عمان الثقافي

شعر: أَربَعُ قَصَائِدَ

25 أكتوبر 2023
25 أكتوبر 2023

1- السَّاهِرَانِ إِلَىٰ الصَّبَاحِ

يَتَحَدَّثَانِ عَنِ الزَّمَانِ

كَأَنَّمَا خَرَجَا عَنِ السَّاعَاتِ

وَانقَطَعَتْ ضَرُورَاتُ الحَيَاةِ

عَنِ الحَيَاةِ، وَلَم يَعُد إِلَّا التَّفَلْسُفُ

وَالتَّأَمُّلُ فِي جِدَارٍ شَائِخٍ...

نَظَرِيَّةً نَظَرِيَّةً حَتَّىٰ يَسُودَ الصَّمتُ

يُعلِنُ أَنَّ فِي الكَلِمَاتِ مَعنًىٰ ظَاهِرًا

لَيسَ الَّذِي نَحتَاجُهُ،

وَوَرَاءَها مَعنًىٰ خَفِيًّا

وَهْوَ عَينُ مُرَادِنَا

[لَولَا احتِيَاجِي لِلكَلَامِ

لَصِرتُ صَخرًا أَعجَمَ

احتَبَسَتْ حَيَاتِي فِي

تَجَاعِيدِي، وَعَبَّدَنِي الـمُرُورُ

عَلَيَّ حَتَّىٰ أَستَحِيلَ سُدًىٰ]

***

يَتَحَدَّثَانِ عَنِ الـمَكَانِ

كَأَنَّمَا وَجَعُ الجِهَاتِ خُرَافَةٌ

لَيسَ الذَّهَابُ وَلَا الإِيَابُ

سِوَىٰ الجُلُوسِ هُنَا أَمَامَ بُحَيرَةٍ

فِي سَاعَةِ العَصرِ الرَّهِيفَةِ

هَٰهُنَا جِهَةٌ بِلَا جِهَةٍ

رِيَاحٌ تَنثُرُ الـمَعنَىٰ هَبَاءً طَائِشًا

خَلَلٌ ضَرُورِيٌّ

لِقَافِلَةٍ تَمُرُّ سَرِيعَةً

فِي قَصدِهَا لِمَلَاذِهَا

[لَولَا احتِيَاجِي لِلكَلَامِ

لَكُنتُ فَخًّا غَادِرًا

وَيَدَايَ تَختَطَّانِ فِي

وَجهِ الفَرِيسَةِ مَا

تُرِيدُ مُدًىٰ]

***

يَتَحَدَّثَانِ عَنِ الكَلَامِ

وَعَن خَيَالِ الـمُعجَمَاتِ

وَمَا تَنَاسَاهُ الـمُؤَلِّفُ فِي السُّطُورِ

وَمَا اجتَبَاهُ الشَّاعِرُ الـمَلِكُ الَّذِي

هُوَ سَيِّدُ الكَلِمَاتِ

وَهْوَ يُعِيدُ تَخلِيقَ الكَلَامِ أُلُوهَةً صُغرَىٰ

وَيُنشِئُ مُعجَمًا مِمَّا نَقُولُ وَلَا نَقُولُ

وَلِلكَلَامِ كَلَامُهُ أَيضًا

يُرِيدُ إِبَانَةً عَن نَفْسِهِ فِي نَفْسِنَا

هُوَ ظِلُّنَا .. هُوَ نُورُنَا

[لَولَا احتِيَاجِي لِلكَلَامِ

لَحَاطَنِي فَقرٌ

طَوِيلٌ شَاحِبٌ

وَلَصَارَ صَمتِي

سَيِّدًا كَصَدًىٰ]

***

يَتَحَدَّثَانِ.. دَقِيقَةً فَدَقِيقَةً

وَالوَقتُ يَسحَبُ خَيطَهُ عَجِلًا

وَيَنكَشِفُ الصَّبَاحُ بِوَجهِهِ

يَتَوَاعَدَانِ عَلَىٰ الكَلَامِ غَدًا

إِذَا انتَصَفَ الظَّلَامْ

مَا أَوحَشَ الإِنسَانَ

لَولَا اِحتِيَاجٌ لِلكَلَامْ

2- ثَلَاثُ أُغْنِيَاتٍ مَجَازِيَّةٍ

أُغنِيَةٌ أُولَىٰ

قَالَ: «المجَازُ طَرِيقُنَا فِي

لَيلِ غُربَتِنَا، وَفِي دَربِ

الرُّجُوعِ إِلَىٰ مَنَابِعِنَا».

