No Image
عمان الثقافي

زهران القاسمي ونكهة نجيب محفوظ

26 يوليو 2023
26 يوليو 2023

«المحلية طريق للعالمية» هي مقولة يتم بها وصف أدب «نجيب محفوظ» الذي يدور عادة في الحارة المصرية، وكانت المحلية هي طريقه إلى العالمية وإلى جائزة «نوبل».

أدب الروائي والشاعر العماني «زهران القاسمي» يتمتع بالمحلية الخاصة به حيث يدور في قرى «عُمان»، وهي المحلية التي قادت روايته «تغريبة القافر» إلى جائزة «البوكر» وستقوده إلى جوائز أخرى عديدة بإذن الله.

أعترف أنني لم أكن قد قرأت من قبل أعمالا للشاعر والروائي «زهران القاسمي» إلا بعد أن فاز بـ «البوكر»، وبالطبع فإن أحد مميزات الحصول على جائزة هو أنها تنبه القراء إلى أعمال متميزة لم تكن قد حصلت على نصيبها من الشهرة.

أما تأشيرة المرور عندي للتعجيل بقراءة روايته الفائزة فهو أنني قد رأيت لحظة حصوله على الجائزة، فلفتتني كلماته المتواضعة، وابتسامته الطيبة، وفرحته التي جعلته متلعثما. فكان التلعثم هو رونق البلاغة، تلك البلاغة التي وجدت أن روايته الفائزة عامرة بها، كما وجدت بين سطورها معلومات عن نظام الري والأفلاج مغزولة بانسيابية، عبر وصف أخاذ للبيئة العمانية القروية، في حبكة محبوكة، إلى درجة أنني شعرت بأن أجواء الرواية قد امتلكتني وأن روحي قد تعلقت ببطلها وبتفاصيل حياته هو والذين معه. أما اللغة فلولاها ما تتبعنا الحكاية، ولا شهقنا خوفا على الباحثين عن الماء ولا انشغلنا بمصير المنهكين من الضرب على الصخر لتحرير مصدر الحياة. إنها لغة شديدة الجاذبية والسلاسة كانسياب الماء وعذوبته.

فمنذ السطر الأول حيث صيحة «غريقة، غريقة» التي تبدأ بها الرواية، وجدت نفسي ألهث مع أهل البلدة الذين يهرولون للاطمئنان على ذويهم قبل ظهور هوية الغريقة، وأنشغل بشخصية الوعري سلام ود عامور الذي لم يتردد في النزول إلى البئر وإخراج الجثة، وأتأثر للمفاجأة التي وقعت على «عبد الله بن جميل» عندما رأى أن زوجته هي الغريقة.

ثم إذا بي أجد أن الصيحة المتتابعة «غريقة، غريقة» التي افتتحت الرواية بها لم تكن هي المفاجأة الوحيدة، فالمفاجأة الأكبر خرجت مدوية عبر صيحة أخرى أيضا متتابعة وجدتها أمام عيني كأنها تدمدم خارجة من السطور بأن الغريقة: «في بطنها حياة، في بطنها حياة».

فالغريقة التي تم إخراجها من المياه كانت في شهر حملها الأخير وفوجئت النساء عند تغسيلها بأن الجنين الذي في أحشائها يتحرك، ووسط الجدل حول ماذا يفعلون، إذا بسيدة جريئة تحسم الأمر وتنتزع سكينا من حزام أحد الرجال وتشق بطن الغريقة وتخرج الجنين.

إنه الجنين الذي سيصبح بطل الرواية الذي أطلق عليه والده اسم «سالم» لأن الله قد سلمه، والذي سيحمل بعد ذلك لقب «القافر» لقدرته على تتبع أماكن المياه في باطن الأرض.

هذه البداية للرواية تذكرني بما فعله نجيب محفوظ مع بطل رواية «الحرافيش» «عاشور» الذي يرمز إلى القوة العادلة، والذي أخذنا الكاتب الكبير لنرافقه بعد ولادته، حيث افتتح الرواية به لقيطا أنقذ حياته شيخ عجوز كان في طريقه إلى المسجد للصلاة فسمع بكاءه فحمله إلى بيته ليكبر في ظل رعايته ورعاية زوجته. بما يوحي به هذا الافتتاح للرواية برمزية العدل اللقيط الذي تخلى عنه أهله، وتولى آخرون رعايته.

