عمان الثقافي

عن الشذرة بوصفها قالبا اكسر كل شيء وابدأ من جديد

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

ترجمة: أحمد شافعي -

لعل شيئا انكسر، لكن ألم يدخل بذلك، تقنيًّا، في وجود ذي شكل مختلف؟

*

تخيلوا نجمة بحر تتشذَّر، فيفصل أحد أطرافها نفسه عنها، فإذا بجوهرها الوراثي المضمر فيه قادر الآن، إذ انفصل عن الجسد، أن يصبح جسدا جديدا.

التشذر: شكل من التكاثر.

فهل أقصد، بهذا، أن أصف كتابتي؟

لا أعرف.

لكنني أستعمل كلمة «التشذير» على أي حال، لا لأنها مصطلح بديهي واضح في ذاته، وإنما لأنني أعتقد أنه وسيلة ناجعة، وأنكم تعرفون به ما أعنيه.

«التشذير».

كلمة كالشعار.

شكل من التسويق.

نقيض الأدب الذي شرعت في إبداعه.

كل ما أخشاه هو أن تكون هذه، أي اللحظة التي أحاول فيها أن أصف كتابتي، هي اللحظة التي لا أعود فيها كاتبة، اللحظة التي أبدأ فيها التعامل مع الكتابة باعتبارها أمرا مسلما به.

ابني، البالغ من العمر ثمانية أشهر، في المرحلة التي يهمهم فيها فيصادف المعنى.

ذلك هو الفارق بين قول «ماما» والإشارة إلى الكلب مع قول «ماما» ومده ذراعيه نحوي.

ما أروع قول شيء للمرة الأولى تماما. ثم قول ما تعني قوله حقا. خاصة حينما يكون البديل هو ألا تقول أي شيء بالمرة.

من مقالة ليديا ديفيس،»القالب بوصفه استجابة للشك»:

«يمكن النظر إلى العمل العمدي في قالب الشذرة باعتباره توقفا، أو ما يبدو توقفا بالعمل وهو أقرب ما يكون، في ثنايا كتابته، مما قد يطلق عليه بلانشو أصل الكتابة، أي المركز لا المجال. وقد يرى باعتباره تكاملا شكليا، تكاملا في الشكل نفسه، في السؤال عن عملية الكتابة.

قد ترى استجابة لمشكلة فلسفية هي مشكلة رؤية الشيء المكتوب وقد حل محل موضوع الكتابة. لو أننا فقط قبضنا على نزر من موضوعنا، حتى لو قبضا سيئا، أخرق، غير متماسك، أو لو أننا فقط لم نخربه. لقد كتبنا عنه، كتبناه، أتحنا له العيش في الوقت نفسه، أتحنا له العيش في محذوفاتنا، في سكوتنا».

في ما يلي صورة لعملي المنقَّح، كل جملة فيه، منفردة بسطر لها، بل كل جزء من جملة.

مئة بداية كاذبة، ثم، هذا:

سمعت وصفا للكتابة بأنها التفكير على الورق.

وهذا ما فعلته حقا، للمرة الأولى.

هذا هو شكل أفكاري بأمانة.

حتى عدم التفكير، حين توقف التفكير، وحيثه.

لم يكن عليّ أن أقف قبالة جمهور لأرى عيوب الكتابة، جميع افتراضاتها وانحيازاتها وتناقضاتها تعرَّت.

كانت أول مرة أكتب فيها وأنا على يقين من صدقي.

استلهمت هذا القالب، أو لعل الأحرى بي أن أقول هذه الاستراتيجية، جزئيا من «عدة جمل قصيرة عن الكتابة» لفيرلين كلينكنبورج، وقد كتبه أيضا مفرِدا لكل جملة سطرها.

يكتب:

«ما لا تعرفه عن الكتابة هو أيضا لون من المعرفة، وإن يكن أصعب منالا.

حاولْ أن تميز الذي لا تعرفه ولماذا لا تعرفه، وحينما تقع عينك على جهلك

لا تخشه أو تتحرج منه. اعترف به».

فما لا تعرفه، والسبب في أنك لا تعرفه، معلومات أيضا. على الأرجح، كان تكنيك البحث عند كلينكنبورج مستوحى من رواية عشيقة فتنجشتين البديعة ما بعد الحداثية لديفيد ماركسن المكتوبة أيضا بحيث تنفرد كل جملة بسطرها. إليكم مقطعا، برعاية من ديفيد فوستر والاس، وفيه تفحص الراوية كاتي، التي تعد نفسها آخر الأحياء، لوحة:

«ما من أحد في الشباك في لوحة البيت، على فكرة.

أنتهي الآن إلى أن من حسبته شخصا إن هو إلا ظل.

ولو أنه ليس ظلا فلعله ستارة.

وواقع الأمر أنه قد لا يعدو فعليا أكثر من محاولة للإيحاء بأعماق داخل الغرفة.

ولو أن كل ما في الشباك حقا، إن جاز القول، صبغة محروقة. وشيء من صلصال أصفر.

وواقع الأمر أنه ما من شباك أيضا، وإن جاز القول الأول جاز هذا، وإنما محض شكل.