فَنَامَت طِفلَةٌ فَوقَ القَصِيدَةِ

بَعدَمَا فَقَدَتْ خَرِيطَتَهَا

وَغَنَّتْ قَافِيَةْ

***

هَٰذَا المجَازُ نَجَاتُنَا

حَتَّىٰ وَلَو لَم نَختَرِعهُ؛

لِأَنَّهُ هُوَ دَولَةُ الأَحلَامِ

فِي كَلِمَاتِنَا وَابنُ الظُّنُونِ الآتِيَةْ

***

هُوَ دَهشَةُ التَّنزِيلِ

عِندَ مَتَاهَةِ التَّأوِيلِ

نَبعٌ مُشبَعٌ بِالـمَاءِ حِينًا

نَجمَةٌ تَهتَزُّ حِينًا

تَحتَ رِجْلٍ حَافِيَةْ

أُغنِيَةٌ ثَانِيَةٌ

قَد أَرهَقُوا هَٰذَا المجَازَ

فَصَارَ مِثلَ كَلَامِنَا العَادِيِّ

لَم يَسطَعْ، وَلَم يَلمَعْ

تَهَرَّأَ مِن تَدَاوُلِهِ

مِتَىٰ سَتَصِيرُ «كَيفَ الحَالُ؟»

مِن بَابِ المجَازْ؟!

***

وَغَدًا سَيُنكِرُنَا المجَازُ

نَسِيرُ مِن فَوضَى إِلَىٰ فَوضَىٰ

تَصِيرُ مُهَمَّةُ الكَلِمَاتِ

إِتقَانَ النَّشَازْ

***

وَيَمُرُّ أَهلُ الشِّعرِ فَوقَ سُطُورِنَا

مُتَعَجِّبِينَ: «لِأَيِّ قَومٍ يَنتَمِي

هَٰذَا الكَلَامُ؟ إِلَىٰ الجَنُوبِ،

أَمِ الشَّمَالِ، أَمِ العِرَاقِ،

أَمِ الحِجَازْ؟!».

أُغنِيَةٌ ثَالِثَةٌ

وَأَقُولُ: «إِنَّ مَجَازَنَا أُنثَىٰ

وَدَربُ الـمُفرَدَاتِ مُفَخَّخٌ

بِتَحَرُّشٍ.. وَوَرَاءَهُ تَقِفُ

الكِلَابُ الوَاثِبَةْ.

***

ضَحِكَ المجَازُ، وَقَالَ: «قَد لُدِغَتْ

هُنَا مِن قَبلُ، إِنَّ الشَّاعِرَ اللَّمَّاحَ

يُلدَغُ مَرَّةً لَا مَرَّتَينِ؛ لِأَنَّهُ مُتَشَكِّكٌ

فِي أَيِّ شَيءٍ. فَلتَدَعنِي؛ كَي أَمُرَّ

إِلَىٰ الطَّرِيقِ الغَائِبَةْ»

***

فَوضَىٰ الإِشَارَاتِ الكَثِيرَةِ فِي الطَّرِيقِ: مُرِيبَةٌ

فَوضَىٰ النُّجُومِ عَلَىٰ السَّمَاءِ: مُرِيبَةٌ

فَوضَىٰ الكَلَامِ: مُرِيبَةٌ

فَلنَستَرِحْ حَتَّىٰ نَرَىٰ شَيئًا

فَنَتبَعُهُ بِصِدقِ

الأُمنِيَاتِ الكَاذِبَةْ!