كذلك كان افتتاح رواية «تغريبة القافر» للروائي العماني «زهران القاسمي» بمشهد الجنين الحي الذي يتحرك بداخل أحشاء أمه التي ماتت غرقا، يوحي لي منذ البداية بأمتنا التي غرقت وفقدت الحياة بينما يتحرك في أحشائها جنين ما زال ينبض بالحياة. تلك الحياة التي خرج إليها الحي من داخل الميتة عبر سكين التقطته امرأة جريئة من حزام أحد الرجال، السيدة هي «كاذية بنت غانم» حيث فتحت بطن الميتة، وأخرجت المولود الذي سمع الموجودون صراخه معلنا الانتقال إلى الدنيا، والذي لم يكن هناك سبيل لخروجه إلى النور إلا عبر سكين لم يستعمله صاحبه، وانتزعته منه اليد التي تحمل الإيمان بإخراج الحي من الميت. فلسانها من بين دموعها المشبوكة في ابتسامتها كرر ترديد الصيحة الثالثة في الفصل الأول: «يخرج الحي من الميت» بعد الصيحة الأولى «غريقة، غريقة»، والصيحة الثانية «في بطنها حياة، في بطنها حياة». الصيحة هذه المرة جاء تكرارها ثلاث مرات وليس مرتين مثل الصيحتين السابقتين، فبدت كهتاف يدوي في عدة اتجاهات كي يصل إلى مسامع الجميع.

ذلك المولود الذي سيتضح عبر الرواية أنه يتمتع بملكة تجعله يستطيع الاستماع إلى صوت الماء الذي هو نبع الحياة خلف الصخور وبالتالي تحديد أماكنه، إلا أن الناس قد ظلوا لفترة طويلة لا يصدقونه مثلما هو حال أصحاب الدعوات عادة، ثم عندما اضطروا إلى تصديقه حينما ازداد شح المياه نرى عبر صفحات الرواية تواصل جهوده لتحرير الماء من الصخور كي يستفيد منه الجميع، فنراه محاربا دؤوبا يضرب الصخر العتيد حتى آخر سطر في الرواية، أيضا كحال أصحاب الدعوات الذين تقف صخور معنوية ومادية عديدة في طريق حلمهم بتوفير أسباب الحياة للناس.

ربما يرى البعض فيما أوحى لي به مشهد البداية من رموز هو نوع من التعسف في القراءة، إنما لقد وصل المعنى إلى وجداني هكذا، أوليس نجاح الرواية يتحقق عبر إكمال القارئ لها، كل بحسب ما توحي له به الرواية. وهو الأمر الذي قام بتدوينه الروائي المصري الراحل «بهاء طاهر» الحائز من قبل مثل «زهران القاسمي» على جائزة البوكر خلال روايته الفائزة بالجائزة «واحة الغروب»، حيث نجده قد أشار عبر سطور الرواية إلى أن الحكاية لا تكتمل بروايتها، إنما يكملها من يسمعها.

التفاصيل محلية والقضايا إنسانية

نعود إلى نجيب محفوظ كي أشير إلى أنه إذا كانت الشخصيات والأماكن في رواياته محلية إلا أن القضايا إنسانية، وأكثر قضية ارتبطت بها أعماله هي قضية القوة والعدل، فـ«الفتوات» في عالم نجيب محفوظ يمكن أن نتعامل معهم بخلفية صراع الحكام وسحق الشعوب، كما يمكن التعامل مع تنويعات الفتوة بتطبيقها على سيطرة الدول الكبرى القوية على الدول الضعيفة وفرض مخططاتها عليها، وفي الوقت نفسه نستمتع بالرواية عندما نقرأها كحدوتة بعيدا عن الرموز.

كذلك أحداث رواية «تغريبة القافر» لـ «زهران القاسمي» عندما نقرأها كمجرد حدوتة نجدها ممتعة، لكن مع مزيد من التأمل بين السطور نجد أن الأحداث التي تدور في مناطق محلية بسلطنة «عُمان»، تتضمن قضايا عامة تشترك مع الواقع الإنساني عبر الدنيا مع الفرق في التفاصيل، فموضوع المياه حاضر بقوة في الرواية، إنما على الرغم من المحلية العمانية حول المياه ومواسم الجفاف ونظام الري القروي في الرواية إلا أن قضية المياه قضية إنسانية، أنا مثلا ابنة وادي النيل التي يشغلها قضية حصص مياه النيل بين البلدان التي يجري فيها النهر، والمخاطر التي تشغل أهل وادي النيل نتيجة لإقامة دولة المنبع «إثيوبيا» السدود على النهر، وتأثير ذلك على كمية المياه التي تصل إلى دول وادي النيل الأخرى. فقضية المياه صارت موضوعا من الوارد أن تتفجر بسببه الحروب.

