عمان الثقافي

ربطة عنق

25 يونيو 2023
25 يونيو 2023

1

كان ذلك أوائل الخريف حين لوحظ في شارع نيفسكي طالبا أسمر تميز عن نظرائه الطلبة بزيّه الجديد. إن العادة تقضي على من يفد إلى بطرسبورج أول مرّة أن يتجول في شارع نيفسكي، ملتفتا بفضول إلى شتى الجهات، ومطيلا الوقوف أمام واجهات المحال. بدوره كان الطالب الأسمر الذي أثار الانتباه إليه، مستجدا على المدينة، متأنقا في لبسه أيضا، ولكن وجهه وسلوكه اصطفياه عمن سواه. عينان سوداوان ملتهبتان - سواد لم يشهد له شارع نيفسكي مثيلا من قبل. حتى وهو يبتسم، وكان كثيرا ما يتبسم بمرح، يحتفظ بتعبير لا يتغير: نوع من الحزن القديم، حزن قديم ظل صامدا على مرّ القرون، نار دفينة لا ينطفئ أوراها، امتدت خلال تلك القرون، قرنا بعد قرن، كانت تلمع في عينيه. أما وهو يلاحق بنظره سيدة متزوقة دون أن يحرك رأسه، حينها لا يُرى من عينيه سوى بياضهما العظيم اللمّاع. في مشيته كثير من الثقة والوقار، وكان خطوه مستقيمًا، لا تمايل فيه أو تلويح ذراعين، وفي الوقت نفسه كان يشعر أنه الأكثر فرادة ورونقا بين السائرين طرا، وهو كذلك حقا.

«عبد الأحد» – قال الطالب الأسمر، مقدما نفسه لطالب أبيض خجول.

الندل في المقاهي والباعة في الدكاكين كانوا يهمزون عند رؤية عبد الأحد قائلين: الشرقي!.

ولا بد أن ألباب عشاق الحكايات العربية تختبل لو أن طريقهم قد تقاطع صدفة بطريق عبد الأحد، أو الشرقي، كما استقر لزملائه الطلبة مناداته.

انتقل الشرقي من شارع نيفسكي إلى جزيرة فاسيليفسكي، حيث استأجر غرفة في الجادة الثانية عشرة. وبحلول الشتاء كانت الجزيرة كلها تعرف الشرقي. الشرقي، غني وكريم. الشرقي، مالئ الدنيا وشاغل الناس. ويخال أنه لم يكن بين آنسات الجزيرة من لم تمنّي النفس بمحبة الشرقي، لا ولا واحدة منهن لم تحترق في جوى الشرقي.

راحت أكثر النوادر مشقة على التصديق تدور عن الشرقي. والحق أنه أكثر من يهوى الكلام عن نفسه، وفي كلامه الكثير من المضحكات وما لا يخطر على بال، فقصص الأسفار يرويها وكأنَّه هو نفسه رحّالة، وسير المغامرات يسردها وكأنه قد عاشها. أما الطالب الأبيض الخجول، الذي أولاه الشرقي مودة خاصة وشمله برعايته، هذا الطالب الأبيض الخجول، جليس الشرقي الدائم، فقد كان يزهو بصاحبه، وينقل عنه بحماس وفخر أنه، ولم يكمل الثانوية بعد، قد أصبح أبا ورب عائلة، وذلك رغم التحرج الذي أورثه إياه وضعه ذاك. بل إن الشرقي نفسه كان يروي في لحظات بوحه أشياء شبيهة بهذا، فكان يصوّر وضعه الحرج في الثانوية، والمدرسون يوقفونه وجها إلى وجه أمام الحائط، في حين أنه أب!. ومع أن كلامه لم يُصدّق تصديقا باتا، إلا أنه ظل ماتعا غاية المتعة.

«طبعا طبعا» – بهذا كانوا يردون عليه. وكان عبدالأحد يُستقبل في أمسيات الطلبة ببشاشة

وضحك ودود: «ها هو الشرقي!».

اعتاد الشرقي على بطرسبورج، استقر فيها كالشرقيَين الآخرين (فالمرأة التي يكتري عندها عبد الأحد كانت تسمي تمثاليّ أبي الهول على جسر نيكولايفسكي: «الشرقيين ذوي الطرطور») اللذين تعودا على برودة نهر نيفا، وعلى السماء الشاحبة، والصقيع، ورياح بطرسبورج.

الشرقي في حمأة دائمة، ومعطفه الفرو باهظ الثمن مفكوك أبدا.

«طبعا طبعا» – يجيبون الشرقيَّ.