3- شَاعِرٌ لَا أَعرِفُهُ

شَفِيفٌ كَأَنَّ الوَجُودَ مِيَاهٌ

خَفِيفٌ كَأَنَّ يَدَيهِ هَوَاءٌ

يُحَرِّكُ مَا عَنَّ دُونَ انتِبَاهٍ

وَيُخفِي الظِّلَالَ وَرَاءَ الظِّلَالِ

وَلَا يَدَّعِي حِكمَةً فِي الفِعَالِ

مُجَرَّدُ حَدسٍ.. يُصَدِّقُ مَا ظَنَّ

دُونَ ارتِيَابْ

***

يَنَامُ وَحِيدًا؛ لِئَلَّا تُزَاحِمَهُ الحُلمَ

أُنثَىٰ، وَيَحلُمُ دَومًا بِأُنثَىٰ.. لَدَيهِ

فَدَادِينُ فِي الحُلمِ.. كَادَ يَصِيرُ

إِلٰهَ الخَيَالِ/ إِلٰهَ السَّرَابْ

***

يُطَمئِنُ كُلَّ الوَحِيدِينَ.. يُشعِلُ

أُصبُعَهُ فِي الظَّلَامِ لَهُم، وَيُغَنِّي

كَأُمٍّ تَهُشُّ الكَوَابِيسَ عَن طِفلِهَا:

«لَا تَخَفْ يَا صَغِيرِي.. أَنَا هَٰهُنَا

وَيَدِي سَتَصُدُّ الذِّئَابْ».

***

وَفِي اللَّيلِ يَجلِسُ خَلفَ القَصَائِدِ

يَشحَذُ مُفرَدَةً مِن خَيَالٍ شَحِيحٍ

يُنَادِي عَلَىٰ عَبقَرِ الشَّعَرَاءِ، وَيَبكِي

كَلَامًا.. يُمَزِّقُهُ.. لَا يُلَائِمُهُ.. وَيُجَنُّ،

وَيَهوِي عَلَىٰ الأَرضِ مِثلَ

نَدًىٰ فِي الضَّبَابْ

***

يَقُولُ: «أَنَا ضِدُّ نَفسِي، وَضِدُّ

الكَلَامِ، وَضِدُّ الخَيَال، وَضِدُّ

الزَّمَانِ، وَضِدُّ تَضَادِّي، وَضِدُّ

الحَيَاةِ، وَضِدُّ الممَاتِ،

وَضِدُّ دُرُوسِ الغُرَابْ»

***

يُؤَرجِحُ سَاقًا، وَيَغمِزُ عَمدًا

لِشَخصٍ يَرَاهُ جَلِيًّا وَلَسنَا نَرَاهُ

يُنَادِي عَلَىٰ شَبَحٍ غَارِقٍ فِي التَّلَاشِي

يَضُمُّ يَدَيهِ عَلَىٰ فَخِذَيهِ، يُوَارِي

الدُّمُوعَ بِوَردَتِهِ، ثُمَّ يَصرُخُ حَتَّىٰ

يَصِيرَ المدَىٰ وَاسِعًا وَاسِعًا،

وَيَغِيبُ الوُجُودُ،

يَغِيبُ الغِيَابْ...

4- خَائِفٌ مِنَ الحَيَاةِ

أَنَا خَائِفٌ مِن كَلَامٍ صَرِيح

سَيَفضَحُنِي كَمَرَايَا تُعِدُّ مَكِيدَةْ

أَنَا خَائِفٌ فِي انتِظَارٍ فَسِيح

يُجَرِّدُني مِن هِبَاتِ الخَيَالِ الفَرِيدَةْ

أَنَا خَائِفٌ مِن جُنُونٍ يَسِيح

يُقَلِّبُنِي فِي هُمُومِ الظُّنُونِ الجَدِيدَةْ

أَنَا خَائِفٌ مِن حَيَاةٍ عَنِيدَةْ!

***

أَنَا خَائِفٌ مِن مَجَازٍ عَمِيق

يُضَيِّعُ فِي بِئرِهِ مَا تُرِيدُ القَصِيدَةْ

أَنَا خَائِفٌ مِن خَيالٍ رَشِيق

تُشَرِّدُ رُوحِي سُؤَالاَتُ تِيهِي العَدِيدَةْ

أَنَا خَائِفٌ مِن سَحَابٍ طَلِيق

يَرُوحُ كَثِيفًا وَلَم يَروِ أَرضِي البَعِيدَةْ

أَنَا خَائِفٌ مِن حَيَاةٍ وَحِيدَةْ