No Image
عمان الثقافي

عن الحِداد والفقد

30 مارس 2022
30 مارس 2022

إلى روح أبي النقية

«من أين نبدأ هذا التمرُّن المتأخر؟ من الأساسي، حالا؟ نبدأ بضرورة وصعوبة القيام بالحِداد لإرادة الوجود بعد الموت؟ بالفرح؟ لا بالأحرى. بالابتهاج المرفق بالشكر المأمول من الوجود حيَّا حتى الموت؟»

هكذا يبدأ بول ريكور فصل (حتى الموت. في الحِداد وفي الابتهاج) في كتابه (حيٌّ حتى الموت)؛ حيث يطرح تساؤلات عدة بين تلك العلاقة التي تربط بين (الموت) و(الحياة) من ناحية، وبينهما وبين (الحِداد) من ناحية أخرى؛ ذلك لأن الحِداد الذي نمارسه باعتباره طقسا اجتماعيا، يُقدِّم لنا عزاءً وفرصة لممارسة الحزن حتى نعود بعده إلى الحياة. إن الحِداد كفاح الصدمة، كفاح الرغبة، كفاح الحُب، كفاح المواساة، فهو صراع بين حقيقة الموت وإرادة الحياة. إنه قدرتنا على ممارسة هذا الكفاح في وقت تكون تلك القدرة عاجزة، ليس عن أداء محبتها لنا وحسب، بل حتى عن الاعتراف بنا، ليصبح كل ما حولنا ضدنا فعليا.

ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن (الحِداد)، لكنها المرة الأولى التي أشعر أنه يتملكني. المرة الأولى التي أقف فيها بين مفترق الطرق، ولا طريق يؤدي إلى نهاية، لا طريق أعرفه، ولا طريق يعرفني. فإن كان ريكور يحاول تمريننا على الولوج إلى أنفسنا للعبور نحو النجاة، والتمرُّس على إرادة الحياة، فإن القدرة التي نملكها ليست متساوية؛ وتصوراتنا عن الوجود والحياة، والفناء والموت ليست قادرة دوما على تخليصنا من ربقة (الحزن) حين يسكننا شعور (الفقْد).

إن الحِداد بارتباطه بـالموت والرحيل الأبدي يحاول مساعدتنا على التجاوز، لكن أي تجاوز؟ وأي تظاهر؟ يجعل من التحكم في الحزن حزنًا. إننا حين نمر بهذا التوهج الروحي العميق، نصبح عاجزين عن الانفلات من سلطته، إنه توهج مباغت، مخاتل، حتى تحت ربقة الرضا بالقضاء والقدر. إنه قدر مسكون بالفقد، والفراق الأبدي، حيث لا عودة، ولا لقاء، ليصمت كل شيء بعد ذلك، ولا نسمع سوى أصوات دواخلنا تصرخ، وهجا حارقا، وألما عاجزا عن التعبير عن نفسه.

قال لي أحد الأصدقاء مواسيا: (إن الرحيل بياض، أنوار ...)، قلت: (نعم، وهو فقْد). إنه سواء أكان بياضا أو سوادا؛ فهما لا شيء سوى خواء، فضاء باهت، ليس فيه سوى الانتهاء، هما اللا لون، واللا شيء. هما تلك الروح التي يتركها الفقْد خلفه في قضاء من الله وقدره، نسلِّم به ونؤمن، غير أن دواخلنا تظل باهتة في غياهب اللا لون؛ هكذا نبدو ونحن نستعد للعودة للحياة بعد الحِداد، فبعد جهد كبير نبدو بخير من الخارج، لكن في الحقيقة لا شيء، ولا شيء أبدا يبدو كذلك في دواخلنا؛ فلا شيء يعود كما كان، ولا أحد يعوِّض غياب أحد.

كتب رولان بارت في مذكرات حداده على وفاة أمه، أن الحِداد «ليس انسحاقا، ولا حصارا، ولكنه فراغ مؤلم. أنا في حالة تأهب، منتظرًا، مترقبا مجيء أحد معاني الحياة». إنه شعور لا يُوصف، حالة من الانقباض، حالة من الوحدة الذاتية، حالة من العجز، ربما عجز أمام قوة الطبيعة، إرادة الخالق، لكنه يبقى عجزا يحاصر قدرتنا، يطوِّق عالمنا، حتى لا يعود للتعازي أي مواساة، ولا حتى اعتراف، ولا يمكن أن يكون (للابتهاج بالموت بعد الحياة) -كما يقول ريكور – أي معنى؛ فأي ابتهاج في الانقطاع، في الانطواء، في الوحدة التي تمزق دواخلنا، وتسكن عالمنا، وتصيبه في مقتل، بحيث لا يبقى لنا غير أن ننتظر مع بارت (أحد معاني الحياة) الذي يمكن أن يسعفنا، ويخرجنا من غياهب الفراغ.

لم أكتب عن أبي سابقا سوى القليل، وأجدني عاجزة عن الكتابة له أو عنه الآن عجزا لم أتخيله أبدا، عجز جعلني أترك المضي في كتابة هذا المقال مرارا وتكرارا، إلى أن قررت أن استمتع بهذا العجز حزنا حتى أُدرك المقدرة، حيث أمنَّي نفسي أنه عجز مؤقت إلى حين، فلا يمكن أن أعجز عن الكتابة لرجل يسكن حياتي. أمنِّي نفسي بكتابة رسالة إليه تضيء الطريق الطويل أمامي، رسالة تفتح آمال الحياة، لكنها بالطبع لن تكون كرسالة كافكا إلى أبيه، فأبي لم يكن كافكويا. أبي قِبلة الحُب والقوة معا، ملتقى الحياة التي علمني إيَّاها، أبي جامع لمعاني الابتسام والضحك والحُب والإقبال، والعمل والتفاني والإخلاص معًا. أبي الذي علمني كل شيء أعرفه، بل ويعرفه أبنائي لأنه علَّمهم ما علمني إيَّاه، ثم مضى في صمت، في رحيل لم أكن قد تهيأت له يوما، ولم يكن يخطر لي على بال رغم إيماني بحدوثه للعالمين.