إلا بالطبع إن اقتنعت أنا، من جديد، بأن في الشباك شخصا.

لقد أسأت قول هذا».

هو ضرب من التجرد، تتخفف مما تحسب أنها تعرفه إلى أن تصبح اللغة حجر عثرة، وإلى ألا يبقى من الظل إلى شكل.

يحلو لي أن أتصور اللغة حاوية، تمنح السائل شكلا، وعاء تتشكل من خلاله أعيننا وأصواتنا بحيث تقود تفكيرنا في طريق رجوعه.

يحلو لي أن أرى اللغة بالوعة جليلة.

يحلو لي أن أفكر في النص والصفحة بوصفهما نقشا: نتوء سطح وغور الآخر.

كتابة قصة هي أيضا عدم كتابة أخرى.

غياب سامح.

الوجود.

(لون من الوجود)

يحلو لي أن أتصور القصة جدولا زمنيا.

بضعة مواقف برزت لتؤكد نفسها بصفها حقائق تاريخية قطعية، وإن علمنا تمام العلم، أن التاريخ لا يعدو لونا من السيرة الذاتية.

اليوم يبدأ جدولنا الزمني، أو بالأحرى جدولي أنا، بسافو، في سنة 610 ق. م. وقصائدها بعيدة الاحتمال.

هي شاعرة، سحاقية من خارج النظام البطريكي، ناظرة إلى داخله، عملها انتصار على الزمن، أي زمانها، عملها الذي سيفنيه الزمن، عملها الذي سيضيع جله تقريبا، فلم يبق من رقٍّ لها غير هذه المزقة

هذه الصورة لقصيدة تيثونوس لسافو، أو لجزء منها، حسبما تم العثور عليها في إحدى ثلاث حفريات أثرية متمايزة.

يقول الباحثون إن القصيدة الآن شبه مكتملة، وحالة شبه الاكتمال صدى مثالي لمضمون القصيدة، أي قصة تيثونوس الذي أوتي الخلود دون الشباب الأبدي، فظل يشيخ ويشيخ، حتى بلي وهو يتكلم ويتكلم، رتيبا برغم البلى.

ها هنا جزء من ترجمة آن كارسن لتأمل سافو «ويستمر الإيقاع»

«لا إنسان بلا شيخوخة.

وهاكم قصة تيثونوس، الذي أحبته إلهة الفجر ذات الذراعين الورديتين

وحملته حتى آخر الأرض

حينما كان جميلا وشابا.

وحتى حينما تمكنت منه الشيخوخة الشيباء

بقيت له زوجته الخالدة».

الجزء الذي لا تحكيه سافو من القصة، الرحمة التي تتملك زيوس فيحيل تيثونوس إلى جندب، يئز طيلة الليل.

أو لعلها حكت ذلك الجزء من القصة لكنه ضاع مع ما ضاع من الرق الذي اختفى.

والرق متوسط عمره ثلاثون عاما.

والحبر يعجل بتلف الورق.

فالكلمات، حرفيا، تأكل أنفسها.

ولو وضعت في مكبِّ النفايات قطعة الورق التي سوَّدت عليها هذه المقالة فسوف تتحلل حتى يتعذر إدراكها في ما بين ثلاثة أسابيع وستة.

بعد ألف سنة من سافو، كتبت ساي شوناجون مقالتها المنظومة في «كتاب الوسادة»

«ها هي قائمة الأشياء التي فقدت قوتها:

قارب ضخم مرتفع وجاف في جدول بعيد عن المد والجزر.

امرأة نزعت خصلها المستعارة لتصفف ما بقي لها من شعر قصير.

شجرة هائلة أسقطتها عاصفة فانطرحت وجذورها في الهواء.

جسد مصارع سومو يتراجع إثر هزيمة في مباراة.

رجل بلا قيمة يوبخ خادمه.

شيخ يخلع قبعته، كاشفا هزال رأسه.

امرأة، غاضبة من زوجها بسبب أمر تافه، تترك البيت وتذهب لتختبئ في مكان ما. موقنة أنه سوف يسارع بالبحث عنها، فلا يفعل شيئا من ذلك، ولا يبدي غير لامبالاة مثيرة للغضب. ولأنها لا تستطيع أن تبقى بعيدة إلى الأبد فإنها تبلع كبرياءها وترجع».

قالب القائمة، ابن عم لـ»الشذرة»، مجموعة منفصلة من الأشياء لا يجمع بينها غير الصفحة التي تظهر عليها، أو العنوان الذي يسبقها ومن ثم ينتظمها.

القائمة أشبه بجسد مؤلف من أجزاء، حاوية للروح.

لكن ما الروح؟

سؤال مستحيل!

برغم أن قالب القائمة ربما يمنحنا مفتاحا، فموادها إذ استخلصت من فوضى الكل أوتيت جماهير الجزئيات، والروح التي تربط النسيج تراكم كُلًّا جديدا، هو اللاشيء الذي يجعل الشخص أجدر من مجموع أجزائه (ونعم، أدرك أن هذه أيضا صيغة الربح الرأسمالي).

