No Image
عمان الثقافي

سخرية السرد ودهشة الهوامش في الصندوق الرمادي

28 ديسمبر 2022
28 ديسمبر 2022

اختار عبدالعزيز الفارسي أن يعنون مجموعته القصصية السادسة الصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي ببيروت 2012م؛ «الصندوق الرمادي».

الجزء الأول من العنوان الذي هو الصندوق لا ندري هل هو مفتوح على الحكايات، أم مغلق للتأويل؟، أما الجزء الثاني (الرمادي) فهو لونٌ اختاره للصندوق يدل على الحيادية، فهل كان الخطاب السردي في المجموعة حياديا؟ ما الذي طغى أكثر في الخطاب السردي؛ بياض السخرية أم سواد الواقع وأحلام الشخصيات المهزومة؟ وهل انحاز الفارسي لخطاب معين، أم تقنية معينة؟ ماذا عن شخصياته «الشناصيّة»، كيف شَكَّلها وعجنها داخل النص؟ وإلى أي مدى استطاعت هذه الشخصيات «الشناصية» أن تنقل روح المكان ورائحة الإنسان إلى القارئ؟ وهل كانت مقنعة؟ وكيف تفاعلت الشخصيات في دفع الخيط السردي؟ وهل البناء السردي للشخصية متماشٍ مع حس السخرية؟ وماذا عن مقهى «ألطاف»، هل يمكن اعتباره مكانا مركزيا في المجموعة تدور حوله الشخصيات والأحداث؟ ولماذا كانت الهوامش التي وضعها القاص في بعض النصوص جزءا لا يمكن تجاهله من النص؟ ولماذا لم يصهرها الفارسي في متن النص القصصي؟ ماذا عن النقد الذي يوجّهه السرد للسلطات الدينية والسياسية والاجتماعية؟ وهل كان مباشرا وصداميا أم كان فنيا؟ وهل يستطيع الخطاب السردي مواجهة أو تحليل هذه الخطابات وحده؟ أم أنه استعان بالسخرية في ذلك؟ وربما علينا أن نطرح هذا السؤال الهامشي: ما الذي دفع القاص للكتابة عن «شناصه» وشخصياتها، وهو البعيد عنها في كندا؟ هل هو الحنين أم الشوق؟ أم إنه نوع من الاستحضار الفني ليرى الأشياء بوضوح تام؟ وهل علينا أن نبتعد عن الأشياء، لكي نراها بوضوح وشفافية؟

كل الأسئلة السابقة يمكن أن يطرحها أي قارئ لهذه المجموعة. وهذه التساؤلات يمكن أن تعيد قراءة المجموعة من زوايا مختلفة، وليس بالضرورة أن نبحث عن إجابات لكل هذه الأسئلة، يكفي أن المجموعة استطاعت أن تشعل جذوة السؤال داخل روح المتلقي أو تحرك تفكيره ومشاعره؟

داخل الصندوق/ خارج السرد

يُهدي الكاتب صندوقه الرمادي وحكاياته إلى أخيه زكي، الذي يصفه بشيخه الأول في السرد، لذا نستشف من ذلك بأن هناك شيوخًا آخرين تعلّم منهم الكاتب السرد وعوالمه، وأظن أن الواقع هو أحد شيوخ السرد لدى عبدالعزيز الفارسي. من بشت شيخ السرد «زكي» نفض القاص حكاياته ودسها في هذا الصندوق، علما بأن «الصندوق الرمادي»، هو أحد عناوين النصوص داخل المجموعة. ويمكننا هنا أن نتساءل بشكل عفوي، ولكنه ضروري: هل عايش وعاين القاص أحداثا وشخصيات نصوصه بنفسه، أم أنها وصلت إليه من خلال وسيط (شيخ السرد زكي)؟.

