سؤال هارب من هزيمة عمياء
نص : حمود سعود
" لو قرأنا كل جُمل كتاب الحياة حتى النهاية، سنجدُ أنها تنتهي بسؤال".
بيسوا
*** *** ***
ـــ ما الذي يفعله الحزن بروحك؟
ــ يكسر المعنى الأعرج للأشياء، ينحتُ الحنين في عينيك التي لا ترى سوى العتمة.
وهل للأشياء معنى حين يشق الحنين روح المرء؟
لكلّ الأشياء معنى، تحمل الأشياء أكثر من معنى حين تُصاب اللغة برماح القمع؛ معنى ظاهريّ مخادع يقود الآخرين إلى فخاخ الخديعة، ومعنى حقيقيّ لا يصله المرء إلا في عزلته الجارحة، حين يصبح رمادُ العمرِ سريرًا لأسئلته القلقة، ويصير السؤال عكّازًا لأحلامه وصمته، وحين تصبح الظلال أجمل كلماته.
*** *** ***
في المرايا التي تحجب الباب والمعنى، ترى الجبال تركض نحو "وادي الميح" ، تحمل كينونتها الأولى، وصوت الرعاة الذين حاصرهم الجفاف، في المرايا التي تحجب الباب والطريق والمعنى يتسلل السؤال الضجر مرة أخرى إلى روح المرء، ما جدوى كل هذا الخيال؟
وقبل أن يدخل السؤال من الباب المُغلق، وفي المرايا التي ركضت فوقها جبال وادي الميح، وحملت معها أشجارها وحجارتها وظلالها، وقف الطائر الأبيض على سفح تلك الجبال، ينادى سلالات البشر والضوء والأحلام، ليوقفوا هجرة الجبال، الطائر ظلَّ ينادي ويستغيث إلى الفجر، وظلَّ السؤال واقفًا على الباب، والرجل ظلَّ نائمًا في المقهى، المرايا الواقفة في الحلم هي من قادت تلك الخيالات.
وأمام تلك المرايا التي شكلت حديقة الخيال في مخيلة الرجل النائم، وقفت امرأة تحمل بقلبها رماد عاطفتها، وسألت المرايا وقلبها والرجل النائم: كيف ذبلت حديقة القلب؟
*** *** ***
سؤال الطفل أنقى الأسئلة وأنبلها
أسئلة الأم محفوفة بقلق الأمومة الأولى
سؤال الأعمى جسر خشبيّ نحو غابة الإيقاع
سؤال الناقد ملغم بفخاخ النظريات وأوهامها
سؤال السارد يجرح جسد النص، وصيرورة الزمن.
سؤال المحقق قبح اللغة والاستفهام.
سؤال اللغة أكثر الأسئلة تمردًا
سؤال الفيلسوف قنديل يكسر زجاج اليقين
سؤال الأمكنة محصور في ذاكرة الموتى
سؤال الفن يشبه لوحة لفنان أعمى على جدار أبيض.
في البدء كان السؤال صامتًا في مخيّلة إنسان الغابة، ما الوقت؟ ما المكان؟ أين الطريق؟ لماذا تحاصرنا أصوات الليل وقلق العتمة؟ كبر السؤال وتمدد في مخيلة الإنسان النائم في الكهف، أصبح للسؤال سلالات وأبناء يحملونه في جنازات ليليّة. تدحرجت الأسئلة الأولى في أفواه الأطفال، ما الشمس؟ ما لون الزمن الجارف؟ نبتت الأسئلة في قلوب الأمهات غابات وحقولا، حمل الحطابون قلق الأمهات إلى مواقد المجهول، عادت بعض الأسئلة إلى كهوف الدهشة الأولى، وتاهت أسئلة أخرى في أدغال الإنسان الهارب إلى سلالم المعرفة. ما الحب؟ وما الموت؟ عاد الإنسان إلى كهفه بعدما جرحته أسئلة الحياة.
لكلّ العابرين والراحلين والمنهكين والحالمين أسئلتهم، يموت السؤال حين يزاحمه وهم اليقين. تموت أسئلة الرحلة حين ينام قبطانها، وتنتحر أسئلة التلاميذ حين تخنقنهم "الوطنيات الضيقة" ويقينيات المعلم، للسمكة المحبوسة في الحوض الزجاجيّ في بهو المطعم سؤالها الدائم، عن معنى البحر في الأغنية النازلة من سقف المطعم، سؤالها عن معنى الحرية التي يتكلم عنها الجياع الذين يدخلون المطعم. لحارس المقبرة الأصم سؤاله عن معنى الحياة وجدوى الموت، يغلق باب المقبرة، ويغلق نافذة السؤال، يحمل حفار القبور سؤال الحياة، وتحمل العاشقة في القطار الذاهب إلى المدينة سؤال الموت.
في الصباح دحرج الطفل سؤاله إلى أذن الأم، عن أحلامه، عن الوردة الحمراء التي سقطت على سريره، وعن حذائه المفقود في الغابة، لم تجد الأم جوابًا لسؤاله الصباحيّ، لأن سؤاله كان يكبر في رأسها عن الوردة الحمراء التي رُمت خارج النافذة البارحة، كيف سقطت في حلم طفلها.