*

اريد أن أتمهل مع صورة شونجون الأخيرة، عن المرأة عديمة القوة إذ رجعت إلى زوجها، تلك الصورة الجامعة البالعة لما عداها.

كل مرة أقرأ فيها هذا السطر الأخير، يكرهني على أن أعيد قراءة القائمة من البداية، في دائرة متكررة، المرأة عديمة القوة تعيد إنجاب أسلافها، طاوية كل حالات القوة الخائرة في قصتها الدالة.

هذه خلاصة لما تقدر عليه صورة.

لأن الصورة مطية يصبح بها كل فنان أُمًّا، غير شبيه بإله وإنما شبيه برحم يخلق العالم ثم يسكنه، فإن أهمية إعادة ترتيب الذات بحيث تتلاءم مع احتياجات إبداعها -الكاتب، وقد بات أُمًّا، ومصيره الهرم- في تفاعل جندري يكمن في قلب القالب الشذري، ولا أقول بذلك على الإطلاق إن القالب أنثوي أو جنسي، لكنه بطبيعته مبهم، قالب يلعب بذاته.

كمثل الكاتب إذ يلعب بالمضمون والشكل.

ثمة طرق كثيرة للغاية تكون عليها الذات.

ولكن، مثلما تعلم أي أمٍّ وأي صانع، ثمة بالمثل طرق كثيرة للغاية تموت بها الذات، من أجل أن تولد، لا بأن يواجه المرء على الأقل إمكانية الموت، وتحديدا موته هو، ثم موت ابنه.

*

وهكذا بعد سبعمئة سنة من شوناجون، وعلى بعد نصف عالم، استكشف الفرنسي ستيفان مالارميه المعروف بالصاهر لمزجه الشعر والأدب، استكشف العلاقة بين المضمون والشكل، والحياة والموت، وترتيب اللغة وفضاء الصفحة.

قصيدته «مقبرة لأناتول» نشرت سنة 1961، بعد ثلاث وستين سنة من وفاة كاتبها.

تتألف من 212 نصا في قصيدة ملحمية منقوصة كتبت بعد فقدانه ابنه ذا السنوات الثماني

1

طفل بازغ من كلينا

عارضا علينا مثالنا، مثلما

لنا! أبٌ

وأمٌّ موجودان من أسف

باقيان من بعده

نقيضان

سيِّئا الاجتماع فيه

ومنقطعان

مذ موته ـ حَـ

ـطَّم هذه «الذات» الطفلة.

2

أفضل

كأنه (حينما)

كان لم يزل –

مهما كانا

ذوي نعوت

جديرة ـ إلخ

الساعات التي فيها

كنتَ

ولم تكن.

3

مريضا

في الربيع

ميتا في الخريف

هي الشمس

ـــــــــــــــــــــــ

الموجة

فكرة السعال

«شذرية أو منقوصة»، تصف ليديا ديفيس إبهام هذه القوالب بأنه «تعبير الحزن الأكثر مصداقية».

وإنني أميل إلى أن أوافق، فأتساءل ما ذلك الذي يمنح شيئا «المصداقية».

وأفكر في تعبير عن حياتنا كلُّنا مستعدون لتصديقه مرغمين: الزمن.

*

أفكر في الكتابات الكئيبة على الساعات الشمسية، ومنها: Sine sole sileo.

دونما الشمس أصمت.

استحالة وصف شيء لم يعد له وجود.

*

أفكر في ما قالته آني إرنو أخيرا في باريس رفيو: بالنسبة لها «الكلمات التي توضع على الورق لاصطياد أفكار أي لحظة أو أحاسيسها، هذه الكلمات غير قابلة للرجوع، كالزمن، هي الزمن نفسه».

*

أفكر في حوارٍ دار يوما بيني وبين أستاذتي ومرشدتي سارة مانجوسو حينما سألتها إن كان لإيجازها وقالبها أي علاقة بالعدل الاجتماعي.

ففي جزم أجابت أن نعم، ثم أشارت إلى الزمن.

ثم إلى حتمية الموت.

قالت شيئا من قبيل:

قد تكون هذه آخر جملة أكتبها.

قد تكون هذه آخر جملة تقرأينها.

فكيف يتعامل الكاتب مع الزمن؟

يتوق إلى قدرته، حريتنا.

ثم يعترف بقيده.

فلنتأمل زمن من هم أشد تقيدا بالزمن.

فلنتأمل زمن المنفيّ، وزمن السجين، وزمن كبش الفداء، وزمن الأم، وزمن المستهلك، وزمن المقهور.

*

لنبدأ بزمن المنفي، زمن إدموند جابيس، اليهودي المصري المنفي في باريس إذ تساءل ما المقاومة.

تساءل في كتابه الفارق «ما الدمار؟»

«الدمار هو لحظة الكتابة ذاتها: لحظة الموت ذاتها».

«لو أن الكلمة تنير، فالصمت لا يحجب: إنه يبعث».

«اللاشيء، مكانُ منفانا الأبدي، منفى المكان».

ربما لكي نتحرر، لا بد أن نتسامى.

وأن نقاوم أي أن نسمح بوجود اللاشيء، أيضا.