الماء والمال

أما ثنائية ضرر الماء الوفير أكثر من اللازم، وكذلك ضرر قلة الماء فإنها تستدعي في وجداني فكرة «المال».

فالرواية تتضمن ثلاثة أحوال للماء. أحدها هو حين يكون متوفرا بحسب احتياجات الناس بدرجة متوسطة، والآخر حين يشح ويختفي، والثالث هو حين يزداد أكثر من اللازم.

أحوال ثلاثة لو طبقناها على المال أيضا لوجدناه في صورته المتوسطة بحيث يكفي احتياجات الناس كي تسير الحياة على ما يرام هو أفضل حال، أما إذا كان شحيحا فالعوز والفقر مأساة، كما أن المال أيضا كالماء إذا تدفق غزيرا مندفعا أكثر بكثير من الاحتياجات لهدم في طريقه أشياء عديدة. الماء الفائض قد يدمر في طريقه كثيرا من القرى، والمال الفائض قد يدمر في طريقه كثيرا من القيم.

الحبس والحرية

وإذا كانت اللغة طوال الرواية سلسة ولينة، فإنها في الوقت ذاته فضفاضة وموحية في كثير من الأحيان، ومن ذلك تكرار استخدام المؤلف لتعبير أن الماء محبوس خلف الصخر. ففي وصف المؤلف لحرص القافر على فتح الطريق للمياه المختفية تحت الصخر نقرأ: كأن الماء يدعوه متوسلا تحريره من سجن الأرض.

كما نقرأ: الخرير يناديه من أعماق الصخر حتى يصل إليه فيحرره من سجنه.

وفي موضع آخر كتب: تنتظره عيون الماء لينقذها من سجنها الحجري.

بما يحمله التعبير وتكراره من إيحاء بأن أسباب الحياة عندما تكون حبيسة فإنها تكون في احتياج إلى من يساعدها على الخروج من محبسها. فيبدو تكرار استخدام تعبير الحبس للماء، والصخر الذي يمنع الماء من الخروج من محبسه سببا في أيقاظ المعنى المجرد للشوق إلى الحرية وما يوضع في طريقها من عقبات.

فشوق القافر سالم بن عبد الله بطل الرواية لتحرير الماء أو مصدر الحياة من محبسه خلف الصخر من أجل توفير حياة طيبة للناس، يتماس مع أشواق الحالمين بإنقاذ مصادر الحياة في مواجهة الذين يمنعون وصولها إلى الناس.

وتتضمن المشاهد التي تتكرر في الرواية حول الطريق لتحرير الماء من الصخور التي تحول بينه وبين الناس مفهوم أن العمل الجماعي وحماس سواعد الرجال هو الطريق لتحدي الصخور. حيث رأينا صخورا عديدة في الرواية لم يتم تحرير الماء من خلفها إلا عبر انضمام أياد عديدة في مواجهة الصخر.

كما تتضمن المشاهد أيضا مفهوم أهمية النفس الطويل وعدم قطع سيل الضربات فوق الصخور، فعندما كانت سواعد الرجال تضرب الصخرة الشديدة بالمطرقة القوية، ثم طال الوقت وأراد الرجال أن يرتاحوا صاح فيهم الصوت الخبير: لا تتركوا الصخرة تبرد، فعندما يقف شيء في طريقنا لوقت طويل لا يجب أن تفتر منا الهمة، وبالطبع لا يجب أن نيأس. وعندما كتب المؤلف عن البطل في أحد المشاهد أنه قد ظل أمام الصخرة عاجزا عن إزاحتها أو شقها من أجل أن يفك القيد عن سجينه الذي يناديه إذا بالمشهد من الوارد جدا أن يجعل القارئ يتذكر أنه كم في حياتنا من صخور تحول بيننا وبين ما نعلم أنه هو السبيل لتحسين الأحوال، وأنه لا سبيل لإزاحة تلك الصخور إلا بالمواجهة وبالدأب وبالتعاون.