سؤال الزمن جرح في عين الفلاح
سؤال الطريق حذاء لأقدام المهاجرين.
سؤال الشعر فخ للمعنى
سؤال الظلال تدريب أوليّ للعزلة.
*** *** ***
كلب نائم خلف مقهى منزوي، تلسعه شمس النهار، يحمل سؤاله اليوميّ، ما الضجر؟ سلحفاة محاصرة في محل الطيور، تسأل البائع، ما الحرية أيها الجشع؟ طفل يسأل القمر، لماذا لا تحملنا معك لنرى الأحلام البعيدة؟ يحمل القمر سؤاله البدائيّ ليقلق مخيلة الشعراء والعشاق.
يسأل الناقد اللغة عن طفولة الأسئلة الأولى، تحتار اللغة في تحديد ولادة الأسئلة للمرة الأولى، وتعتذر للناقد، لا أتذكر كيف ولدت الأسئلة من رحمي، لكن السؤال كان قدم الإنسان الأولى وبصره وسمعه وأصابع تجاربه، كل الأشياء كانت تتحول إلى أسئلة كثيرة.
يُفكر السؤال في طفولة الأشياء، عندما يقترب السؤال من الأشياء يُفسد براءتها الأولى، عندما نكتشف أن القمر لا ينام، بل يدور في مخيلة العلماء، نسحب الأسرة التي جهزها الأطفال له في أحلامهم. ماذا فعلت أيها السؤال بدهشة الأطفال؟ تتكاثر علامات الاستفهام وتموت حقول الدهشة بداخلنا.
سيصرخ فيلسوف ردمته الأسئلة في حفر الحيرة، لكنه السؤال أيها الأعمى من قادك لدرب المعرفة، يرد الأعمى ما جدوى المعرفة الجافة الجارحة أيها الفيلسوف؟
للمرضى بالحنين أسئلتهم عن المسافات، وللمنفيين سؤالهم عن معنى البلاد، وللمنصتين لجروح المعنى والزمن أسئلتهم الجارحة، للطائر الواقف على باب الحديقة سؤاله عن فرح الأطفال وحزن الأرامل، للسجّان الواقف على باب الزنزانة رعبه من سؤال الضمير، يندس الرسام خلف أسئلة اللوحة، والفلاح لا تقلقه أسئلة الفصول.
الفن لا يُجيب عن سؤال الإنسان ودهشته، بل يدسُّ الأسئلة قبل أن تتمدد في نظرات الإجابات النزقة، والفن لا يُقدم الإجابات المسكنة لأرواح عشاقه، بل يدفعهم إلى بحيرات الأسئلة، لعل سمكة واحدة في تلك البحيرات توقظ فيهم لذة السؤال.
*** *** ***
في الصباح تولد الأسئلة الوجودية عن جدوى كل شيء، في الليل تتخمر تلك الأسئلة في عزلة الكائن وقلقه، ماذا لو قال الرجل: لن أفتح الستارة، لن أصحو هذا الصباح، لن أنزل من شقتي، أو غرفتي أو كوابيسي.
ما بين الصباح والليل، تهرب الأسئلة من قبح الزحام، وضجيج الشوارع، ونزق قاعات الدراسة، تظل تراقب ضجر قطط الشوارع، وكسل الكلام تحت الجسور، وحزن النادل في المقهى. حتى الأسئلة تحتاج إلى قيلولة.
عيون الموتى في اللوحات الواقفة على الجدران، تسأل من تبقى من العائلة، هل تتذكروننا، هل فتحتوا الستائر؟ وتسأل الستائر عيون الموتى عن الضوء الغائب.
*** *** ***
الحصون المغلقة في أعالي الجبال هي أسئلة الحرب المفتوحة، والمتاحف هي سؤال الزمن الهارب من توحش الأمكنة، والمقهى فخ لسؤال العاطلين عن الأمل والحلم، المكتبة سؤال المعرفة النزق، والطريق سؤال الرحلة الصامت، والموسيقا سؤال لا يبحث عن إجابة ولا عن يقين، والكتابة التي لا تفجر الأسئلة في دواخلنا هي جثة منسية.
الرماد ليس جوابًا لحرائق الحيرة، بل هو سؤالا لخيبات القلب وانكسارات الروح، أناشيد الرعاة ليست جوابا لطفولة الأرض، بل سؤالًا لبراءة الحنين الأولى، فزاعة الحقل هي سؤال الفلاح الذي يشهره ضد غزاة الليل ولصوص الفجر.
يرى السؤال ضحاياه وأحلامه، وأشجاره التي بذرها في حقول التلاميذ، ويرى الفلاسفة يلوكون أطرافه، يرى المعلمين يحذرون التلاميذ من صعوبته وتوحشه، يرى التلاميذ يرتعبون منه في صباحات الرحلة.
و
ي
ص
م
ت.
* حمود سعود كاتب وسارد عماني