«ها هو الشرقي» – ببشاشة وضحك ودود يلتقون عبد الأحد في الشارع.

ولكن الشرقي فتى متقلب: اليوم مبتهج وفي الغداة يبكي، اليوم يسوق القصص والمشاريع الخيالية، وغدا يلتمع بياض عينيه.

الجميع يعرفون ذلك: بهجته ودموعه، وكانوا يربتون عليه حين يبكي.

«هوّن عليك أيها الشرقي العزيز» – يقولون ويربتون عليه كما لو أنه قطّة.

ثم ارتدى الشرقي ملابس العيد، وبعد العيد جلس إلى درسه.

ولكن ما هو الدرس بالنسبة للشرقي؟ وما هو الشرقي بالنسبة للشرطي؟

فجأة، دون سابق إنذار، انتهى الأمر بالشرقي، لا في جادته الثانية عشرة، ولا عند تمثاليّ أبي الهول – ذينك الشرقيين ذوي الطرطور، من أدمن عبد الأحد السير أمامها، بل انتهى الأمر بالشرقي في سجن كريستي بشارع أرسينالنايا الشاطئي.

2

ليس أهون من دخول سجن كريستي.

حدثت مظاهرة في شارع نيفسكي، وحدث أن يكون الشرقي في المظاهرة، وما عسى المظاهرة أن تكون من دون الشرقي؟ في المظاهرات معارف كثرٌ والبهجة عارمة، ليس مثلها في أي لعبة كرة، لا ولا في أي حفل تنكري.

«ها هو الشرقي!» - صاح الرفاق متهللين وأقبلوا على عبد الأحد.

في البدء مضت الأمور بفرحة وحماس. ولكن، عند برج دوما، نُصب كمين للمتظاهرين، استُخدمت فيه السياط والسيوف.

ولكم أن تتخيلوا الشرقي كما طاب لكم الخيال: رب أسرة ولم يزل في الصف الأول ثانوي؛ شخصيةٌ صينية معتبرة تدعوه إلى سمكٍ يُشوى حيا، مع أن قدمه لم تطأ الصين قط؛ لكم أن تصدقوا هذا أو لا تصدقوه، ولكن الشرقي فارس، الشرقي لن يرضى أن يضرب جنديٌ بسيفه، فتاةً جميلة، ناهيك عن أنه يعرفها.

هرعت ثلاث طالبات شابات إلى سلّم برج دوما وجثون على ركبهن، غطين وجوههن بأيديهن وقد أدرن ظهورهن إلى الجندي. صعد الجندي إليهن وبالتوالي راح يوجعهن بضربات من سيفه الغليظ. بلغ الغضب بالشرقي أشدّه. وضحك أحدهم من داخل الحشد، غير مبال بالفتيات التعيسات اللواتي أذعنّ للضرب، جاثيات على ركبهن. الصراخ والعويل يصل من كل حدب وصوب، هرولة وسقوط في كل مكان. ولكن الشرقي الأسمر، ذا العينين السوداوين الملتهبتين، لم يهرب كالآخرين، ولم يصرخ مثلهم، كل ما فعله أن راح يطرف بعينيه الحاميتين. وصل غضبه إلى أقصى حد، أما بياض عينيه فقد التمع بصورة رهيبة جعلت الشرطي الذي أوقع بضحيته السمراء وهو يلهث، جعلته يحرن لدقيقة كاملة: «أوليس هو نفسه الشيطان الرجيم؟». الخلاصة أن روح الشرقي لم تخرج من بدنه ولكنه دخل السجن.

* * *

بصحبة الشرقي وبنفس ضبطيته، سيق من المظاهرة إلى سجن كريستي كثير من الطلبة، ثم سريعا ما اتضح أن الشرقي عبد الأحد هو الأكثر اضطرابا وشغبا بين الجميع.

برأ من كل الكدمات وزالت عنه آثار اللكمات والتأمت جروحه وخدوشه، ومعه عادت الحياة إلى الشرقي. عاد الشرقي حيا... هذا هو طبعه، طفل صغير، فماذا يراد منه غير ذلك؟.

ضربت فتاتان موعدا غراميا مع الشرقي.

وقع في حبهما معا ولم يعلم، على وجه الدقة، أيهما الأخيرة وأية واحدة يحبها أكثر.

بالزهور والحلوى والفطائر جاءت الفتاتان إلى السجن. دامت مواعيد الغرام زمنا، لكن الشرقي، وقد مال به الدلال، لم يكتف بذلك. طالب أن تحضر للقائه فتاة ثالثة فسمحوا أن تأتي للشرقي فتاة ثالثة... كل منهن تأتي وفق دورها.