*

لنتأمل زمن كبش الفداء، زمن آن كوين، اليهودية البريطانية التي قتلت نفسها سنة 1973، وهي في السابعة والثلاثين، بالمشي في البحر.

[ما خير وسيلة للتمثيل؟ نص (الإسهام النصي التام) أم صورة (إظهارا للشكل)؟]

«...البحر خط رهيف. توق

إلى المطر...»

في مقدمة كتاب مقاطع الذي يظهر فيه هذا السطر المشحون، تصف كلير لويس بينيس قالب عمل كوين بالتشذر، الذي تصف خصائصه من بعد: «قالبها يعكس الحياة اليومية، المضطربة العشوائية، المتشذرة الخارجة عن السيطرة».

أحب أن أفكر في «التشذير» على ذلك النحو، كأنما أفكر في الحياة، وكأنه من ثم وصول دائم إلى المجاوز.

ما أشجع أن نسمح لرسوخ كل وجود بأن يشي بلامحدودية الغياب، وأن نكتب نشدانًا للحقيقي المتراجع إلى ما لا نهاية.

دفينة في كتالوجات مقاطع هذه المواجهة المباشرة بين كوين والقالب، شأن اعترافها بالعبثي.

«العبثي القالب

الأصل. الأصم الشكلي

الأبكم الفورمالديهايد

جغرافيا-أرض+ميترون تنميل

القياس تنميل

الكتابة عن الأرض ضيق هائل»

ربما لكي نقتنص الواقع، لا مفر من التقيد بالعبثي والباعث على الضيق.

*

لنتأمل زمن السجين، زمن ريجينولد دواين بيتس من مقالته في مجلة يال القانونية سنة 2016، وعنوانها «مرة واحدة فقط فكرت في الانتحار»، ويحكي فيها عن الوقت الذي قضاه في الحبس الانفرادي:

«لكن قبل أن يتسنى لي الكلام، دفعني إلى جدار حجري. وثّق يدي. جرَّني إلى زنزانة في القبو لاعتدائي على ضابط. زجّوا بي في زنزانة ذات باب شديد السمك لا ينفذ منه صوت. كان عمري ستة عشر عاما. كلَّ صباح كانوا يسحبون الحشية مني لكي لا أستطيع النوم نهارا. كيف أشرح هذا؟ كل يوم كنت أفقد قليلا مما يجعلني راغبا في الحرية. لم أحك هذه القصة قط. تلك كانت أطول الأيام في فترة سجني. في عصر يوم، وفي نوبة ذعر، ضربت يمناي بعنف في الجدار. كست خنصري. فكرة في الانتحار. وكدت أختفي».

يسلط وصف بيتس الضوء على الجوانب المكانية للعقاب المقصود بها قمع الكلام بوصفه البديل المعهود للوجود: «قبل أن يتسنى لي الكلام، دفعني إلى جدار حجري»، «باب شديد السمك لا ينفذ منه صوت»، «كدت أختفي».

بدلا من هذا، وبرغم هذا، صمد، احتمل من يوم إلى يوم حتى إطلاق سراحه، وشق طريقه حتى التحق بكلية القانون وحصل على شهادة من يال سنة 2016، وهي السنة التي نشرت فيها مجلة الكلية المرموقة مقالته التي تظهر مختلفة الشكل عن المقالات الأكاديمية التقليدية المحيطة بها.

مكتوبة في ستة أقسام وفي فقرات متفاوتة الأطوال لا تكاد تربطها روابط واضحة في أكثر الأحيان، فيشكل قالب بيتس اضطرب حالة حرية الكلام، و»تشذيره» رفض للإسهاب ونقل للقيود المادية إلى المجال النظري الذي ينشئها لتتحدى سلطته المؤسسية.

*

لنتأمل زمن الأم، زمن راشيل زاكر، من كتابها الآلة السليمة، عديم النوع، المؤلف في غرفة نوم ابنها وفي ثنايا نومه:

«وجودي يجعل منها غرفة-ذات-أمٍّ يمكن النوم فيها.

الغرفة تعانيني لكنها لا تحملني على المعاناة. غالبا.

لا سجينة بالضبط. لا عنبرا بالضبط. أمّ.

أتعلم من خوفه.

في التهدئة أقضي وقتي.

للتهدئة: أي نسخة غريبة من الالتزام، خصوبة الأم تتنحى مفسحة المجال لنسخة جدباء من الزمن لا يتوقف حسابه ولا يثمر شيئا».

وهكذا الأم التي تكون، شأن زاكر، كاتبة، ترثي أنها لبعض الوقت لا تكون كاتبة وإنما هي شخص وقته ملك من يعتمد عليه.

«كتابة النثر تقتضي إغلاق العالم»، وذلك مستحيل لأم.

إغلاق العالم هو الإمساك عن الرعاية هو انهيار العالم ثم التوقف عن الوجود.

تنظر زاكر إلى كتاب النثر الذكور غزيري الإنتاج لتتمثل بهم.

