب الروح وتضاريسها. ذلك أن «الداخل هو ملاذ الفن» كما كتب فالتر بنيامين راصدا التحولات الكبرى التي رافقت تطور المجتمع الصناعي في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. والداخل بالنسبة للمهاجر عالم آخر غير مقيد بالمكان أو الزمان بقدر ما هو مؤثث بالأحلام المجهضة وبالركض نحو نقاط غير محددة، وأحيانا هلامية، في الوجود.

الملاذ الداخلي هو أيضا جواب المبدع المهاجر على قسوة التجاهل الذي قد يعاني منه في مجتمع غريب يلفظه لأسباب شتى أهمهما العنصرية ورفض الآخر. وهو تجاهل أكثر ضراوة من ذلك الذي اختبره في الموطن الأصلي. وإذا بالشاعر ينتقل من الهامش الأصلي إلى هامش جديد ينتمي فيه إلى أقلية محكوم عليها برفع راية المقاومة، ولهذا فإن الكتابة عن المواضيع الأكثر حساسية والنبش المستفز في قاع الذات وتناقضاتها الفادحة والجرأة في المقاربة قد يكون رد فعل مناسب على التجاهل والازدراء وإقرارا لا يدع مجالا للشك بأنه كائن شقي أينما حل وارتحل وبغض النظر عن الرقعة الجغرافية أو المجتمعية التي يعيش فيها. وهذا ما كتبه الشاعر العماني سيف الرحبي في نصه «الطريق إلى الربع الخالي» المنشور في كتابه «حياة على عجل»: «يصل المترحل إلى نوع من الوضوح الكاسر، ذاك الذي يحمل شفافية اليأس وقوة انكسار الأمل: لم يعد للتجوال في خرائط الجغرافيا حلم كشف وإشراق لا للرحيل ولا للعودة لا للوطن ولا للمنفى. تهشمت في مخيلته ووجدانه هذه الثنائيات لتحل محلها خريطة متناقضات داخلية متموجة بجمال وقسوة خاصين. هذه الخريطة، بستان الداخل، هي التي يحاول تعهدها بالسقي والرعاية عبر خيارات جمالية يرتئيها. في هذه الحالة تتحول خرائط الخارج بسراباتها وحقائقها إن وجدت، إلى امتداد لبستان الداخل وحقائقه التي ربما تتجلى ولو كإشراقات عابرة كنوع من تسوية ممكنة مع وجود صعب وعمر هارب».

هذا البحث المضني عن «تسوية ممكنة مع وجود صعب وعمر هارب» عبر «كتابة كاسر» تجعلنا نرى بالأحرى في الكاتب المهاجر صورة «متسكع وجودي» بالمعنى الذي نحته الناقد الألماني فالتر بنيامين في معرض دراسته لقصائد الشاعر الفرنسي شارل بودلير ورسمها لفضاء المدينة المتشظي: «مع بودلير أصبحت باريس لأول مرة موضوعا للشعر الغنائي. وهذا الشعر ليس فولكلورا محليا بل إن نظرة صانع المجاز التي تسقط على المدينة هي بالأحرى نظرة إنسان مستلب. إنها نظرة المتسكع الذي ما زال نمط حياته يضفي رونقا تصالحيا على البؤس المتزايد للبشر في المدينة الكبيرة. كان المتسكع لا يزال يقف على الهامش، هامش المدينة الكبيرة وهامش الطبقة البورجوازية، لم تجرفه أيهما بعد ولم يكن في داره في أي منهما. فأخذ يبحث عن ملاذه في الزحام».

كنت دائما وما أزال مفتونا ببودلير أكثر من غيره من الشعراء الفرنسيين العظام لأن غربته في باريس واغترابه الوجودي وإبداعه لقصيدة النثر هي دروس ثمينة لأي كاتب مهاجر في مدن الغرب الموحشة. ولهذا كان حضوره قويا في قصائد ديواني الأول مثلما هو الحال في قصيدة «فرنسا وشركاؤها» ومنها هذا المقطع:

« في أكياسنا البلاستيكية

عقائدُ صغيرة

وتبغٌ للف السجائر

الجوُّ رائعٌ في جسدكِ

ذقوننا حليقةٌ

ونوايانا في غاية الخلاعة

شارل بودلير أقربُ إلينا من أبي تمّام

نتقيأ المستقبل كل صباح

التقَدُّمُ يحمل وِزْرَنا بحروف بارزةٍ

يخذلنا الكحول والشِّعر أكثر فأكثر»

هذا المتسكع الوجودي الذي يجسده بودلير قد يكون أيضا هو ذلك التائه الذي رسم صورته رائد الكتابة «المهجرية» جبران خليل جبران في كتابه «التائه» وهو المهاجر الزئبقي في مفترق الطرق، «رجل معدم لا يملك سوى ثوبه وعكازه وتعلو محياه مسحة ألم عميق». على أيٍّ لا حل في الأفق وليس هناك مفاتيح جاهزة والشاعر، وهو على محك الهجرة، يقتات من الذاكرة والموروث وإحباطات وأحلام الماضي مثلما يقتات من حاضره الجديد ووعوده الغامضة.

بعد الديوان الأول مرت السنوات بسرعة البرق، ذلك أن إحساس المهاجر في بلد الإقامة بالزمن إحساس حاد وقاهر ومغاير تماما للإحساس به في الموطن الأصلي. وعشت سنوات طويلة مبتعدا عن الكتابة الشعرية وإن بقيت متابعا للشعر كقارئ. بل إنني اقتنعت في فترة ما بأنني سأنضم إلى غير رجعة إلى «نادي شعراء الديوان الواحد» والأوحد خاصة وأنني كنت أشعر بأنني استنفذت تماما ما كنت أتوق إلى التعبير عنه وأن تجربتي الشعرية على قِصرها بلغت أقصى ما يمكن الوصول إليه من خلال قصائد «كلما لمستُ شيئا كسرته». لكن شيطان الشعر وملائكته لم يختفوا نهائيا من مرمى النظر وعدت للكتابة بالتدريج ونشرت ديواني الأخير «سيركُ الحبّ» هذا العام عن منشورات «أوكسيجين» بقصائد حضرت فيها الهجرة وفضاءاتها بنَفَسٍ جديد وربما باستنتاجات أكثر مرارة وحِدَّةً وسخرية كما قد يظهر ذلك في القصيدة التي تحمل عنوان الديوان وهنا مقطع منها:

«حتى لو تعلمتَ أصول الأُنس وأتقنت عدة لغات

ستعبر عن نفسك بإشارات يائسة

بفم مُهدّم يعجز عن الكلام

حتى لو عشتَ أعواما في الحدائق

بين الأشجار والحمام

ستتمرغ مثل أحدب في بحيرة بذيئة لم تتوقعها حتى في أحلام الحُسّاد والمُنجّمين

ولن يغفر لك أحدٌ ذلك التاريخ الطويل في سيرك الحب

بعد أن انكسرت رِجلك بالصدفة فوق الحِبال.

نعم نعم لن تغفر لك الحياة

أدنى هفوة

أيها البهلوان

حتى لو شبعتَ حدَّ التخمة

ستجوع يا صديقي

وتنهار

وستجرب الذل

ذات يوم مثل فتى عاشق في مقتبل العشرين».

عبدالإله الصالحي شاعر مغربي مقيم في باريس