No Image
عمان الثقافي

دهشة ويقظة الفيلسوف

25 يناير 2023
25 يناير 2023

«من يقول إن زمن التفلسف لم يحن بعد، أو إنه قد ولى،

يشبه ذاك الذي يقول، متحدثا عن السعادة، إن زمنها لم

يحن أو إنه لم يعد موجودا أبدا».

Epicure, Lettre à Ménécée

يتفق عديد المؤرخين والفلاسفة على أن أفلاطون قارة فلسفية منها تفتقت عبقرية الفكر الغربي. والسبب يعود إلى أنه فكر في أصلٍ، لا ينضب، للتفكير الفلسفي، والذي اشتهر تحت اسم الدهشة. لذلك لا ينكر أحد من الفلاسفة قيمة أفلاطون، قدماء ومعاصرين، فهذا وايتهايد يقول «إن التوصيف الدقيق للفكر الغربي هو أنه ليس سوى هوامش على محاورات أفلاطون» (Whitehead, 1929/1979. 39). ولا يقصد وايتهايد من ذلك سوى الغنى الكبير للأفكار العامة المنتشرة في كتاباته، وليس النسق النظري لفكره. وهذا ياسبرز متحدثا عن أفلاطون يقول إنه «لا يظهر أن الفكر الفلسفي، على خلاف العلوم، يتقدم أبدا. لقد صارت لنا، فعلا، معرفة أثرى من تلك التي كانت لأبوقراط، لكن لا نستطيع الزعم أبدا أننا قد تجاوزنا أفلاطون، زاده العلمي فقط هو الأدنى مقارنة مع ما نملك. أما فيما يخص ما يوجد لديه من بحث فلسفي، فبالكاد استدركناه ربما») 6(Jaspers, 1965.. وهذا أخيرا، وليس آخر، شاتلي يقول في كتاب عنوانه «أفلاطون»: إن أفلاطون هو الذي «اخترع الفلسفة وحدد للثقافة معنى العقل، وحتى وإن كان فعلا من الممكن أن نجد في العصور القديمة تصورات قبلية عن هذا المفهوم، إلا أن أفلاطون رسم الإطار الذي داخله سيؤسس الفكر «المتوسطي-الغربي» قيمه وسيسطر مسار تقدمه (Châtelet,1965. 243). فمفاهيم الكونية والحقيقة والنظري والعملي...إلخ تجد أصلها في ما ابتدعه أفلاطون من دلالة. بل وحتى كل محاولة للخروج من الأفلاطونية، إنما تحث فقط على أن نقلص قيمة العقل نفسه، من حيث كونه قوة شاملة وحاضرة في كل مكان، تحكم على كل فكر، على كل خطاب، على أي سلوك، وهو عين ما نبه إليه نيتشه (Ibid. 246). ويضيف إلى أنه لا يجب أن نعود لأفلاطون بسبب «فضول أركيولوجي»، أي أن نريد فقط الاطلاع على نمط تفكير القدماء؛ أو نحوله إلى ذريعة به نبرر أو نرفض قضايا ما. نعود إليه لأنه يتحدث عنا نحن، أي عن مصير الإنسان؛ عن الفرد وهو يبحث عن الرضا؛ عن المواطن الذي يريد العدالة؛ عن النفس التي تتوق للمعرفة (ibid.15)؛ فحتى وإن كان أفلاطون شاهدا على عصره، إلا أنه كان شاهدا ناقدا؛ وهذا النقد، الذي نستشعره ليس فقط في «الجمهورية»، من حيث هي نص في السياسة، ولكن في كل محاوراته التي ليست تضييعا للكلام أو ثرثرة بلا غاية؛ لأن هذا النقد هو تمييز وفصل بين ما نقول وما يجب قوله ما نعتقده وما يجب أن نفكر فيه. والمحفز على ذلك دائما هو الدهشة.