يفترض أن جوناثان فرانزن كتب رواية التصحيحات معصوب العينين في قبو بيته. أم كان ذلك ديفيد فوستر والاس في الفتاة ذات الشعر الفضولي؟

قال جيم جالفن إن «كتابة النثر ما هي إلا نقر لوحة المفاتيح». قال ذلك مباشرة بعد أن أخبرته كم أعجبني كتابه المرج.

يرى هؤلاء الرجال أن الأمر ليس بعظيم، كأنهم يقولون إن الكتابة بسيطة، لا تعدو سكنى الإبداع منعدم الزمن.

مفارقة، أليس كذلك؟

وحدها الأم من تعرف معنى هذا، انعدام الزمن الذي تآمرت معه لجلب طفل إلى الوجود والذي يجب عليها طوال الوقت أن تكافح وجوده.

هكذا الام الكاتبة مثل زاكر، تكتب في كرسي هزاز، في غرفة طفل معتمة، في دفتر أو بيد واحدة على هاتف، تسرق الوقت والتركيز، جملة واحدة في كل مرة، عارفة طوال الوقت أنه ما من سوق لما تكتبه، وأنه لن يسهم في دفع الفواتير أو مصاريف الكلية، وأن كتاباتها غير المصنفة محض نداء يائس من العتمة موجه إلى مزيد من عتمة أشد.

*

لنتأمل وقت العامل، مع التطبيق على المسيرة الإنتاجية للساعة، كما في تغريدة للشاعر تشين تشين: «لا أكف عن التفكير في رد آن بوير على سؤال في حوار عن أكبر عقبة أمام ممارستها للكتابة».

ردها: «الرأسمالية، المستمرة في التهام العالم الحي الذي نحتاج إليه وطنا لنا واستهلاك ساعات الحياة من كل شخص ليتربح القلة، تضع الناس في مواجهة بعضهم بعضا لمحض الحفاظ على الحياة والضغط بأشكال القمع الجندرية العنصرية. ما من كتابة بلا زمن، بلا هواء نتنفسه ومياه صالحة للشرب، وبلا جسد وأرض يدعمان الحياة، وأحدهما الآخر».

فما الذي تفعله بوير الشاعرة والأم والعاملة حيال هذه العقبة؟

وما الذي نفعله؟

يبدو أن رد بوير يكمن في مجال الرفض، المتاح للكاتبة شكليا في الفضاء السلبي. في مقالة «لا» لبوير:

«عدم قول شيء طريقة أولية لقول لا. ممارسة اللاكلام هي ممارسة الصلابة، ويزداد ذلك في الزحام. كتب شيشرو ’إنهم في صمت يصخبون’، وكان على حق: وحده الفم الصاخب يتوهم الصمت قبولا. والصمت في الغالب تآمر كما أنه رضا. وإن غرفة فيها أحياء من الناس لا يقولون شيئا، ويحملقون في شخص ذي سلطان لهو صمت ناشئ نشوء قولة لا وليدة».

ومع ذلك لا بد من أن نعمل نحن المجموع، ونحن دائمو العمل، أو الاندراج في مسكنات الاستهلاك، تدور دورة أيامنا في دوائر مثل عقارب الساعة التي لم نعد نعرف كيف نفسرها لأنها تستغرق وقتا طويلا ليس لدينا، وذلك شيء آخر مما ليس لدينا، لكننا نقترضه فنصبح مدينين له، إذ نستدين ضد حياتنا، من أجل المدرسة والسكن والترفيه فتتحول أثمن لحظاتنا إلى ألعاب وسلع في ألبومات الصور التي تبدو أقرب إلى المراكز التجارية لأن تلك اللحظة التي تشعرنا بالاكتفاء شحبت بالمقارنة مع الفراغ ومع ذلك نصر إلا في هذه اللحظات التي تتوافر لنا فيها العزيمة لقول لا فلا يبقى لنا من وقت يذكر لأنفسنا.

*

وأخيرا، لنتأمل وقت مسلوبي القوة والوقت روتينيا، الذين يندر أن يستردوهما، وقت المقهوين منهجيا، وقت الطيار المحتال لجيمس هاناهام، وهو كتاب يستعمل قالب الشاعر الكولونيالي البرتغالي فرناندو بيسوا ليطرح مزيدا من الإمكانيات.

إليكم قسما كاملا منه، عديم الجنس، عنوانه «السلسلة الغذائية»:

«يظل العلم يكتشف أن أشياء سبق الظن بعدم امتلاكها وعيا كبيرا أو قدرة على التفكير إنما هي تكملهما. دونما نظام محدد: الغربان، وزهور عباد الشمس، والسود من بني آدم. يفترض العلماء أن أشياءهم لا يمكن أن تعرف، أو تشعر، و تفسر العالم، أو تفهم أنها يوما ما سوف تموت. هذا افتراض يدفع الراتب البشري، ويتيح لنا أن نأكل، ونعذِّب، ونتربح من أي كيان نعده أقل منا وعيا.

بدأ البرتغاليون تجارة العبيد الأطلنطية في مستهل القرن الخامس عشر، وفي مرحلة تالية، بدأ تبرير تلك الممارسة بتحيز عرقي ضد أفارقة ما دون الصحراء مشهر بالفعل في وجه أي شخص.