إن تجدد المشاهد الطويلة التفصيلية في الرواية حول الجهود المستبسلة لتحرير الماء من الصخر الذي يحول بين الناس وبين الانتفاع به، حيث يضعون الخطط لاختيار أنسب مكان للمواجهة، ثم تنهال ضربات السواعد العفية. تلك المشاهد كأنها متوجة بقول أمير الشعراء «أحمد شوقي»: «وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا». وهو أمر جوهري تبثه صفحات الرواية في نفس القارئ في غالبية الفصول، وصولا إلى عدم استسلام القافر حتى آخر لحظة إلى أن تمكن من فتح خاتم الفلج، ونال ونالت المياه الحرية.

الظلم والوطن

ومن القضايا الإنسانية الحاضرة أيضا عبر سطور الرواية قضية الظلم من أصحاب الجاه الذين يستبيحون أكل أموال الضعفاء، حيث نقرأ قول القافر أن أهل قريته يستقوون على الضعيف، ويشمتون بمصائب المساكين، لكن في بيوت سادتهم يغدو العيب حكمة، والجنون فطنة ورجاحة. فالأعمى من أصحاب الجاه بصير بمكانته، والجبان قوي بماله أو بانتمائه لبيت يعصمه. أما الفقراء الذين لا يجدون ظهرا يحميهم ولا مالا يرفع من شأنهم فيكونون عرضة لألسنة الناس ولتجريحهم.

ويتكرر في الرواية الحديث عن اهتمام أهل القرية بالتحدث حول أخبار ما يفعله الآخرون، مع بعض التعديلات الضرورية لإضفاء النكهة اللازمة لبقاء الحكاية طازجة، وساخرة، وبالأخص مثيرة على حد تعبير المؤلف. مع تأويل أسباب أمور عديدة وربطها بالجن بدلا من الانشغال بخالق الجن والإنس، وهي أمور ترتبط عادة بعوالم الفقر والجهل، ليس فقط في قرى عمانية وإنما في كثير من القرى ببلاد أخرى.

نعود إلى سالم بن عبد الله أو القافر فنشير إلى أنه لا يملك شيئا في قريته، لا نخل ولا ضواح، فقد نهبوا إرث جده، ولولا زنده القوي الذي يعمل به في نخيل الآخرين لما وجد قوت يومه. لذلك نقرأ النصيحة الموجهة إليه بأن يبحث عن بلاد يعيش فيها بكرامته ولو غريب.

كما نقرأ نصيحة والده له وهو يحتضر: «البلاد اللي تاكل أموالك بلاد فاجرة، دور على بلاد غيرها».

إنما هذا لا يمنع أن ينظر القافر خلال أحد المشاهد إلى الشمس وهي تميل ناحية الجبال البعيدة، حيث تغرب مخلفة كائنات وبشرا يلتحفون العتمة حتى موعد شروقها الجديد.

قوة الحب وعذوبته

كذلك فإن حياة القافر الصعبة لم تمنع قلبه من أن يحب. وبالطبع فإن الحب موضوع إنساني وإن تنوعت التفاصيل في البيئة العمانية المحلية عن غيرها من الأماكن، إلا أن الانجذاب لقيمة الحب وما يفعله في تلوين الحياة وتجميلها هو قيمة عالمية. فنقرأ قصة الحب الصافي للقافر مع تلك الفتاة التي تبادلا الابتسام مرة واحدة في طفولتهما وهي تعبر قريته، ثم ظهرت أمامه من جديد بينما صار في الخامسة عشرة من عمره فهام في حبها.

مع ملاحظة أن المياه كانت حاضرة بتمكن من قلم المؤلف في الوصف الذي يليق بشخصية القافر في حالة الحب، حيث نقرأ عقب أن التقت عيناه بالحبيبة: ظل تلك الليلة يتقلب في فراشه، ليس كمن يتقلب على جمر، ولكن كمن تؤرجحه أمواج السيل الجارف، فلا هي تقذف به على الضفاف، ولا هي تسلمه للغرق.

ثم قوله: نظرت إليه وابتسمت، قالت له «صباح الخير»، فسمع أهازيج أعياد وفرح «تترقرق» في صوتها.

ثم عندما تزوج (القافر) سالم بن عبد الله منها «نصرا بنت رمضان» نقرأ وصفا شديد العذوبة: «في الفراش معا سمع وجيب قلبها وسكنت روحه».