يورد أفلاطون نادرة شهيرة عن طاليس، على لسان سقراط قائلا: «كان طاليس... يشاهد النجوم، ومادام في سيره ينظر إلى السماء، فقد سقط في بئر، فضحكت عليه، كما قيل، خادمة... والتي كانت حاذقة وذكية، بأن قالت له إنه يسعى بإصرار إلى معرفة ما يقع في السماء، في حين لم ينتبه إلى ما يقع وما يوجد أمام قدميه». يتمم سقراط قائلا: «إن هذه المزحة نفسها تنطبق على كل أولئك الذين يقضون حياتهم في التفلسف «(Platon, Théétète, 174b).

لكن لماذا تمتلك الدهشة في بداية الفلسفة، منذ أفلاطون وأرسطو، كل هذه القيمة؟ وكيف هي مبدأ دائم للفلسفة؟ إن المبدأ (arché) عند الإغريق يعني «ما يخرج منه الشيء»، (Heidegger.1968. 32) يعني منبع ومصدره. ولكن هل هذا المصدر دائم أم مؤقت؟ للجواب عن هذا السؤال يميز ياسبرز بين البداية والأصل والدافع، فالبداية، كما يقول ياسبرز، تتوقف لأنها تاريخية، بينما الأصل هو النبع الذي يصدر منه على الدوام الاندفاع نحو التفلسف (Jaspers. 1965.15sq). ويتعدد هذا العنصر الأولي في كل تفكير فلسفي، عند ياسبرز، ليتخذ ثلاثة دوافع/ مبادئ: الدهشة والشك والاضطراب أمام المصير (الوضع) الإنساني. الدهشة باعتبارها وعيا بالجهل؛ والشك، بعده، مرحلة لمراجعة المعارف المتحققة؛ واضطراب الإنسان أمام مصيره أبلغ هذه الدوافع، لأنه يجعل من سؤال الكينونة مفتاحا لفهم الحرية والوضعيات-الحدود (situations-limits) التي تحد من هذه الحرية ذاتها.

هذا دون إغفال قيمة الملاحظة التي يعرضها هايدغر بصدد الدلالة الحقيقية للفظ دهشة، من أنها «بما هي ميل [Pathos]، هي مبدأ الفلسفة...والمبدأ Arché يعني [في لغة الإغريق] ما يخرج منه الشيء...[أما] ميل الدهشة فلا يكون في بداية الفلسفة فقط، مثل غسل اليدين الذي يسبق تدخلا جراحيا ما، بل إنها تحمل وتخترق الفلسفة من البداية إلى النهاية (Heidegger.1968.32)، إنها بمثابة أهبة واستعداد (Thaumazein) لا يتوقف مرة، فهو ليس ميلا أو نزوة سرعان ما تخفت جذوتها، بل هي هذه الرغبة التي لا تشبع أبدا؛ لأنها هي «ما يشكل، في العمق، قوة الفلسفة»؛ فأن تندهش اليوم ليس شيئا آخر غير الاندهاش من هذه المقاومة وهذا الإلحاح الغريب في البحث عن المعنى» (Nancy.1986.102). وقيمة الفلسفة إذن، وقد حركها هذا الحماس القوي، تكمن في هذه الوضعية من انعدام اليقين؛ لأن «كل من لم ينهل من الفلسفة إلا ويبقى أسير الأحكام المسبقة...فيظهر له العالم محدودا وبدهيا، الشيء الذي لا يثير لديه أي أسئلة، ويرفض كل ما لا يكون ممكنا ومألوفا»(Russel. 1913.156 sq). هذه الدهشة يمكن وصفها أيضا بأنها رغبة في المعرفة، خصوصا أن لفظ الفلسفة ذاته يحتوي على لفظ المحبة (فيلو(محبة أو حب philo) وصوفيا (sophia حكمة)). إنها حب للحكمة وليس امتلاكا لها؛ لأن حب المعرفة هو أن تكون في وسط الطريق بين الحكمة والجهل، مثلما يقول أفلاطون في المأدبة «لا أحد سيتفلسف إن كان [يعتقد أنه] يمتلك الحكمة سلفا»(Le banquet, 204a). وإذا ما انتبهنا لجذر مصطلح صوفيا: الجذر «صوف» Soph- هو نفس الجذر للاتينية sap، وsapere ، وللفرنسية «معرفة» (savoir)، والتلذذ (savourer)؛ فمن يعد حكيما (sophon)، هو من يعرف كيف يتذوق، بما أن التلذذ يفترض معنى تذوق الشيء، بل وأيضا أخذا للمسافة مع هذا الشيء نفسه (Lyotard.2012.41). وبالتالي تتحدد الفلسفة «منذ نشأتها كرغبة أو كإرادة في البحث عن المعنى، ولكن في الآن نفسه كتجاوز للمعنى السائد...أما الجهل بذلك، فيقود [حتما] إلى نسيان الفلسفة».(Nancy.1986.76).