بعد خمسمئة سنة، تحتج نباتية، وملء فمها المفغور خضراوات. أليس هذا مقبولا؟ هل السلاطة لها إحساس؟»

إنه ينهي بنكتة، أو ما أحسب على الأقل أنه نكتة، فقد ضحكت، لكنها ضحكة صغيرة، وبيني وبين نفسي فقط.

قلبت الصفحة.

صورة للعقل.

ثلاث صور لبلاط برتغالي.

قلبت الصفحة.

قسم عن «الإبصار والتفكير» يحول النكتة المحتملة إلى عدوان شخصي أكيد إذ يناصر هاناهام السلاطة التي تناصره لأنه ليس في هذا تجريب تفكيري افتراضي وإنما العكس.

أقلب الصفحة.

مزيد من البلاط.

صورة أخرى للعقل.

أتساءل عند أي مرحلة تفقد النكتة المحتملة طرافتها؟

هل فكر أحد في سلاسة النقلة إلى التفكير اللاحق الذي رأى في ضحكتي قسوة؟

في الغرفة الخرقاء لضحكتي المتلاشية أجد نفسي مدينة لقالب هاناهام المفتوح الذي أتاح لي التمهل أمام نكتة هي دائما شرخ في السطح الرقيق الذي يعني ما نقوله، الكشف، الحقيقة و/أو العار.

من المؤكد أن لقالب الشذرة، أو مهما يكن اسمه، منتقديه.

لنتأمل هؤلاء أيضا.

إليكم ابتداء تغريدة لجويس كارول أوتس:

«غريب بعد عمر من قراءة روايات عظيمة عن الطموح والجوهر والاختيار (لدوستويفسكي، ووولف، وجويس، وفوكنر) وتجد الآن الثناء والمديح يكال لقشور ضئيلة واهية من «القص الذاتي» auto fiction تتسع الفراغات في ما بين فقراتها ليبدو الكتاب أطول...»

لعلها على حق.

هاكم هذا الجزء الضئيل من تفكير لورين أولر في روايتها القصية الذاتية auto-fictional مسارد زائفة حيث تنصت راويتها مجهلة الاسم إلى بودكاست لمقابلة أدبية (يشاع أنها إشارة إلى بين غلافين لديفيد نايمن حينما حاور الروائية جيني أوفيل عن كتابها الشذري قسم التكهنات):

«قالت الكاتبة إنها تظن أن إنجاب أطفال أسهم في شكل كتبها وأسلوبها، إذ كتبت في لحظات مسروقة، ومقاطع قصيرة بالضرورة، بسيطة، وعبارات أفوريزمية aphoristic ، فكانت أقرب في بعض المواضع إلى المقال منها إلى الرواية. أشار المحاور إلى نساء كثيرات الآن يكتبن كتبا شذرية كهذه. بقراءتي العديد منها، لأنها يسيرة الإكمال، لم أملك إلا أن أعترض: هذا الأسلوب الشائع ميلودرامي، ويوحي بوجود أضخم المعاني حيث لا يوجد غير نثر أجوف، وفي محاولته لتصوير العالم بوصفه سلسلة من الأفكار المتمايزة واضحة الأشكال، يتصادم مع حقيقة العالم. وكان عليّ أن أفترض بصفه خاصة أنه حينما يكون لديك طفل، وهذه تجربة هادفة (هدفها ألا تتركيه يموت) لكنها أيضا فوضوية (لأنه قد يموت). ولما كان المحاور والكاتبة قد اتفقا على أن في هذا الأسلوب شيئا أنثويا، شعرت بالذنب لأنني أقر بذلك، لكنني لم أجد خيارا آخر: لم أحب ذلك الأسلوب».

تجدر الإشارة إلى أن راوية أويلر تقصر نقدها على مجال الذائقة كأساس لرأيها الذي يسعى برغم ذلك إلى التقليل من مساحات شاسعة من النثر عبر تعميمات كاسحة سيئة النية.

(لا أعتزم أن أمنح الكثير من الوقت أو القيمة لهذه الآراء القاسية)

لكنني أعترف لأويلر بأنها من أعظم النقاد الأحياء، وربما تكون على حق.

ربما التشذير يصطدم مع الواقع بوصفه بالفعل كلا لانهائيا مستمرا مثل «الدافع الموسوعي» لإيتالو كالفينو، و«رواية عن الكون» لجوته، والنكتة اللانهائية لديفيد فوستر والاس أو الحرب والسلام لتولستوي المؤلفة من 570000 كلمة التي حاول فيها أن يتأمل ويفسر سردية هي الإنسانية وهذا مطلب جليل للفن.

لقد كتب في الجزء الرابع أن «واقع حياتنا هو الحركة المستمرة، وقد اخترعنا مقاييس اعتباطية لتكسير ذلك الكل».

يفترض قالب تولستوي الطويل إذن أنه يقدم رؤية للعالم بديلة للشذرة، التي يحمل عليها هو الآخر عن غير قصد إذ يكتب أننا «بالتقليل والتقليل من وحدات القياس نقترب وحسب من الحل دون أن نصل إليه».