هذا الصندوق السردي يتكون من ست حكايات («المطوع»، «رمانة»، «ما سمعت أذان الملايكة؟»، «الصندوق الرمادي»، «عيسى عدو الصليب»، «صمام الشيخ»). والجدير بالملاحظة أن جميع النصوص كُتِبَتْ في مدينة هاميلتون الكندية (ما عدا النص الأخير: «صمام الشيخ»)، رغم ذلك جاءت النصوص متناسقة وانسيابية في الطرح وترتكز على تراب الواقع وهواء السخرية وماء الحياة. ربما يمكننا أن نطرح هذا التساؤل هنا، لماذا حمل الكاتب شناصه وكائناته السردية إلى تلك المدينة البعيدة الباردة، وهو في قمة انشغالاته الدراسيّة في التخصص الطبيّ الذي يحتاج إلى الكثير من التركيز؟ هل هو تعويض عن الفقد والحنين (لدى القاص مجموعة بعنوان «لا يفل الحنين إلا الحنين»). وقد يتساءل قارئ ما: وهل بالضرورة أن تعيش في مدينة ما، لكي تكتب بهذه الدقة وبالتفاصيل الصغيرة؟ هنا نكتشف مقدرة القاص الفنيّة والإبداعية في خلق شخصياته وأحداثها بهذه الدقة والخفة في تدفق الأحداث وترابطها.

يمتلك الفارسي مهارة تحويل الحدث الصغير والبسيط إلى قصة مُحكمة وسلسة ومدهشة، وقادرة على أن تضحكك وتبكيك، أو أن يحوّل أيّ حدث عادي وعابر إلى نص سردي مكتنز بالفنية والدلالات المتعددة، ونجد هذه المهارة تتجلى في معظم نصوص هذه المجموعة، حيث إننا نجد في النص الأول «المطوع» أن شخصية خليف بن قويسم شخصية بسيطة وروتينية، استطاع الكاتب تحويلها إلى نص فني مكتمل ومشوّق، وكان خليف يعمل في إحدى الجهات العسكرية، تحولت حياته بعد التقاعد إلى مسار لم يكن يتوقعه، (أو لم يخطط له) حيث أصبح إماما للمسجد في حارته، بعدما كان لا يصلي، لكن البناء الفني المحكم للنص، وتصاعد الأحداث، أقنعا القارئ بتحولات شخصية خليف، وكيف سعى هذا الرجل البسيط للبحث عن مكانة له في وسط مجتمعه، والمكاسب التي حصل عليها من زوجته بعدما حافظ على الصلاة في المسجد ورفع الأذان، وكذلك مكاسبه المادية من البيع في دكانه الملاصق بالمسجد، بكل تأكيد هناك خطاب تحت الخطاب الواضح والظاهري للنص، وعلى القارئ أن يستقرئ دلالات النص، وتحولات الشخصية من جندي متقاعد لا يصلي إلى إمام مسجد، وصاحب محل بيع مواد غذائية، فقد حاول أن يحصد المكانة الاجتماعية والدينية والاقتصادية في سعيه للوصول إلى إمامة الناس في المسجد. علينا أن نطرح سؤال الإنسان الباحث عن قيمة لحياته في مجتمع لا يعترف بالبسطاء، ولم يجد أفضل من الدين ليرفع من مكانته الاجتماعية والوجودية ليصبح إماما للمصلين. في سياق النص، لم يخطط خليف لهذه المنزلة في بيته ومجتمعه، ولكنه عندما رأى ثمار التزامه بالمسجد، وظهور مكانة له وسط المجتمع، أعجبته اللعبة التي وضعه فيها خيال القاص. «بعد أسبوعين بدأ خليف بن قويسم بانتهاز فرصة تأخر المؤذن الأعمى، ليؤذن بنفسه. صارت زوجته أكثر سعادة إذ تسمع أذانه، وتستقبله بحفاوة كبيرة عند عودته»، ص12. نلاحظ أنه حتى المجتمع يدفعك أحيانا لتلعب دورا ليس دورك، مثلما فعلت زوجة خليف وأولاده. ويدخل خليف في اللعبة أكثر، فيساهم في دفع نصف تذكرة إمام المسجد، ليس حبا في عمل الخير، ولكن حتى يصل إلى المكان الذي صار يحلم به، ولتصبح مكانته عالية في بيته ومجتمعه، إنه هوس السلطة.