يدفع هذا الخوفُ من التطبيع مع العالم ومع المألوف والمعتاد من الأقوال والأفعال، من المذاهب والرؤى، عديدَ الفلاسفة إلى التحذير كل مرة من خفوت هذا الحماس المسمى دهشة؛ فمثلا يرصد كانط، وهو ينتقد مفكري عصره (Kant. 1796-A.89)، كيف يمكن أن تختفي الفلسفة وتضيع، حينما تتحول من وضعية معرفة-حياة عقلانية (أي كحكمة كما تصورها أفلاطون وأرسطو)، أي أن تغدو فجأة مجرد زخرفة فكرية: أي فلسفة بالاستبطان والإلهام؛ ومن تم احتقار المعرفة التي نحصلها بواسطة الفهم، يعني عبر مفاهيم، من لدن ذلك الذي يعتقد أنه يبلغ معرفة بواسطة حدس البسيط؛ أي الاعتقاد بإمكان تحقيق فلسفة بدون الحاجة لإعمال للعقل، أي بالاقتصار على رؤية جوانية للذات بواسطة إحساس بالولوج المباشر للأشياء ذاتها، أي بواسطة إشراق صوفي، والذي يعد عند كانط قتلا للفلسفة. ولذلك وجب الحفاظ على الطابع النقدي للفلسفة (Kant.1796-B.115sq) والتي لن ترضى ببناء أو هدم الأنساق، لكن بفحص قوة العقل البشري ونقده؛ كما أنها لا تؤمن بسلم بين المذاهب، بل إنها تقوم ضد الدوغمائية والنزعة الشكية والنزعة الاعتدالية، أي تلك التي غايتها المصالحة بين الأفكار أكثر من البحث عن أقواها؛ وبدون كل هذا لا يمكن صون ملكات الذات يقظة.

يبدو أيضا أن الفلاسفة يتوجسون من المدرسة؛ لأنها تقتل بالتدريج هذه الدهشة؛ لأن ما نتعلمه في المدرسة هو المذاهب، أي الأجوبة لا كيف نتساءل، لهذا ميز كانط بين الفلسفة والتفلسف. وقد عُدَّ التفلسفُ منذ كانط فعلَ نقد، فلا نتعلم الفلسفة بل التفلسف، فالفكرة الفلسفية ليست مذهبية، أي نسقية؛ لذا يصف كانط النشاط النقدي كنشاط محكمة أو كقاض لا يملك سلفًا قواعد ومدونات قانونية تسمح له بالحكم مطلقًا على كل ما يعرض أمامه من قضايا (1). ولا يلتمس كانط، أخيرا، من التمييز بين معنى مدرسي وآخر دنيوي للفلسفة(2)، سوى تبيان أن أمل الفيلسوف هو الحكم على صلاحية المعارف في علاقتها بغايات العقل البشري؛ وبه تخرج الفلسفة من المدرسة، وتصبح ما يجب عليها أن تكون، أي فلسفة في العالَم، بأن تصير تشريعًا للمعارف التي يصادفها الفكر في العالم، وحينما لا نقبل هذا الشرط تنغلق الفلسفة في المدرسة. لذلك على الفيلسوف، بما هو مفكر ناقد، ألا يكل من النقد الذي بدونه تصبح ظواهرُ العالم وأفعالُ وأفكارُ البشر، وقد تشكلت في مذاهب وأنساق، حجبًا ضد الحقيقة.