إنها مشكلة المدرسة الابتدائية المتعلقة بالأنصاف، مشكلة أن مادة، مثل رق سافو، لن يختفي أبدا اختفاء حقيقيا.

أو، بعبارة أخرى، لو أننا نقطع دائما نصف المسافة إلى الباب، فكيف يمكن يوما اجتياز العتبة؟

هي هذه المشكلة نفسها، مفروضة من الوحدات ورفيقتها الرأسمالية، هي التي تعطينا معيار الجمال الغربي القائم على النسبة الذهبية التي تنتج اللولب الذهبي، مشتركا في الشكل مع الديالكتيك الهيجلي الذي يظل يرتقي، ويرتقي، ويرتقي، إلى فهم مستحيل.

بعد كتابته الحرب والسلام توصل تولستوي إلى حل لهذا، أي لمأزقه اللانهائي: صار من دعاة السلام، مناصرا للسلام، والسلام عنده هو اللاشيء، أو هذا ما أخلص إليه مما بين سطوره: «عدم تسامح الإنسان مع اللاشيء هو السبب في أن السلام لن يتحقق أبدا».

سعيا إلى اللاشيء، تخلى عن ثروته وممتلكاته ليعيش حياة فلاح، معدم، حتى وفاته عن 82 سنة.

كلماته الأخيرة «لكن الفلاح، كيف يموت الفلاحون؟»

غير أن سجلات التاريخ غير راضية تمام الرضا عن تلك النهاية، وتؤثر أن تتذكر كلمات له في الليلة السابقة:

كلنا نكشف...

مظاهرنا ...

هذا المظهر انتهى...

ولا مزيد.

يبدو لي أن قدرنا جميعا هو الرضا بالفضاء السلبي، باللاشيء.

لكن كيف؟

بالسعي إلى حقيقة المتشذر، أم غير القابل للدحض؟

بأن نعترف بشروط أوضاعنا المتحاربة، أم بطرح السلام؟

باليأس أم بالرجاء؟

في هذا التساؤل، في هذا التذبذب المستمر، يكمن عمل الكتابة الحقيقي.

يتساءل كيزي ليمُن عن طبيعة عمل الكاتب في نقده الموسع لـ»الفضاء الأبيض» الذي لا يعني به فقط الفراغ في ما بين الكلمات أو الفقرات وإنما أيضا فراغ الهوامش، أي إجمالي الفراغ الإبداعي السخي لـ»النص المضمر subtext والهوامش»

«أعتقد أن من يستطيع أن يدعو القراء بهذه الطريقة من خلال استعمال النص المضمر والهامش، فبوسعه أن يجعلهم يشعرون أن الكتاب كتابهم...فجزء مما يتصورون أنك عرضته عليهم هو الكونية. في حين أن ما فعلته بحق هو أنك دعوتهم إلى فضاء أبيض تجسده أنت. وما أنا بالروحاني أو الغريب أو أي شيء من هذا القبيل. فأنا أومن بذلك حقا.

لكنك تبدع النص المضمر. ثمة طرق كثيرة. منها، أن عليك أن تفرط في الكتابة، وعليك أن تستبعد بعض المادة. بمعنى أنك لا يمكن أن تشعر بنفاسة ما تكتب. ومن يفعل ذلك من الكتَّاب لا ينتج نصا مضمرا، بل ينتج حذفا. والحذف أمر مختلف. فأنت لا تكاد تدرك أن هذا قد يكون أفضل ما في الكتاب، إلا وتنزعه منه وتترك القراء يتساءلون عما بين سابقه ولاحقه من علاقة، فهذا قد يصلح معي. في بعض الأحيان أظن أن عملا ما لم يلق حقه من التقدير، لكننا أيضا لا نعرف كيف نتكلم عنه علنا. أما الهوامش، الهوامش، الهوامش، ففيها مكمن العمل».

دعوة ليمن الدائمة للاهتمام بالفضاء الأبيض، بعناية وتعمق، دعوة في تقديري إلى عمل مثل ذلك في حياتنا.

وهي تذكرة لنا بسؤال هاملت سيء السمعة: أكون أو لا أكون.

لكن ليمن يحذرنا من الشعور بنفاسة هذه الثنائية، وجودنا، ومن ثم يحذرنا من الحذف، مرددا صدى تحذير وليم جاس من «الصمت غير المنطوق»: «إن إمساكك عن الكلام، إنما هو إمساكك عن أن تكون لك روح تلهو بها. إنما هو إمساك عن الوجود».

تجربة دونما اجترار: هل من سعادة في مثل هذا اللفظ البسيط؟

بالنسبة لي، وأتصور أن أغلب الكتاب والفنانين كذلك، الإجابة هي لا من القلب -ترديدا لقول أفلاطون إن الحياة ذات الشأن هي الحياة التي تعاش جيدا- حتى لو لم يصل هذا الشأن مطلقا إلى الصفحة، وعلق دونها، وحذف، وأنزل منزل وجود سلبي على الدوام.

حتى لو عانيت (وعانينا) عواقب خيار الكتابة.

وهذه حقيقة: بالكتابة أقيم فاصلا بيني وبين العيش.

مع ذلك: أكتب.

يا له من لفظ بسيط.