وها قد حلّ الربيع، ومعه مُنع النظر عبر النوافذ منعا باتا. ولكن، من سينظر عبر النافذة، والربيع قد حلّ، إن لم يكن الشرقي؟ الشرقي لا يمتثل للمنع. أهيب بالحبس الانفرادي ولم يهب. أودع الحبس الانفرادي ولكن بلا طائل... ثم ترك لحال سبيله.

سابقا، وهو طليق، كان عالمه مُقسّما إلى: فتيات صغيرات جميلات، مجرد شابات، أو نساء بوجه عام. لقد عشق الصنف الأول، ولم يمانع بمحبة الثاني، أما الصنف الثالث فكان مستعدا لخدمته دائما. أما الآن، وقد هلّ الربيع، فإنه يحبهن جميعا، يحبهن على حد سواء، بلا أية قسمة: الجميلات ومجرد الشابات والنساء بوجه عام.

جاء مايو ومعه الليالي البيض.

من النافذة نظر الشرقي إلى مايو وإلى الليالي البيض.

بطريقة ما، وبعد انقضاء نوبة تفتيش، صعد العاشق على كرسي وراح يتأمل. انتبه الشرقي إلى لحية سوداء بزغت من شبكة النافذة المجاورة. بدوره لاحظ الجارُ جارَه الشرقي وأشار إليه محذرا إياه من الكلام، إذ كيف يمكن التحدث مع شرقي؟

ولكن الشرقي سُرّ باللحية السوداء.

- منذ متى أنت هنا؟

- منذ سنتين.

- من أين؟

- من فيليكا.

- ما هي تهمتك؟

- وشاية. ولا علم لي بجرمي.

- هل يزورك أحد؟

- كلا. لقد تركت زوجتي وابنتي في البيت.

- ماذا كنت تعمل؟

- معلم، في ابتدائية يهودية.

- ألا تشعر بالملل؟

- أقوم بصنع العلب.

- وهل تشتاق لزوجتك؟

ولكن الجار لم يجب وانسلّت اللحية السوداء خلف القضبان.

ودقّ الحارس على الشرقي ليجبره على النزول من الكرسي.

عندما غادر الحارس، صعد الشرقي إلى النافذة من جديد وأخذ ينادي جاره، ولكن اللحية السوداء لم تظهر بعدها أبدا، ولم تسفر شبكة النافذة إلا عن ظهر منحنٍ هدّه التعب.

ثم نسي الشرقي أمر اللحية، إلى أن أُطلق سراحه آخر الأمر... إنه طفل صغير فماذا يراد منه غير ذلك؟

3

من السجن اتجه الشرقي مباشرة إلى شارع نيفسكي، لا يعرف ما يجب فعله وأين يذهب؟ هل يقصد معارفه؟ ولكن في الوقت متسع للمعارف ولو كان ذلك في الغد. لديه ثلاثة أيام. مسموح له أن يبقى في بطرسبورج ثلاثة أيام، وفي ثلاثة أيام بوسعه فعل كل شيء ورؤية الجميع.

سار الشرقي في شارع نيفسكي متبسما، ابتسم للجميع، للشبيبة والشيبان. وبسبب عطالته دخل المقهى، أكل الفطائر وشرب القهوة، مرّ على دور السينما، وكان لا يقوى على البقاء طويلا في مكان واحد.

«الشرقي! أيها الشرقي اللطيف، ما أروع وأسعد أن تكون طليقا!» - اصطخب المارة وهمهموا وهمسوا، أو هكذا استخلص هو من اصطخابهم في عرض الشارع المصطخب.

الليلة بيضاء شفافة، وجذّابة نجومها الفضية البعيدة. بمناسبة عيد الملك أضيء رصيف نيفسكي طولا بالفوانيس الكهربائية الملونة وزينت البيوت بالحروفيات الساطعة.

كانت أعداد المارة كبيرة. تلفت الشرقي هنا وهناك متبسما. بدا له أن الجميع في غاية التأنق والفتوة والنظافة حتى تمنى لو يقبلهم، جميعا من دون استثناء.

عند زاوية من قناة يكاتيرينا توقف الشرقي. لاح له الخيالة قادمين من ناحية كتدرائية قازان.

أجرامهم عظيمة وهم يمتطون الأحصنة فيما تدرعوا بدروع فضية... ومثل أشباح عبر الفرسان الفضيون.

راقب التركي الخيالة وابتسم. (وطويلا لمعت الدروع الفضية في قلب الليلة البيضاء، وسطعت الأضواء الملوّنة، بينما خسفت الأعلام المعلقة وتدلت كما تتدلى اللحى).