وعندما نأتي إلى النص الثاني من المجموعة، والمعنون بـ«رمانة»، نجد مقدرة القاص السردية في الغوص في عاطفة «خميسوه الأغبر» ومشاعره المضطربة، محاولا استرجاع هذه المشاعر تجاه محبوبته السابقة رمانة، سبر الكاتب الجانب العاطفي للشخصية بأسلوب فكاهي، وجاد في بعض الأحيان، واشتغل الخطاب السردي على نمو العاطفة لدى خميسوه الأغبر، وكيف أن مسلسلا تلفزيونا رمضانيا استطاع أن يشعل عاطفته القديمة، وأن يسرقه من عائلته وأصدقائه في مطعم ألطاف، فقط لمجرد تشابه بين صورة حبيبته رمانة وبطلة المسلسل «لؤلؤة»، وكيف استطاع القاص توظيف حدث صغير وعابر ليقلب حياة بطل النص خميسوه، ويخلق حوارات مليئة بالسخرية مع محبوبته رمانة. النص يغوص في قضية غياب العاطفة من حياة المرء، وكذلك الحنين والاشتياق للحب الأول في حياة أي إنسان. ومن خلال الحوارات التي خلقها القاص بين خميسوه ومحبوبته رمانة، كشف لنا شخصية خميسوه العاطفية والهشة. هل نجح القاص في فتح صندوق خميسوه العاطفي؟ وماذا يفعل خفوت العاطفة من حياة الإنسان؟

وعندما تتأمل نص «الصندوق الرمادي»، تصيبك الدهشة من بداية النص إلى نهايته، وأنت تخلط الدهشة بالضحكة والحيرة، وتسأل نفسك: كيف يمكن لقاص أن يحوّل صناديق رمادية بين الشوارع (والتي نكتشف في نهاية النص بأنها رادارات) إلى نص مكتمل الدهشة والجمال والبساطة؟ وكيف يمكننا أن نتعلم من أسلوب الفارسي القصصي، إن أجمل النصوص تأتي من أبسط الأفكار والأشياء البسيطة والمهملة. وكيف استطاع أن يجعل كل شلة مطعم ألطاف تشارك في التحليلات والتفسير، كلُّ على حسب ثقافته وحسه الفكاهي. وتحت طين الحوارات يمكننا أن نستقرئ لغة السخرية من الواقع والنقد الاجتماعي والسياسي، كل ذلك بلغة رمزية غير متكلفة، ولا تميل إلى المباشرة والخطابية، وهنا تكمن قوة نصوص هذه المجموعة، لأنها تمتلك عدة خطابات، ودلالات متعددة، ومستويات بعضها ظاهر وسلس، وبعضها يمكن أن نستنبطه من بين السطور أو نستشفه من رمزية الدلالات.

وفي نص «الصندوق الرمادي»، قبل أن يصور هذا الصندوق السيارات المسرعة، عملت شخصيات النص على تحليل هذا الصندوق ودلالاته وأهميته، رغم أن بعض التحليلات عفوية وساخرة، إلا أنها كانت قادرة على أن تصور لنا مقدرة الشخصيات على السخرية من هذه الصناديق، حتى لون هذه الصناديق استطاع القاص أن يوظفه في جو السخرية: «انزين محمد... يوم كلامك صح... ليش الحكومة خلت الصناديق رمادية وما خلتها سودا؟» رد محمد بثقة: «تراها ما حلوة في حقكم ... تخلي لكم صناديق سودا وانتوا عرب وقبايل؟.. جزاها الله خير تحترمكم وتقدركم». ص44

من خلال الأمثلة السابقة، وكذلك في النصوص الأخرى التي لم نذكرها، (كما في النص الأخير «صمام الشيخ»)، نجد القاص قد حوّل حدثًا بسيطًا وعابرًا إلى مادة عميقة للسخرية، ونقد السلطة الاجتماعية بلغة رشيقة ورمزية، ونجد هذه المقدرة العجيبة لدى عبدالعزيز الفارسي في تحويل كل ما هو عادي وعابر لدى الناس إلى ما هو جمالي وفني، وكذلك جعل لكل نص عدة مستويات من الخطاب، بعضها ظاهر وبارز يستمتع به كل قارئ لنصوص الكاتب، وبعضها يندس تحت الدلالة، ونستطيع الوصول إليها من خلال ربط الدلالات ومستوى الخطاب السردي.

