No Image
عمان الثقافي

شذرات الحرب، ورماد المعنى غزة أولا، وغزة دائما

27 ديسمبر 2023
27 ديسمبر 2023

(1)

يقف التاريخ، وتتجمد الجغرافيا، وينكسر المعنى، وتذبل المعرفة، وتتعرى الضمائر وتحترق، ويسخر المنطق. تسقط السينما. أمام الدم؛ دم اللحظة؛ لحظة فلسطين، وكل لحظات فلسطين جارحة وحاضرة وأبدية. تستيقظ العاطفة، ينفتح العقل على السؤال: هل حانت اللحظة؛ لينكسر جدار الخديعة، أم أنَّ الجدار أكثر وحشية من الدم؟ هل ستهزم لحظات فلسطين خديعة الطغاة؟

(2)

الفلسطيني يُجدّد معنى السؤال، يبعثه من رماده الأول، السؤال الأكثر صدقا، والأقل طولا، والأعمق وخزًا، يختزل الفلسطيني تاريخه بين خذلان وكفاح، لكنه ينحاز كليّا وعاطفيا ومعرفيا وطفوليا وأبديا لكفاحه اليومي، لكفاح المعنى ضد الكلمة، لكفاح الصورة ضد أكاذيب الشاشات، يدسُّ كفاحه بين الكلمات، وفي جوعه اليوميّ، وفي خبزه البلديّ، وفي ضحكات أطفاله، وفي صور عائلته المعلقة على حائط بيته، وفي شتاته، وفي أكباد الغزاة. يُربّي دلالات الكفاح في أغانيه، وفي دمعه، وفي موته، وفي المنافي البعيدة. ويزرع زيتونه وزعترته في دمه وفي جغرافيا روحه.

يكافح الفلسطيني بأقل الأشياء هامشية، يكافح بالغناء والكلام والأناشيد، برائحة الخبز في القدس، وبرائحة الزعتر في رام الله، بزيتونه الذي يشعل مصباح فجره وطرقه، بالصمت الذي يجر به خذلاننا، بقصائده التي ترددها قلوب التلاميذ، وبجنازات الشهداء، وبدموع الأيتام، بصلوات الأرامل.

(3)

«معّلش».

يصفع الفلسطيني الكارثة والعالم والضمائر المنفصلة بكلمة، ويمضي.

(4)

الفلسطيني لا يُسمّي المنزل بيتًا، بل دارًا؛ لأن أحلامه، ووطنه المسلوب، وطفولته الشاردة، وشتاته، وكفاحه، وضحكات أطفاله، وتاريخ زيتونه، ورماد خيباته، تدور في فلك داره، ولأن كينونة الفلسطيني لا تستقر في جغرافيا واحدة.

الدار تحولت إلى دائرة، وفي فلكها يمضي الفلسطيني حياته ومماته، فتصبح «فلسطين داري».

(5)

«قد أموت ولا أرى تحرير فلسطين، لكن أولادي وأحفادي حتما سيرون تحريرها»

من وصية المناضل الإيطالي فرانكو فونتانا.

(6)

غزة في الحرب رصاصة، وفي الحصار فكرة، وبين الحرب والحصار خمس دقائق تكفي لتشيع أحلامها، ليقول طفل للرصاصة: «حنّا ما بنخافش»، وليقول المخيم للاجئ: ستعود إلى حيفا.

(7)

غزة المعنى المكثّف للألم، المعنى المتدفق للخذلان، المعنى المرّكب للصبر، وغزة معنى المعنى.

غزة تقف وحيدة؛ لأن النبلاء لا يتكئون على الجموع، ولأن القلة المُكتنزة بالصدق أفضل من غثاء السيل وزبد البحر. غزة وحيدة وجامعة ومجتمعة مع لحظتها الصادقة، مع زمنها الذي لا يشبه كل الأزمنة.

وحيدة تمضي غزة لتصفع الغزاة والطغاة. وحيدة لكنها مكتنزة بالكرامة، بالشجاعة.

أمامها البحر وخلفها القتلة، وفي جوفها صلوات.

(8)

غزة ابنة فلسطين الشقية، الضاحكة فجرا، والضاحكة دائما، غزة قلب فلسطين وقالبها، رصاصها القاتل، سهامها، ضحكتها البحرية، وعكازها الصامد والعنيد.

(9)

لا سمح الله.