سار خلف الحشد وهو يشيع الخيالة. حدجته إحداهن وهو على الجسر؛ شعرٌ أسود فاحم وقوام ممشوق كأنها مراهقة. لم تتبرج بالمساحيق إلا أن عينيها كانتا تلمعان لمعان دروع الخيّالة.

ابتسم لها وابتسمت فأخذها من يدها.

- طيب، - ابتسمت وسارا معا. سارا وهما يتضاحكان كأنهما رفيقا درب. الليلة بيضاء شفافة، وجذابة نجومها الفضية البعيدة.

- هل محلك بعيد؟

أطلعته على اسم الفندق. من جوابها فهم الشرقي أنها مستجدة في الشارع ولا تستقبل الزبائن في غرفتها. سلكا الطريق إلى الفندق وشغلا غرفة فيه. في الغرفة ابتسم التركي ثانية بمعرفته أنها جديدة جدا على شارع نيفسكي حيث لم تقبل البيرة. جاء خادم الطابق بالليموناظة. شربا وأخذا يخلعان ملابسهما. إنها يهودية واسمها روزا.

- وهل أنت يهودي؟

- كلا.

- يوناني؟

- كلا.

وبعينين واسعتين مشدوهتين راحت تعدد أسماء الشعوب التي تعرفها حتى وصلت إلى الصينيين بل والبابواويين من أكلة لحوم البشر.

- بابواوي؟

- كلا.

- تركي؟

- كلا.

لم يحتمل الشرقي صبرا وجعل يقهقه.

- تركي، تركي!

سرت روزا مثلما يسر الأطفال حينما يهتدون بسهولة إلى الأشياء المخبوءة عنهم (وبصورة لا مكر فيها راحت تضحك ضحكة ودودة، مكررة ما يفعله زملاء عبد الأحد حين يلتقونه محض الصدفة)

لم يتبق لروزا سوى أن تخلع المشدّ.

أما الشرقي فأفرغ كل أنواع اللغط، مؤكدا لها أنه ليس تركيا بل آكل لحوم بشرٍ أصلي وبأنه سيلتهمها الآن بعظامها، وكان يضحك أثناءها ويقهقه.

على حين فجأة سقط من تحت مشدّ روزا شيء واستقر في الأرض. لاحظه التركي ولكن روزا سارعت والتقطته من الأرض ثم ضمته في قبضة يدها.

ما عساه يكون؟ ولماذا تورد وجه روزا هكذا؟

- ماذا يكون؟

- لا، هذا غير مسموح به، غير مسموح؟ - تراجعت روزا إلى الخلف.

- لماذا غير مسموح؟ - ألحّ الشرقي وهو يحتضن روزا ويجلسها على ركبتيه، - أترجاك أن تخبريني. ما يضيرك لو فعلت؟

- غير مسموح به، - كررت روزا، - وأرجوك لا تسألني ودعك من هذا كله.

ولكن من ذا الذي يمنع الشرقي عن فعل شيء؟ تمسك الشرقي بموقفه وظل يلح على سؤاله.

أقسَم أنه لن يفشي بالسر ولن يضحك... وقال: إن كل شيء مباح للشرقي.

- كل شيء مباح، - واجهها التركي، - بينما هذا غير مسموح به! لماذا إذا؟ لماذا هو غير مسموح به؟

ولكنها شدت قبضتها على ذلك الشيء الصغير وركنت إلى الصمت. كان يبدو أن أية قوة لا يمكن أن تجبرها على إفشاء السر، حتى لو هجمت عليها شرطة نيفسكي كافة بقبضاتهم فلن تبوح بأية كلمة. ولكن الشرقي لم يستسلم هو الآخر ولم تزده هذه المناكفة إلا إصرارا. كان مقضيا عليه أن يعرف سرّ روزا. أمسك بيدها وهو يرّف بطرف عينه السوداء الملتهبة فأفرجت قبضتها. في البداية لم يعِ الشرقي شيئا ولم يصدق ما تراه عيناه. ربطة عنق؟ كل ما في يدها ربطة عنق سوداء عادية! وقد تراءت العقدة في ربطة العنق مثل فراشة سوداء.

أخذت روزا تلهج بسرعة، تتلعثم وتكرر الكلمات كالأطفال حين يخاطبون أمهاتهم وهم في ذروة السرور: «إيه ماما، ماما»، أو وهم في حالة من أذنب: «لن أكررها ثانية».