فعبدالعزيز وضع شخصياته في الصندوق لا ليحبسها، أو ليتحكم في خطاباتها، بل ليجعلها تتفاعل بشكل سلس مع جو النصوص، ولينظر كل قارئ من زاويته لهذه الشخصيات ويحللها، فالصندوق هنا له دلالة أخرى، وله أبعاده وزواياه، غير تلك الدلالة التي يفهمها ويعرفها الناس.

جذور الهامش، ومعمار المتن

يعتني عبدالعزيز الفارسي بالهوامش في نصوصه، وينحتها، ويربطها بالمتن بطريقة لا يمكنك تجاهل هذا الهامش أو ذاك، لسبب بسيط هو أن القاص لم يستخدم الهامش لشرح مفردة أو لتوضيح معنى غامض فقط، بل يمكن أن نعتبر هذه الهوامش جزءا لا يتجزأ من تقنيات القص لدى الكاتب، ويمكننا أن نعتبر هذه الهوامش نصوصا قصصية مكتملة التكوين، من حيث الحدث السردي والشخصيات.

سنجد مثلا في نص «رمانة» أن القاص وضع هامشين، الأول يشبه قصة مكتملة، ليدلل على مدى حب فرشانة لزوجها، أو لتبرهن فرشانة لجاراتها على عمق محبة خميسوه الأغبر لها، حيث نجد هذه العبارة في متن النص القصصي «كانت ترى في كل حركاته وسكناته دليلا صادقا على حبه المتجدد» ص17، سيقول أي قارئ للنص، إن الجملة السابقة مكتملة البناء وواضحة المعنى، فلا تحتاج إلى شرح أو إزالة أي غموض، فلماذا وضع القاص لهذه الجملة هامشا، لكن للفارسي رأي آخر، ومن قال لنا إن القاص يستخدم الهامش للشرح، هو له غايته ولعبته الخاصة من الهامش.

سنجد هذا الهامش الذي نحته القاص بشكل فني للجملة السابقة: «حدثتني عمتي عن سندية عن رحوم البيرق قالت: «راح خميسوه الأغبر سوق الإيرانية بالفجيرة، واشترى درزن أكواب حق الشاهي بعشرة دراهم، ومن يوم يابهن البيت من ثلاث شهور، وكلما تدخل عليهم حرمة تزورهم، تركض فرشانة إلى غرفة النوم وتطلع الأكواب من الكرتون وتروح تراويهن الحرمة...» ص17، من خلال تحليل هذا الهامش المرتبط بفكرة النص الأم، نجد أن القاص استفاد أنه لم ينسب قصة الهامش لنفسه، بل وصلت إليه من خلال ثلاثة رواة وهم: عمته/ وسندية/ ورحوم البيرق، أي بأن ساردين الهامش هم من أوصلوا له قصة أكواب فرشانة، فهذه المسافة بين النص وسارديه أعطت للقاص مجالا واسعا للخيال وابتكار نص صغير، لذا نجد أن السرد في نص الهامش وضّح للقارئ مدى تعلّق فرشانة بزوجها خميسوه الأغبر، لا يمكن لأي قارئ أو ناقد أن ينكر أو يقول إن هذا الهامش لا يصلح أن يكون نصا مستقلا.

وهناك وظيفة سردية لهذا الهامش، كشف لنا جزءًا من شخصية فرشانة، وكيف ترى معنى الحب، وربما هذا سبب يمكن أن يدفع خميسوه الأغبر أن يبحث عن حب متخيل، ولو كان بعيدا في سراب «رمانة».

أما الهامش الثاني في هذا النص، فوضعه القاص لتوضيح معنى مصطلح «سنة سكتو»، كان بمقدرة القاص أن يكتب شرحا مختصرا لهذا المصطلح، إلا أنه لم يترك الهامش دون أن يدخله في لعبة السرد، فصنع لـ«سنة السكتو» حدثا سرديا، بعدما شرح المصطلح شرحا فنيا، فسرد حكاية شبه مكتملة فنيا.» قبل سنوات ـ في العقد الأول من الألفية الثالثة تحديدا ـ فتحت إحداهن موضوعا في موقع إلكتروني وطني تسأل فيه: «ما أصل سنة سكتوا؟». وجاءها رد المشرفة الأمنية على الموقع: «يرجى مراجعة ضوابط الطرح في الموقع حتى لا يتعرض موضوعك للغلق»، وأضافت المشرفة تعليقا وديّا: «هناك مواضيع أخرى كثيرة بارك الله فيك»... سكتنا! رجاءً عُد إلى نص القصة. ص18