أما زوجة القافر فهي الحب كله، إنها ترى فيه إنسانا غير الذي يراه الناس، الناس الذين يقيسون بمسطرة الجاه والمال والمكانة الاجتماعية على حد تعبير المؤلف. وعندما اختفى أثناء قيامه بتجهيز أحد الأفلاج في قرية بعيدة وأشاع الناس أنه قد غرق، إذا بها تؤكد أنه لم يغرق. أما دليلها فلم يكن إلا قلبها، حيث جاء قولها أنها لا تزال تشعر بحرارة روحه، ووهجه في قلبها، ورفضت التصديق بأنه قد غرق.

بالتالي ظلت بعد اختفائه تعيش في بيتها الذي عاشت فيه معه قبل سفره الأخير للبحث عن الماء في تلك القرية البعيدة، حيث جاء قرارها قاطعا: سوف تنتظره، كل شيء سيبقى على حاله، إلى درجة أن ملابسه كانت تبخرها بالصمغ واللبان كل يوم. وحين جاء أبوها مع إخوانها من قريتهم البعيدة ليقنعوها بالانتقال معهم إلى قريتهم لأن زوجها قد غرق ومات، إذا بها تقول لهم: يوم يبرد في قلبي سأعرف أنه قد مات. وصممت على أن تنتظر عودته.

ثم صارت مثل تلك السيدة التي كانت تنسج عبر الصوف أسماء المستهدفين في رائعة «تشارلز ديكنز» «قصة مدينتين».

فعندما انقضى ما يقرب من عام على غياب «القافر» قامت زوجته «نصرا» إلى نعاجها وأخذت مقصا وبدأت تجز صوفها، وحملت كومة الصوف إلى البيت وغسلته. وفي كل صباح وبعد أن تنتهي من مهامها اليومية تبدأ العمل في ذلك الصوف بأصابع تدربت منذ الصغر على الحلج والغزل. وصارت تقضي وقتها أمام المغزل، تغزل الصوف وتحوم بروحها حول كل خيط من خيوطه. وتسمي الخيوط بأسماء أفلاج دخلها زوجها القافر ذات يوم وعمل بساعديه في البحث عن منابع مياهها، وتتذكر ما رواه لها عن فرحة أهالي كل قرية باكتشافه للماء لديهم، وصارت تعرف كل خيط باسمه حتى لو تشابكت.

فإذا بالغزل الذي تغزله انتظارا لعودته على الرغم من كل ما يقولونه لها حول أنه قد غرق يصبح في وجدانها كأنه تحويل للغزل المادي إلى غزلها لقصتها معه، أو قصته معها ومع الدنيا ومع تحريره للماء من محبسه، ومع توصيله الماء مصدر الحياة إلى الناس من أجل حياة أفضل، ومع تحدي الصخور أو العقبات.

من هنا فإن الغزل الذي تضمنه الغلاف هو مستحق بالفعل لأن يتصدر غلاف الرواية، فإصرار زوجة القافر على أنه ما زال حيا يوحي بأن العطش لا يكون فقط للاحتياج إلى الماء، وإنما هناك العطش إلى وصل الأيام الماضية وما تحمله فيها من متاعب مع الأيام القادمة التي تتحقق فيها الأحلام. هو غلاف ينتصر لـ «نصرا» الزوجة بسبب إيمانها بأن غياب زوجها الحبيب عن عينيها لا يعني غيابه عن القلب والروح والأمل والأحلام. فعندما زارها والدها من جديد ليخبرها بأن رجلا من أعيان البلاد قد تقدم لخطبتها وعليها أن تذهب معهم إلى بيت زوجها الجديد فإنها احتراما للأب وفي محاولة لأن ترفض ضمنيا وليس صراحة طلبت منه ألا تذهب معهم إلى أن تغزل الصوف كله.

وحين عاد أهلها بعد فترة من جديد يطلبون عودتها معهم للزواج، تذرعت بأن غزلها لم ينته بعد، كأن كل خيط تغزله هو درب يأخذها لتبحث عن زوجها في الوديان والجبال.

وحين ينتقل بنا المؤلف من إصرار الزوجة على أن زوجها حي إلى الزوج الذي نراه بالفعل ما زال حيا متمسكا بالحياة وبالمقاومة كي يتحرر من وجوده سجينا مع الماء الذي انجرف عبره إلى خلف الصخرة الضخمة، فنرى استبساله وحيدا ليفتح المنطقة الضيقة المعروفة في الأفلاج باسم «الخاتم» الذي ظن الناس أنه قد غرق بسببه.