على البلاغة العربية، ودارسي الأسلوبية واللسانيات، أن يعيدوا ترتيب نظرياتهم؛ فهذه الجملة أفسدت جمود المعنى، جرحت أوهام الجيوش، ببساطتها أحرقت أكثر الجمل العربية رونقة وجزالة، وأسقطت النجوم والنياشين من صدور جنرالات العرب.

(10)

خان يونس، جباليا، شارع صلاح الدين، بيت حانون، رفح، الشجاعية، بيت لاهيا، لن تغادر إلى الجنوب، لن تترك الذاكرة وحيدة، ليست أسماء في الجغرافيا الفلسطينية، بل نجوما في سماء الطفولة الفلسطينية، هي شرايين في قلب الكرامة العربية، هي دروب في صحراء الحضور، وهي أم الحضور في زمن الهزائم، وهي نجوم في خيمة العودة.

(11)

فلسطين ليست قضية، بل هل أم القضايا وأولها وأجملها، وأشرفها، هي قضية لكل قلب حر، وكل عاشق لمعنى للإنسان. مرآة لإنسانيتنا، فاضحة لصمتنا، جارحة لذاكرة الغزاة.

(12)

مثلما أربكت الفصاحة الفلسطينية بلاغة العرب، فعلت المقاومة الفلسطينية كذلك في أصحاب الرياضيات والحساب، فالمثلث الأحمر له دلالاته، والدائرة تتسع لتلتهم الغزاة الخائفين، أما السيد المهمل «صفر»، فأصبح له قيمة ومعنى ودلالات، له إشارة الفرح لدى أهل فلسطين، فمن مسافة صفر تساوي لدى المقاومة الالتحام مع البرابرة والفاشيين، وتمنح المتسمرين أمام الشاشات جرعة من الكرامة المسلوبة.

(13)

غزة كاشفة، ومكشوفة، نفضت عن قلوب العرب أوهامهم، وصفعت المتخاذلين بصمتها وبدمها وبصراخ الأمهات، وبأناشيد الشهداء، وبجوعها وعطشها وظلمتها، مضت غزة إلى هتافات البشر في شوارع برشلونة، ولندن وباريس ونيويورك، علّمتهم نشيد البقاء. كلما طعنها الغزاة والطغاة والأقربون والغرباء؛ تنسل كنبع ماء إلى المدن البعيدة، فتسكن الشوارع والهتافات والأغاني، واللافتات.

(14)

فلسطين بوصلة الضمائر الحية، ومنارة للقلوب النابضة بالكرامة، وميناء لا تصله سوى قوارب الصادقين، وفلسطين درب لا يسلكه المترفون، وفلسطين عاطفتنا وعطفنا، ودمعنا ودمنا.

(15)

غزة في الحرب أغنية، وفي الحصار دمعتان، وما بين الحرب والحصار تشتعل حرائق المعنى، وفي الحرائق المنسية يرتب أهل غزة أحلامهم بالبحر والرحلة والنضال.

(16)

يحمل الشهداء أطفالهم، ويحمل الأطفال جوعهم اليوميّ، وأحلامهم المحترقة بالحصار، في النداء الأخير يغلق الحارس باب المعبر العربي، يطعن الحارس العربي جوع غزة وعطشها.

(17)

«هاي أمي بعرفها من شعرها»

في الحياة والصباح، تنثر الأمهات ملح الصبر المختلط بالمرارة على أجساد أطفالهن، وفي الطفولة يتحول الأطفال إلى غيوم لتغسل تعب الأمهات ودمعهنّ.

في الموت يلتقي الملح بالغيوم فتصبح غزة جنازة لا تنقطع، الأطفال يحلّقون إلى السماء سريعا، والأمهات يرتبن عاطفة الأرض وخبز الفجر القادم.

(18)

الشهداء في فلسطين لا يسقطون، بل يرتفعون، يصعدون كصلاة، من هناك ينظرون إلى جغرافيا طفولتهم وسلالم حزنهم، ويغلقون النافذة.

(19)

أبناء المخيم والخيام، من رماد الزمن يخرجون، ومن زمن الخيبات والخذلان ينبتون كالجبال، كالأوتاد، كجرح السكين.

خيامهم وطن لهم، نحتوا للمخيم نشيدا تردده ذاكرة الشتات، ومن شتاتهم رسموا خريطة للبلاد القديمة.

(20)

« يابا، مش كنت بدك تطلع صحفي».

سيرد الشهيد من قبره: وما جدوى أن نضع صور دمنا ودموعنا وصرخاتنا ونكبتنا على شاشات الأعداء؟ لندس وجعنا في صلواتنا يا أبي.

حمود سعود قاص وكاتب عماني