يمكننا أن نلاحظ على هذا الهامش كذلك المشهد السردي مكتمل البناء، من حدث وشخصيات وحوار ونهاية، لكن نهاية هذا الهامش هي التي تصدمنا ولم نتوقعها، كان هدف الهامش توضيح معنى سنة السكتو، لكنه يختم الهامش بكلمة، سكتنا، غير أن سكوت السارد جاء بعدما سرد قصة الهامش، ويضيف جملة ملتبسة ليختم بها هامشه: رجاءً عُد إلى نص القصة. لا ندري هل هذا الخطاب من المشرفة الأمنية في الموقع الإلكتروني موجّه للقاص، أم أنه من القاص يوجهه إلى قارئ النص. من خلال هذا الهامش نرى مقدرة القاص في اشتقاق الكلمات، وربطها بنص الهامش. وفي سياق الاشتقاق من الكلمة، وضع القاص في نص «صمام الشيخ» هامشا لاسم شوماخر وهو حارس الفريق الألماني، وحوّله إلى سؤال بالعامية بلسان عبيد بن راشد: شو ماخر؟ سلامتك ما ماخر شيء.ص61

ونجد في نص «الصندوق الرمادي» أربعة هوامش، سنركز ونحلل الهامشَيْن الأول والرابع، حتى لا نكرر التحليل. نجد في متن النص القصصي هذه العبارة التي سيضع لها القاص هامشا طويلا في أسفل الصفحة. «تدخّل أبو الخصور: «الخبر عندي يا جماعة.. هذه الصناديق الغبرا أعرفها زين.. شفتها في تايلاند. هذي سينما حكومية». ص 38

في بداية الهامش يعتذر القاص للقرّاء بسبب إقحام قصة أبو الخصور في متن القصة من دون تمهيد مسبق للشخصية، وينسب هذه القصة الجانبية في الهامش إلى سارده الملعون الذي ابتزه لكي يكتب حكاية أبي الخصور، كل ذلك يمكن تسميته من تقنيات عبدالعزيز في صنع هامش مختلف ومغاير. يكتب القاص في الهامش بعد الاعتذار، ونسب هذه الحكاية إلى السارد الملعون المبتز: «ودع أبو الخصور الناس ناويا الذهاب إلى تايلاند، وفي الصباح التالي، رأوه على دراجته الحمراء ـ هوندا 70 ـ أمام مطعم ألطاف يحتسي الشاي المشهور، الذي نشبهه بالقهوة الإيرلندية لتأثيره المسكر في حواسنا، وحين سألوه عن رحلة تايلاند المزعومة قال لهم إنه ركب الطائرة، وحين وصلت الطائرة إلى الهند تعطلت وظلت معلقة في الهواء،... واشتغلت الطائرة، ولكن أبو الخصور طلب منهم العودة إلى الخلف وإنزاله في مسقط لأنه كره مواصلة الرحلة، واشتاق إلى مطعم ألطاف..» ص38 ، قد يتساءل القارئ هنا ما علاقة أبي الخصور في المتن والهامش بأحداث القصة؟ ذلك لأنه فسّر وجود الصناديق الرمادية في شناص بأنه رآها في تايلاند، وفسر ذلك بأنها سينما، لكن الهامش القصصي لهذا المشهد، يفضح أبا الخصور، لأننا نعلم أن أبا الخصور لم يصل إلى تايلاند، وأنه بعد هذه الحادثة لُقّب بالكذاب: «من ذلك اليوم بُويع «أبو الخصور» على أنه الكذاب رقم واحد في شناص».

الهامش السابق يؤكد ما أشرنا إليه سابقا في هامش نص «رمانة» بأننا يمكن اعتباره نصا سرديا مكتملا أو ربما يمكن أن نطلق عليه النص الابن للنص الكبير، والأمر الثاني الذي أشرنا إليه ويتكرر هنا، أن عبدالعزيز نسب هذا الهامش إلى السارد الملعون الذي ابتزه ليكتب عن أبي الخصور. وهذا الهامش له دور آخر، وهو نسف رواية أبي الخصور وتحليلاته، حيث إننا نكتشف أنه لم يصل إلى تايلاند فكيف يقول لنا إن هذه الصناديق شاهدها في تايلند.