*

لكن لماذا؟

لماذا أكتب (نكتب)؟

*

في عام 2019، نظمت الرسامة آيمي سيلمان معرضا في متحف الفن الحديث بنيويورك عنوانه «شكل الشكل».

وكل شيء في العالم هو بالأساس شكل

كتبت في مقالة مصاحبة:

«بالأشكال تقيمون التمايزات، وتحددون العلاقات، بل وتعرفون الوقت».

*

لماذا أكتب؟ لأقيم التمايزات.

لأحدد العلاقات.

لأعرف الوقت.

تتساءل سيلمان، في ما يتعلق بالفنون البصرية، «ماذا لو ساد الشكل على كل اعتبار آخر».

وأسأل مثل هذا السؤال عن الكتابة.

ماذا لو علا الشكل أعني القالب؟

ماذا لو لم تعد من قيمة لما يقال مقارنة بكيف يقال، ولم تعد الجملة وحدة وإنما السطر؟

*

تطرح سيلمان الفارق بين المضمون والشكل كالفارق بين «التأليف» و«البناء» حيث «التأليف هو إعادة تقديم القيم السابقة للطبقة البرجوازية» و«البناء هو السبيل إلى مجتمع جديد».

جمل أشبه باثنين في أربعة، أو كاتب على رأسه قبعة، أو معمار الأمل في مقابل النزوع إلى اليأس.

*

والآن أريد أن أحكي لكم قصة، عن المرة الأولى التي بدا فيها طفلي، وكان لم يزل جنينا، شيئا حقيقيا.

كان ذلك في متحف الفن الحديث بنيويورك، وقد استقللت للتو قطارا من الريف بمفردي.

كان أول معرض زرته هو معرض رسومات لجياكوميتي، وأول ما رأيته على الجدار ليس رسما وإنما نص، مقتطف من سارتر:

«على المرء أن يبدأ من الصفر»

(بضع سطور من المقال نفسه غير واردة يومها على الجدار)

يكسر كل شيء ويبدأ من جديد.

و: دائما بين اللاشيء والوجود

بقية المعرض كانت سلسلة رسومات خطية بدا أنها تبدأ من مركز الشيء وتتلولب منه إلى الخارج، وإنجاز جياكوميتي العظيم هو بحثه الأصيل ثم وصوله المحتوم إلى شكل ثم آخر لشيء أو لشخص.

غادرت المعرض لكن منهجه لم يغادرني، وأنا أسير في بقية ذلك المتحف ثم في غيره، ملاحظة الأطر.

على الجرار الإغريقية والمطبوعات الفارسية والحياة الصامتة القروسطية والمشاهد الإنجيلية والنقوش المصرية

على أعمال ريدون وبيكاسو ووايلد.

على فنجان قهوة لثيبولد نصيحته «أبصر حواف الحواف».

على لوحات بونيلا كلاو التي قالت عن فنها ببساطة «أريد أن أقول شيئا بسيطا بحدة».

(ما الكتابة لو لم تكن هذا؟ والفن؟ أليست الشيء البسيط المقول بحدة؟)

وقفت على مقربة من أليس نيل، وبطني على بعد بوصات قليلات من بطن إحدى نسائه الحوامل.

حوافنا تتقارب قليلا قليلا.

أوجعتني قدماي.

بحثا عن مخرج قريب من المتحف، دخلت غرفة فيها جهاز عرض وحيد يسلط ضوءا أبيض باهتا على جدار أبيض.

وقفت ثمة أشاهد، منتظرة ظهور صورة.

انتظرت.

لم يحدث شيء.

وأنا أسير بجهاز العرض رأيت ظلي، وانتفاخ وسطي، ظاهرا، وقد تحول شكل جسدي أنا، إلى شكلنا.

بداية.

مثل بداية أواجهها الآن، برغم أنني أقترب من نهاية هذه المقالة، في بطء، لا أعرف ماذا أكتب بعد هذا، وسخرية المؤشر المومض على الشاشة غير مومض على الإطلاق، إن هو إلا خط هنا، ثم إنه ليس هنا، وهنا، ثم يختفي.

كيف نبدأ، مرارا وتكرارا

عندما تتصادم المخاطرة الأساسية: أن نعيش أو نموت، بمخاطرة الكتابة الأساسية: دعاية أم إبداع.

كيف بدأت.

هل تعلمت شيئا، أي شيء؟

لأيام قليلة، أعجز عن الكتابة.

بدلا من ذلك، أشاهد ابني، يزحف على الخرسانة، يرى ظله للمرة الأولى.

يمد يده ليلمسه فلا يلمس غير الأرض الدافئة، اختفاء.

من بعيد، أمد ذراعي حتى يتداخل ظلي وظله، ومرة أخرى يصبح الظل ظلنا.

مرة أخرى يمد يده ليلمس الشكل الرمادي على الأرض، اتحاد.

دليل أنني موجودة، أو أننا.

لذا أكتب.

سارة هاس كاتبة أمريكية نشرت مقالاتها وكتاباتها في إصدارات عديدة، منها لوس أنجلس رفيو أوف بوكس

أحمد شافعي شاعر ومترجم مصري