على الرغم من أن كانط حرر الفلسفة من معناها المدرسي، إلا أنها تقهقرت وعادت الآن إلى هذا المدلول (Adorno. 1978. 12) بضغط وتأثير من العلوم المتخصصة التي حولتها إلى علم خاص؛ فالعالم اليوم يتحدث السرعة-الاستمتاع- التنافسية- النجاح وقاعدة التبادل الاقتصادي المعمم على كل مظاهر الحياة حتى الانفعالات واللذات منها؛ فيظهر أن الفرد يكون على حق في المدرسة لكنه ينهزم في الأغورا، لذلك يتصور كانط الفيلسوف كمحارب يقظ؛ لأن هناك دومًا شيئًا باقيًا، لم يستنفد، ينتظر منا البدء كل مرة من جديد. ومن يريد أن يفكر عليه أن يواجه هذا النقص في اللغة وفي الفكر وأنه لا شيء مكتمل ولا شيء تام، يقول دولوز إنه «لا يوجد مشكل ما خارج حلوله؛ فعوض أن يختفي، تجده يظل ويلازم الحلول التي تخفيه» (Deleuze.1968. 212).

لا يتوقف الفيلسوف، عن وعي بملازمة المشاكل لفكره، عن مراجعة وتعديل مفاهيمه بل وحتى استبدالها وتغييرها. والتحول الدائم للمفاهيم في الفلسفة يقيها وسم «الإطناب الدائم والاستطراد الذي لا يتوقف». وماذا يعني أن «الفيلسوف صديق المفهوم، سوى أن الفلسفة ليست فنًا بسيطًا لتكوين المفاهيم أو ابتكارها أو صنعها؛ لأن المفاهيم ليست بالضرورة أشكالًا أو اكتشاف أشياء ملقاة أو منتوجات؛ بل إن الفلسفة، وبشكل أدق، هي تخصص معرفي يقوم أساسا على خلق المفاهيم، وخلق مفاهيم جديدة يشكل دوما «شأن الفلسفة» .(Deleuze.Guattari.1998.26-27)

إذا كانت الفلسفة خطابا يراجع نفسه كل لحظة، فلأن دوافع الفكر قد تستكين إلى أجوبة ما، لكن كم هي القضايا التي بقيت بكماء، بلا لغة بلا مفهوم، قبل أن تمفصلها الفلسفة في لغة وأفكار. والحالات التي تكون فيها أحاسيس ما غير قادرة، أو غير قابلة لأن تتمفصل في جمل، يسميها ليوتار بالجملة-الانفعال (Lyotard. 2000. 45-54) (Phrase-affect). إن هذه الأحاسيس، أي الجمل-الانفعال، حينما يطول صمتها تصير قلقًا؛ ومنه تصبح إحساسا لا-إنسانيا؛ فالقلق هو هذه الحالة التي تكون «للنفس حينما تكون مسكونة من طرف ضيف حميم ومجهول يحركها، يجعلها تهذي وتفكر أيضًا» (1988.10.(Lyotard. وهذا اللا-إنساني يوجد اليوم في النسق المعاصر(الاقتصادي أساسا) الذي يزداد صرامة وصلابة كلما تقدم وتطور، وهو الذي يفرض ربح الوقت، «أي أن نسير بسرعة وأن ننسى بسرعة وألا نحتفظ فيما بعد سوى بالمعلومة» (Ibid) المفيدة طبعا، تمامًا مثل القراءة السريعة؛ لكن الكتابة والقراءة، بما هي أدوات الفكر، متأنية بطبعها فتتقدم بتقهقر في اتجاه الشيء المجهول في الداخل، والذي علينا أن نضيع الوقت، أي أن نأخذ الزمن الكافي، للبحث فيه. إن المراجعة الدائمة (التي يسميها ليوتار بالاستذكارAnamnèse) التي هي عماد الفكر، هي نقيض الإسراع والاستعجال والاختزال الذي يشجع عليه الاقتصاد: فهل انتهت أسئلة العدالة والأخلاق بعد أفلاطون، أو حتى بعد راولز وهابرماس؟ فهل هي أسئلة تاريخية أم أنها أسئلة تخترق الأزمنة والعصور؟ كم هي كثيرة أشكال الصمت التي فرضها عالم اليوم، بنزاعاته وحروبه ومجاعاته وحصاراته، على البشر، حيث اعتُقد أن تطور وسائل التواصل التكنولوجية سيضمن بيسر شديد انفتاح البعض على البعض الآخر.