أما الهامش الأخير من هذا النص، فهو مختلف كذلك عن الهوامش السابقة، وهذه نقطة يجب التوقف عندها قليلا، في هوامش عبدالعزيز الفارسي، حيث نجد أنه نوّع مهام ووظائف الهامش أولا، وثانيا: في الهامش تندس حكاية مستقلة نوعا ما، لكنها مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالنص الأم، والنقطة الثالثة أنه نوّع من الساردين للهوامش بطرق مختلفة.

وبالعودة إلى الهامش الرابع من هذا النص، نجده مختلفًا قليلا، أولا لأنه جاء في نهاية القصة، ما يعني أنه ليس هناك كلام يقال بعد القفلة/ النهاية، وثانيا أن السارد يعاتب القاص، على النهاية التي لم يتفقا عليها، وكأن النهاية لم تعجب السارد، فقرر أن يضع نهايتين للنص، وعلى القارئ أن يختار أي نهاية تعجبه وتدهشه، نهاية المتن أم نهاية الهامش ( نهاية القاص أم نهاية السارد؟). «لم تكن هذه هي النهاية التي أمليتها على الكاتب حين أوحيت له بفكرة القصة، وأرى من واجبي تبرئة نفسي من أي استياء قد يصيب القارئ حين يقرأ هذه النهاية المبتورة التي تعكس في نظري حذر الكاتب وتخوفه من أي مساءلة..»ص47، المدهش في هذا الهامش أن السارد لم يقتنع بنهاية الكاتب للنص، وعاتب الكاتب على تسرعه وتخوفه من المساءلة، وقرر هذا السارد، (محاولًا التمرد على الكاتب) أن تكون نهاية مختلفة ومكتملة للنص الأم «الصندوق الرمادي»، وهذه النهاية معجونة بالسخرية. في الهامش الوارد في ص38 وصف الكاتبُ الساردَ بالملعون، أما هنا فكأن السارد يحاول أن يتهم كاتب النص بالجبن والخوف. لذا واصل السارد كتابة نهاية مختلفة للنص: «... مرة تسللوا بالليل ووضعوا على أعينها قطعا سوداء من القماش منعت التقاطها لصور السيارات.. وحين أزالت الشرطة القماش.. أحضروا بخاخات صبغ ورشّوا بها عيون الصناديق... ومن يومها رأى الجميع الحكمة التوثيقية وراء زرع الردارات.. وصارت ردة فعل أي سائق يباغته الرادار أن يضحك قائلا: «شييييييييز» ص 47. نلاحظ أن النهاية التي كتبها السارد أصبحت مختلفة جدا، وبطريقة ساخرة جعلت الناس يضحكون كلما مروا بضوء الرادار، هل هو ضحك للفرح أم للسخرية من الواقع!. وحتى لا ينسب الكاتب هذا الهامش لنفسه ختمه: «السارد إياه». بالطبع وردت هوامش لتوضيح بعض الكلمات والأمكنة.

قلتُ سابقا إن نصوص عبدالعزيز الفارسي ذات مستويات متعددة في القراءة والتأويل، لذا فإن هناك جوانب يمكن للقراء والنقاد والدارسين لأعمال عبدالعزيز أن يتأملوها ويدرسوها، ومن هذه الجوانب، مستويات السخرية في نصوص القاص، وأساليب طرحها، وكذلك كيف يجعل القاص المكان فاعلا داخل النصوص، فشناص، ومطعم ألطاف ليست أماكن لتأثيث النص بقدر ما هي أدوات فاعلة ومتفاعلة داخل النصوص، وحتى لو خرجت الأحداث إلى تايلند أو ألمانيا أو أي مكان خارج الحدود فإنها تعود لتشرب الشاي من يد ألطاف. أما نهايات النصوص فعبدالعزيز يصدمك بقفلة لا تنساها، لا يمكن على سبيل المثال أن ننسى نهاية نصوص «المطوع»، و«رمانة»، و«صمام الشيخ».