ربطة العنق هذه تخص زوجها. لم ترغب روزا في التحدث للشرقي عن زوجها. سوى ذلك فإن لروزا طفلة عمرها ثلاث سنوات. إنها من فيليكا. نُقل زوجها إلى بطرسبورج في «العربة السوداء» وقضي عليه سنتان سجنا بسبب وشاية جارهم. زوجها معلم في ابتدائية يهودية.

- معلم في ابتدائية يهودية، - كررت روزا.

- ولكني رأيت زوجك. له لحية سوداء، نحيف جدا وظهره منحن. هيكل عظمي بلحية سوداء. - تهلل الشرقي وهو يتذكر الطابق الخامس، وزنزانته، والمساء بينما كان يقف على كرسي بجانب النافذة. – لقد جئت لتوي من سجن كريستي وهو هناك، في الكريستي. الكريستي على جانب فيبورج، جسر أرسينالنايا، رقم 5.

لم تكن حينها روزا جالسة على ركبتين، روزا كانت منكبة على الأرض عند قدمي الشرقي، تصرخ وكأن أحدا يجلدها، وكانت روحها بأكملها تتلوى. تناول الشرقي إناء وسكب لها الماء. ماذا فعل ليجعلها تلطم وتصرخ هكذا؟ ولكن روزا لم تلمس الكأس ولم تقعد وظلت منبطحة على الأرض بالقميص والجوارب وحدها، أعولت بقوة وبقوة أجهشت بالبكاء وضغطت بقبضتها على ربطة العنق التي كانت عقدتها تشبه فراشة سوداء. لم يتعرف الشرقي على روزا: لم تكن هذه هي المراهقة، شاحبة الوجه، الخجولة والمتخابثة، كانت امرأة مسعورة سحقها الحزن، وجهها شائخ أعوج.

وكان هناك من يطرق الباب ويأمر بفتحه، والشرقي يحوم حول روزا لا يدري ما يفعل.

- اهدئي! – لمسها الشرقي- والله إنني لم أقل شيئا. ثم ما الذي تعنيه ربطة عنق بعد كل شيء؟

إنهم يطرقون الباب، ويبدو أنهم لا يطرقون الباب وحده بل يطرقون جميع الجدران والسقف، وليس بالقبضات إنما بالمطارق. لا مفر من فتح الباب فهم سيحطمونه بعد كل شيء. قام الشرقي وفتحه. دخل الغرفة شرطي وناظر الحي وخادم الغرف وحوذي ومعهم فتاة يبدو أنها من إحدى الغرف المجاورة.

- ماذا لديكم هنا؟ - أجال الشرطي بنظرة مرتابة بين الشرقي المتعري وروزا التي تخبط الأرض.

- لا شيء – أجاب الشرقي – لا يوجد شيء على الإطلاق.

واندفع الشرطي إلى روزا، رفعها عن الأرض وبطريقة ما تمكن من إجلاسها على الأريكة. لم تفطن روزا للداخلين، لم تر ولم تسمع أحدا وظلت تعول وتبكي بقوة. أما الشرطي فأوعز لعبد الأحد أن يرتدي ملابسه ويأتي معه إلى المخفر لفتح محضر.

ولكن ما هو الشيء الذي اقترفه؟ هل ضربها؟ أأهانها بكلمة؟ أبدا، لم يرتكب شيئا في حق النحيفة ولم يخطر بباله أن يرتكب شيئا ضدها. على عجل، وكشخص مذنب، شرع الشرقي في ارتداء ملابسه، وبسبب تسرعه، عاندته يداه فلم يفلح في تثبيت أزراره على النحو الصحيح. كان كل من حوله ينظرون إليه كما ينظرون إلى لص وقع في الأسر، وبدا كما لو أنهم يغمزونه قائلين: «وماذا تظن أيها الغر؟ لقد وقعت!».

كان يحتفظ في جيبه بذهب، دسّه في يد روزا الفارغة وسار مع الشرطي إلى المخفر. خلف الضابط خرج الآخرون بدورهم: الجارة والحوذي والخادم، فقد أنجزوا عملهم ولم تعد من حاجة إليهم.

وحدها روزا بقيت هناك. ما زالت تبكي وهي جالسة على الأريكة بالقميص والجوارب وحدها، تعول وتبكي بقوة، بيدها تضغط على ربطة العنق ذات العقدة الشبيهة بفراشة سوداء وعلى ذهب الشرقي.

1- الليالي البيضاء، ظاهرة طبيعية صيفية تشهدها مدينة سانت بطرسبورج، يدخل فيها النهار في الليل ويبيّض ظلمته في نحو أسبوعين (المترجم)

ألكسي ريميزوف كاتب وروائي روسي

أحمد م الرحبي روائي ومترجم عماني