إن مقاومة هيمنة النسق (الرأسمالي والتكنولوجي) وشموليته وقوة نقده وألم تحمّل مؤسساته ومحاولة الانفلات منها، هي أن نحافظ على حرية وصدق أنشطة يريد الاقتصاد تدجينها بدورها وهي: الأدب، والفنون، والفلسفة (Ibid.11)؛ لأنها تتمنع على الترويض الذي يفرضه هذا النسق على الفكر والإحساس والذي ينتظر منها جميعا مردودية ما، أو على الأقل أن تسهم في تحسين تأقلمه وتجويد قدراته.

نختم بالقول إن ما يحرك الفلسفة، بالتالي، هو الدهشة التي هي حماس للمعرفة؛ ونقد لا يتوقف؛ وهي إحساس -أي انفعال (باتوسPathos )- بالحدود التي تفرضها الشروط الاجتماعية أو الثقافية؛ ولذا على الفلسفة ألا تطمح لتكون أنساقا نظرية، تضع للفكر حدودا، أو تبرر مذاهب ما. ما ينتظر من لغة الفلاسفة هو أن تسهر على اليقظة ضد بائعي الأوهام في الاقتصاد، في السياسة وفي الفكر والتربية. ولتتمكن الفلسفة من ذلك فهي مدعوة لأن تجدد دوما ذاتها، بالبحث الدؤوب عن معناها وماهيتها، وكأننا لا نتفلسف في كل مرة إلا بشكل ناقص، وهذا هو الكفيل بأن يحفظ الفلسفة من النزعة المدرسية والمقاولاتية التي لا شعار لها سوى الربح؛ ومن نزعة روحانية مستقيلة (على شكل استبطان صوفي)؛ ومن صورنة تختزل العالَم (إلى قواعد رياضية منطقية جافة)، فكل ذلك يهدد الفكر بأن يتوقف عن النقد، وبأن يستحيل إلى مجموع حيل ومهارات حياتية، طقوسية أو لغوية.

(1): تعد المعارف الفلسفية عند كانط جزءًا من المعارف العقلية، عكس المعارف التاريخية، فالأولى معارف بمبادئ بينما الثانية معارف بمعطيات. كما يمكن التمييز أيضًا بين المعارف على مستوى مصدرها الموضوعي (يعني المصادر الوحيدة التي تنبثق عنها هذه المعرفة: المصدر العقلي والإمبيريقي/التجريب) وعلى مستوى مصدرها الذاتي (أي الشكل الذي به يتم اكتسابها لدى الإنسان: التاريخية بواسطة معطيات Données والعقلانية بواسطة مبادئ principes، لكن من الخطر ألا نعرف المعارف العقلية سوى معرفة تاريخية، فإذا لم يكن يعرف فقيه القانون (Jurisconsulte) من فقه القانون إلا تاريخه، فإنه غير قادر على العدل، بل وحتى على وضع قوانين. وينجم عن هذا التمييز بين الذاتي والموضوعي في العلوم العقلية أنه يمكننا أن نتعلم الفلسفة من دون القدرة على التفلسف، فذلك الذي يريد أن يكون فيلسوفا يلزمه أن يتمرن على أن يستخدم عقله استخداما حرّا، وليس استخدام محاكاة ومن ثم استعمالا ميكانيكيّا.Cf, Emmanuel Kant, Logique, tr. L. Guillermit, Vrin (1966), 1970, §III, PP 21-27.

