عمان الثقافي

خَطَرَت

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

« المكان الذي تولد فيه هو أمر عابر، أما الوطن الحقيقي فيختاره المرء بجسده وروحه « الروائي البيروفي ماريو برغاس يوسا

تأبين لطفل فقد لسانه ولم يبدع به أبدا

من المؤلم ألا تكتب بلغتك الأم أو تبدع بها، أن تُنفى من لغتك إلى أخرى لتُعبّر عن منفاك بمعنى مادي مجسد بالتدوين، لا بمعنى معنوي مُصاغ بالشفوية. بل الأقسى من ذلك أن تجد نفسك شاهدا على تلاشي ثقافتك في سيلان الحداثة، ولا تفعل شيئا سوى نفض الذُرى عن يديك بعد أن تقبر روحك، وتقيم المأتم بكل فرح سرور.

ماذا يعني الخارج على نواميس الأسلاف سوى الجاحد؟!، وما قيمة الفرد المجبور على كشف السر إلا أن ينال الجزاء على ما أقترفه من ابتذال حياة أقوام أودعت سُررها، وأسرارها، وسِيَرها على الشفاه والذاكرة، فلا ترسم رسما، ولا تخط حرفا، ولا تحفر نقشا إلا على جدران تلك الذاكرة.

الكتابة خطيئة لا تُغتفر، والتدوين هتك لأحرام الذاكرة. الذاكرة مستودعنا الأبدي ومخزوننا الأدبي، لا يعرف الإفلاس إليه سبيل. والذاكرة كذلك الحبل السري الذي لم يُقطع بيننا وبين حُراس السُلالات العتيقة.

أجبر الفضول الفتى إلى العبث بالتدوين مستدينا من سجلات المعاني ألفاظها، ومن أشكال الحروف رسومها ووسومها، فلم يعبأ بنصيحة الجدات المُعلقة في الأعناق: «لا تنظر خلفك فتنطفئ جذوة القبس في يديك». فالتفت مرات ومرات بُغية الاحتفاظ بصور الطفولة المذرورة على ذُرى الفقدان، وسبر مسالك التيه.

إذا كان التدوين دَيَن في عُرف الرُحل، فالكتابة احتضار للروح وتنكر لسيرة الأسلاف، كل الصحائف زيف إلا الحفظ والاحتفاظ بالمعنى. الكتُب تميمة « كُتَب» (بالشحرية)، حُجبٌ تحجب عن بلوغ المُنى، ولا تُعلق إلا في رقبة أو حقو الممسوس.

الكتابة ابنة شرعية للسكينة، والمدنية موت سريري أنيق. الترحال حياة، التنقل خلود، سير ومصير. لا تمكث في مبيتك شهرا، تنقل لكيلا يفسد الاستقرار مقامك. سطر من نواميس الأبدية.

الحكاية التي تُكتب تفقد شعيرتها، القصة المتلاة على الألسن تُطهّر صاحبها من أدران النسيان المُهلك.

لا تقصص رؤياك في الصباح ولا تكتبها، وفرها للمساء لليالي المقمرة والليل الطويل، حين يجتمع الرعاة والخطار تحت نور القمر، فالقمر إله الرُحل (سِن) المنسي في السموات العلى، يحرس قوافل اللبان المتجهة نحو الأمكنة المقدسة. فينير الدروب ويبهج العمال العائدون من حقول اللبان، (فسن) لكل أثر و(سن) لمن يعرف الحقيقة ويكتمها.

كان في سن السادسة متخما بحكايا الليل والوصايا، ينام بلا سقف، السماء سقفه الدهري لذلك لا يرى سقفا يمنعه من البوح، ولا يخشى من آذان الجدران لأنه يسكن بين الجدران، بل بين رِحاب الاتساع.

يطالع النجوم المتلألئة في المجرات البعيدة، تنهاه أمه عن عدها، من يعد النجوم ويحسب نجمته يموت. لا تُصفر، الصفير يخلع السحب عن صفحة السماء، فيتأخر المطر، وينكشف المدى المُتجرد.