وبعد تفاصيل جبارة حول خططه للمقاومة ومحاولاته وأخطائه إذا بنا نصل إلى الفقرة الأخيرة العظيمة للقافر الذي خرج إلى الدنيا عبر سكين في بداية الرواية، وكيف أن عودته إلى العمار جدير به أن تكون عبر الضرب بغضب على صخر الجبل المحبوس بسببه، فكما جاء في خاتمة الرواية: «تتالت الضربات، وتحول جسده إلى يدين لا هم لهما إلا ضرب ذلك الجبل الجاثم أمامه». ويضيف المؤلف مواصلا وصف المشهد عبر جمل قصيرة متوالية عميقة الدلالة قائلا: «كأنه يضرب كل ما عاشه مذ كان طفلا»، «يهوي بالمطرقة على سجنه»، «على اليأس من مغادرته تلك العتمة»، ولا يغيب عن المؤلف أن يضم إلى هذه الأسباب سببا إنسانيا رفيعا هو أنه يدق «على شوقه الجارف إلى زوجته».

إلى أن نصل مع الراوي إلى انفتاح «خاتم» الفلج الذي كان مستعصيا على القافر وحائلا بينه وبين الخروج إلى العمار في مشهد للختام شبيه بالخواتيم المدوية في سيمفونية «القدر» لـ«بيتهوفن» العظيمة، فنقرأ: «كان غائبا مع غضبه، متحدا مع مطرقته في هدم كل الجدران التي واجهته، وهو الوحيد، الغائب، السجين، الموجوع، الجائع، العطش» ثم «تداعت الصخرة أمامه، وانفتح الخاتم على النفق الطويل، فانطلق الماء بقوة وجرف معه كل شيء». للوهلة الأولى أتوقف منفعلة أمام هذه الخاتمة، فقد نجح المؤلف طوال الرواية في أن يجعلني أحب شخصية القافر، ثم كلما واصل كفاحه عبر الصفحات الأخيرة كي يتحرر من الصخر الذي يمنعه عن الدنيا ازدادت رغبتي في الاطمئنان على نتيجة تعبه.

وهنا لم يذكر المؤلف صراحة ما إذا كان الماء قد جرف القافر حيا فأوصله إلى العمار، أم أن اندفاع الماء الشديد قد أصابه بمكروه قبل الوصول. مع ذلك فإنني كواحدة من القراء أختار ما حمله قلب زوجته وغزلها من أنه قد خرج حيا، فزوجته التي تحبه ويحبها ظلت على يقين بأنه ما زال حيا، يقين أرواح المحبين التي تتواصل سبحان الله بطريقة لا يعلم سبل التواصل بينها إلا من جرب الشعور بالقلق على حبيب بعيد ثم إذا به يعرف أن الحبيب بالفعل كان يواجه مشكلة صعبة، أو يفرح له، ثم يكتشف أن لدى الحبيب بالفعل موجبات للفرحة. قلب واثق يغزل ويسجل إنجازات الأبطال الذين يضربون في الصخور على اختلاف أنواعها بسواعد غاضبة، قلب يحسن الظن بالله في أنهم أحياء على الأرض، أو أحياء شهداء عند ربهم يرزقون.

وإذا كانت رواية «تغريبة القافر» تشترك مع روايات «نجيب محفوظ» في المحلية الذاخرة بكل ما هو إنساني، فإنها تشترك أيضا مع روايات نجيب محفوظ وكذلك مع روايات أخرى كبرى في أن انتهاءنا من القراءة لا يترتب عليه انتهاء علاقتنا بالرواية، بل يبدأ فصل إضافي بقلم القارئ يتضمن التأمل حول ما قرأ. قد تختلف الإيحاءات من قارئ إلى آخر أو تتشابه لكنها لا تتركه في حاله بعد القراءة، بل تجعله مشحونا ومشغولا بأبطالها من ناحية، وبآخرين في حياة القارئ استدعتهم حكايات أبطال الرواية فأطلوا من الذاكرة وظهروا فوق السطح. كي نصافحهم ونشد على أيديهم، أو كي نربت على أكتافهم، أو ربما كي نطلب منهم الصفح.

سهام ذهني كاتبة وصحفية مصرية