(2) إن الفلسفة في معناها المدرسي (Scolastique) نسق من المعارف الفلسفية أو المعارف العقلية بواسطة مفاهيم، أما بحسب دلالتها الدنيوية Cosmique (ويفضل ليوتار تعبير Mondain) فهي «علم الغايات النهائية للعقل البشري»، وفي ذلك أحقية وقيمة كبرى للفلسفة... ففي الدلالة المدرسية لا يعني ذلك سوى قدرة (capacité)ومهارة (habilité)، أما في المعنى الدنيوي (في العالم) للفلسفة فهو أن تكون لها فائدة، وبالتالي تصير الفلسفة في المعنى الأول علم قدرة، وفي المعنى الثاني علم حكمة، ومشرعة législatrice للعقل (بحيث تطرح في هذا المستوى الأسئلة التالية: ما الذي تمكنني معرفته؟ ما الذي يجب علي فعله؟ ما الذي ينبغي أن نأمله؟ ما الذي يعنيه الإنسان؟)، وهو يصبح به الفيلسوف مشرعًا وليس فنانًا في مجال العقل، فالفنان هو ذاك الذي يسميه سقراط محب الرأي (Philodoxe). ومن يريد أن يتعلم التفلسف عليه ألا يعتبر الأنساق الفلسفية سوى قصصا des histoires (أمثلة) عن استخدام العقل وكموضوعات خاصة لزخرفة موهبته (talent) الفلسفية. Ibid. PP 24-26

الببليوغرافيا:

- Theodor .W. Adorno, 1978, La dialectique négative, Payot, Paris.

- François Châtelet, 1965, Platon, Gallimard, Paris.

- Gilles Deleuze, 1968, Différence et répétition, PUF, Paris.

- Gilles Deleuze, Felix Guattari, 1998, Qu’est-ce que la philosophie ?, Minuit, Paris.

- Martin Heidegger, 1968, Qu’est-ce que la philosophie ?, in Question II, Gallimard, Paris.

- Karl Jaspers, 1965, Introduction à la philosophie, P. Plon, Paris.

- Emmanuel Kant, (1966), 1970, Logique, trad. L. Guillermit, Vrin, Paris.

- 1796-A, (1982), D’un ton grand seigneur adopté naguère en philosophie, 1796-A, in Première introduction à la critique de la faculté de juger, et autres textes, trad. L.Guillermit, Vrin, 1982, Paris.

- 1796-B, (1982), Annonce de la proche conclusion d’un traité de paix perpétuelle en philosophie, 1796-B, in Première introduction, op.cit.

- Jean-François Lyotard, 1988, L’inhumain, Galilée, Paris.

- 2000, Misère de la philosophie, Galilée, Paris.

- 2012, Pourquoi philosopher ? PUF, Paris.

- Jean-Luc Nancy, 1986, L’oubli de la philosophie, Galilée, Paris.

- Platon, E.Chambry (trad.), 1967 Théétète, GF, Flammarion, Paris.

- Phi. Jaccottet (trad.), 1991(1979), Le banquet, LGF, Paris.

- Bertrand Russel, 1913 (1951), The problems of philosophy, Oxford university press, London.

- Alfred N. Whitehead, 1929 (1979), Process and reality, The free Press, Canada.

السعيد لبيب أستاذ الفلسفة بجامعة شعيب الدكالي الجديدة المملكة المغربية