الترحال عصب الذاكرة، حين يرحلون يمرون بالأمكنة التي هي ذاتها حكاية. الجمجمة الضاحكة (جمجوت تضحك) (إذ اخطيطن لهم) ، شساعة سهل (ءجبجات)، الذي تمنته امرأة لأن يصبح رغيف خبز يلتهي زوجها بأكله، وتستمر مع حبيبها في نسج الحكاية، حبيبها الذي تزوجها ثم خذلها، فتحولت هي ذاتها إلى حكاية. ثلاثية أهرامات (صيرُتم) والقمة الرابعة التي انشقت عن الجبل وذهبت باتجاه البحر فمُنحت عقدا من الأحجار البيضاء.

التنقل يُولد الحكايات، خطوات السُراة تسرد سردا رشيقا على كحِداء السُّمر للضوامر، أو كملامسة الرذاذ للشفاه، نسرد القصص لنخدر أعصابنا من أوجاع المشقة.

هل قُلت إن الحكاية مادة مُخدرة تُسقى لنا نحن الأطفال لكيلا نمل المشي ويتمكن التعب من أجسادنا. نعم تلك القصص كانت كذلك، بل خُبزنا اليومي وخبرنا (خبور لكل قادم، حين نستفهم عن المجهول). سكنتنا الحكايات فلم نستكين.. نستعين بالقصص لقص الأثر والمساحات البكر.. وحين توقفنا عن الترحال توقفت الحكاية. وتلاشت المفردات التالية: (خطرت) هي الحكاية و(المخطر) هو الحدث، و(الخُطار) ضيوف بلا موعد ولا دعوة يأتون محملين بالحكايات ويرحلون، (عق خطري) بمعنى في ظني. مفردات انفلتت من الذاكرة فحاولنا استعادتها بالكتابة.

ننزح في جغرافية الوطن، نكتسب ثقافة ونفقد أخرى، نحسب ذلك تطورا بينما هو خسران مبين لذوات تحتضر. إننا نمارس يوميا طقوس العزاء للغة وثقافة توارثناها ثم لم يرضينا فتخلينا عنها، ولم يعد لدينا إلا ظلالها، أو صدى للغياب.

إنني أبحث عن الكلمات الملائمة لكفكفة أنين المشاعر والتعبير عما يخاتل النفس، هذا الذي ولّد لدي هذا الهاجس، هاجس الاستعانة بالكلمات لتعينني على عبور الآلام.

اللجوء إلى قص الأساطير سبيلنا إلى ما لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع، حين نفشل في تحقيق الممكن على عين المكان.

لم تكن غاية الحكاية المتعة والمؤانسة، بل غرس للقيم في حقل المعرفة، سرد تتناقله الأجيال فتضيف وتنقص وفق رغباتها ومحاذيرها. لأنه « إذا أردت لرسالة ما أن ترسخ في العقل البشري فصغها في قصة».( الحيوان الحكاء، جوناثان غوتشل، ترجمة بثينة الابراهيم)

نثرتُ الحكايات الأولى في (بذور البوار)، فيض من المعاني الملقاة على لسان البوح. لكن لم يرضينا الحديث المتشابك. فلجأنا إلى الترحال لعله يخفف من حد النزيف الداخلي، أو يحقق الأمنيات المرسلة إلى السماء صباحا ومساء. فلم يكن (الطرف المرتحل) إلا محاولة لتفقد ناموس الرحلة، وخاب الرجاء. فبحثنا عن حامل يرفع معه البيان. فأتت (موشكا) من عمق الأسرار لتحكي عن نفسها امرأة مجسدة في شجرة أنكرتها الميثولوجيا القديمة وخانها العشيق، فما وجدت من وسيلة تطهرها إلا الحياة الأبدية في كائن يجود بالعطاء كلما تعمقت جراحه. موشكا التي وهبتنا دموعها لنحرقها بخورا في المساء والإصباح. دموع موشكا ذاتها التي أُهديت إلى المسيح حين ولادته مع الذهب والمر، فرُمز لبخور اللبان بالقداسة والصلاة، كما ورد في سِفر المزامير « فلتستقيم صلاتي كالبخور أمامك».