إنه أبي الذي كان يقول لي دوما (ضحكي أمي. الحياة ما ساوية). صدقْتَ أبي .. فالحياة لا شيء، ولا شيء اليوم يمكن أن يقدم لنا العزاء لا الحِداد، ولا حتى الضحك حزنا، لكن كلما اشتد بي الحزن، وبدت نفسي خاوية، وقبل فقدان الوعي، أسمعها منه في ابتسامة وإشراق، فتعود الحياة إلى أعماقي، ويرتسم الابتسام في وجهي الكئيب الحزين، قبل أن ينطفئ في خيالات وذكريات كانت بالأمس القريب حياة.

يُقال إن (الزمن كفيل بكل شيء)، لكن الحقيقة أن الزمن لا يمكنه أن يتكفَّل بالحِداد والحزن، لأنهما لا يرتبطان به وحده، بل بدواخلنا وقدرتنا، فلا شيء يمكن أن يقدِّم لنا عزاء عن فقدان حبيب كالأب؛ حيث لا يمكن أن نعود كما كُنَّا قبل الفقد، ولا يمكن لأرواحنا المبتورة التعويض عن خسارتها، كما لا يمكن للزمن أن ينسينا ذلك الفقْد الأبدي. إنه فقْد غير قابل للتعويض. ولعل هذا ما يُقرَّه بارت ردا على سؤال (بانزيرا)؛ «إن الزمن يخفف الحِداد. كلا، الزمن لا يجعل أي شيء ينقضي؛ إنه يجعل انفعالية الحِداد تمر»؛ الانفعالية التي تمزق صورتنا، تمزِّق تفكيرنا في (الأنا) في لحظة، تُهشِّم قدرتنا حتى على التمرُّد. إنها الصدمة، الوعي واللا وعي بالواقع الحقيقي والحُلم.

ومهما مرَّت الأيام وطال الحِداد واستمر، فإن القدرة على التجاوز لن تكون يسيرة، ولن تكون قدرتنا على الإقبال على الحياة سوى قناع خارجي، نحاول به ومن خلاله إضمار ما لا يمكن البوح به، وإخفاء ما لا يمكن إظهاره. إنه تمثيل القوة في مشاهد الضعف، القدرة في مشاهد العجز. فما لا يمكن تجاوزه يمكن العيش معه وبه، وما لا يمكن مشاركته يمكن الاستمتاع بوحدته، بل السكن فيه في صمت وهدوء.

يكشف لنا الحِداد حقيقة الحياة الزائفة، حقيقة الواقع الهش، الذي يتكسر، يتهشم، ينطفئ أمام بريق الأضواء، ويصبح كل شيء حولنا منكشفا، مزيَّفا، عاجزا حتى عن الدفاع عن نفسه. هكذا تبدو الحياة ضئيلة أمام حقيقة المآل، حيث يتوقف كل شيء حولنا، فـ«كل شيء يموت لأسباب من داخله» – كما يقول فرويد -، ليبدو ساكنا، جامدا، باهتا. إنها فرصة للتأمل، للصمت عن كل شيء، عن كل فعل، عن كل فكرة.

يخبرنا فرويد أن «مبدأ اللذة في الواقع يعمل في خدمة غرائر الموت» – فيما وراء مبدأ اللذة -، ولهذا فإنه يقترح علينا (التذكر) حتى تصبح مشاعرنا بين اللذة بالألم والذكريات التي تجمعنا بالراحلين، وبين اللا لذة التي تُعمِّق شعور الأنا؛ ذلك لأن ذواتنا تقوم بمراقبة «المثيرات التي تفد من العالم الخارجي» – بحسب فرويد -. إنها تلك الشحنات التي يحملها لنا الواقع الذي نعيشه، والذي يجعل من فضاء الحِداد، عالما ملتبسا من المشاعر والتوترات والانفعالات. إنه عالم لا يقدِّم لنا العزاء بقدر ما يقدمه من التباسات توترية مخاتلة.

قد ينتهي الحِداد وانفعالاته، لكن العجز يبقى ببقاء الحزن، يبقى ما دام الفناء قدرا، والموت حياة، والوجود استطاعة، يبقى ما دام الابتسام ممكنا، والحياة باقية. يبقى داخلنا مسكونا بالفقد الذي يفاجئنا من حيث لا ندري، يفاجئنا بقدر يبتُّ دواخلنا، يمزِّق ما تبقى من أشلاء أفراحنا، حتى نمضي دون هداية إلى الأقدار القادمة. فـكما يقول أبو القاسم الشابي:

«نحن نمشي، وحولنا هاته الأكوان

تمشي.. لكن لأية غاية؟

نحن نشدو مع العصافير للشمس

وهذا الربيع ينفخ نايه

نحن نتلو رواية الكون للموت

ولكن ماذا ختام الرواية؟

هكذا قلت للرياح فقالت:

سل ضمير الوجود: كيف البداية؟

إن النهاية قدر البدايات، ورغم ذلك نبقى دوما في توقع اللا نهايات، حتى في حدادِنا نأمل السير في الكون دون نهاية، وها أنا مع رولان بارت أقول (لست في حِداد، أنا حزين).

عائشة الدرمكية باحثة عمانية في السيميائيات