ومن الحكاية البعيدة إلى حكاية قريبة مُسطّرة بالدم والدموع مختلطة بالهزيمة والأنين. فحضر (الأحقافي الأخير) ليتلو نشيد الخذلان والنكران ويقصص حكايته لمن غاب عن اللحظات وغيّبه المدونون، وليتلو على المسامع مديح الخيانة.

والآن أدركنا أن مُهمتنا هي تهريب الحكايات من الماضي البعيد إلى المستقبل القريب، فقد آن الأوان أن نسرد أنفسنا لنُعري أفعالنا، ونتخلص من سياط الضمير، ونقول كلماتنا وهي ستعرف طرقها للوصول إلى قلوب الأوفياء.

أما الترحال فباقي إن لم يكن مكانيا فزمانيا. ولن ينتهى إلا بتمددنا بجوار الأسلاف، لحظة الولوج إلى البرزخ.

الكُفش الأخير (2) / أناشيد الرعاة الإبليين

نحن المفطومين على حليب النوق لا يمكن لنا أن نتحرر من الحنين أبدا.

استدعاء أهل الخفاء

ورد في الأثر الذي يُحمى ولا يُمحى أن أهل الخفاء قوم من البشر انفصلوا عن الإنس، وبقوا في اللامرئي يروننا ولا نراهم، يساعدوننا أحيانا، يَظهرون في الأمكنة التي نتقاسمها معا (الوهاد والكهوف والمعاطن)، فيتأففون من الإنس ( هوف من هون ضي آنسوا) ( أوف من أين تنبعث رائحة الإنس)، هم الذين آثروا الركون إلى الفطرة المفقودة من الأرض، ولا يزالون يبحثون عنها.

لنقلب الصفحة

ماذا يعني ثناء البطل وتشجيعه لك، وأنت في الخامسة من العمر، تستجدي الثناء من السماء. كان السن عبارة عن أرقام فقط، البيئة والظروف تفرض عليك العيش بوعي أكبر من سنك. أما البطل فهو البطل بكل نبله وأخلاقه النضالية، فيتولد السؤال الأزلي، لماذا هو مختلف؟! تأتي الإجابة الحاضرة، لأنه من الحركة الوطنية بكل اخفاقاتها وبريقها ولذة الحلم. فيبدأ درب الفضول يطول، ماذا تعني الحركة الوطنية؟، واستمر السؤال الذي لا يخبو يستفز الذات المسكونة بالبحث خلف صورة البطل في ذهن الطفل.

عنف.. فرق وطنية.. جيش.. إعدامات.. ميليشيا ..سجن الجلالي.. قتل.. مؤتمر.. تعذيب.. بطولة.. شهيد.. عميل.. خائن.. نصر.. هزيمة.

كلمات لا يستوعبها ذهن طفل، فبقيت تشتعلُ في فلك الذاكرة، وينشغل القلب بها خوفا وأملا.

زاد الحماس للتوغل أكثر في عمق الأسئلة العقيمة وتتعذر الإجابة عنها. فكان مثل النار التي احرقت المستجير بها، فلما ولجتُ العتبات اتضحت الصورة أكثر. من قال الحرية فرح؟ الحرية ألم حينما يُترك الإنسان ليُقرر مصير ويحدد غاياته. بالحصول على الحرية ينتفي صراع الإنسان لبلوغ الغايات السعيدة.

هوامش:

1 - «خَطَرَت» تعنى حكاية باللغة الشحرية

2- نداء يطلقه رعاة الإبل لحث النوق على الرجوع إلى المعاطن.

محمد الشحري روائي عماني

ألقيت المداخلة في مؤتمر السرد الخليجي الرابع، صلالة أغسطس 2022.