عمان الثقافي

حساسية العوالم وانعكاسات الأسطورة محاولة تتبع مؤشرات المخيلة في رواية «لا يُذكرون في مجاز»

26 أبريل 2023
26 أبريل 2023

يمنح الفن للخرافة والأسطورة شكلا جديدا محميّا بإيمان قرائه الذين يضعونه في المسافة بين العقل والفاعليّة؛ ولهذا تختلف اللغة الأدبية في إفشاء هيمنة الثيمات المرتبطة باللامعقول في التجارب المختلفة. وما تقوم به الرواية هي الحرص على إيمان القارئ بفنيّتها إذ تكسب كل هذه الثيمات مصداقية مختلفة تؤتي جمالها في رغبة الخروج إلى عوالمها التي تختارها للقارئ. ومما لا شك فيه بأن قدرة الكاتب على توظيف اللامعقول يعتمد على خيط دقيق من حساسية الأدوات الفنية؛ وإلا فإن القارئ الفنّي - المكتسب أدوات هذه الحساسية - سيضع التجربة في رفّ التكرار؛ كما هو الحال في الأعمال السينمائية التي تجتر التجارب وتعيدها بشكل مختلف؛ قد تنجح في هذه الإعادة أو العكس من ذلك فتُنسى.

استطاعت الكاتبة هدى حمد في روايتها «لا يذكرون في مجاز» أن توظّف تلك الحساسية في تداخل العوالم التي شكلتها من خلاصة أساطير محلية وعالمية؛ استطاعت بالأولى أن تمزج بين الفكرة والموروث في سياق فني يدفع القارئ إلى مد الصلات بين ما يعرفه وما أضافته الكاتبة إلى ثيمات الأساطير والخرافات محاولة مدّ الصلات بالعالم الملموس الذي تحققت فيه الوقائع ضمن عالم آخر كانت شخصيتاه الراوية وجدتها. وهذا العالم كان موزيا لعالمين آخرين نستطيع أن نقول إن الصلات كانت على الرغم من خفوتها ذكيّة في بروزها على شخصية الرواية الرئيسية في المستشفى، وكان الخروج من عالمي الرواية الخفيين إلى العالم الأقل حضورا ذكيا كذلك في تبدّل هذه العوالم وحركتها المتوازية، إلى درجة أن تكون ملامح الانتقال وظروفه مشتركة الملامح إذا ما استبعدنا الفجوة الزمنية أحيانا؛ لكن الملموسات تبدو بسيطة ومترصّدة لاستجابات الشخصية السريعة بين عالمين يوهمان القارئ بل ويشدان تركيزه في تتبع الملامح، أو إثبات الحاضر ضمن الماضي أو إلغاء هيمنة الماضي على صراع الشخصيّة بين استعادة ذاتها منه أو إصرارها على تكملة الماضي في الحقبة التي تعيشها ملموسة ومحسوسة خارج الشعور البشري الذي يجمع الآخرين حولها، ولهذا مدت الكاتبة هذه التحولات بخيوط قديمة لم تكن بارزة قبل أنْ تتحول الشخصية إلى الصراع الذي كان يفتل الكثير من العقد في إطار العقدة الأم التي اشتركت شخصيات «مجاز» في حلها بموجهات الوعي مختلف المستويات أمام حالة طمس أشكال المعرفة.

نجد ذكاء تشكيل صراع الشخصية في إثبات وجودها الضئيل؛ وهو ما تعمّدت هدى حمد أن تجعله الصامت مقارنة باعترافات معاناة العالمين الآخرين في تشكيل حساسية أخرى بمعاناة المعرفة في إخراج الإنسان إلى الضوء. المحور الذي تدور حوله حركة الغيبوبة الانتقالية بين العالمين هو الخيط الرفيع الذي يتكلف ثقل التطورات بينهما؛ فالإفاقة والغيبوبة هي انتقال فاعل في الرواية يقف على دقة الرغبة في إكمال الأحداث الواسعة في مجاز وإكمال الحياة لرؤية هذا العالم بشكل آخر، لهذا كان بناء وعي الشخصية الرئيسة متقنا بالكثير من التصرفات التي تبرز عمق الإنسان البسيط في عالمه الخاص بعيدا عن اختلاف مواقف الآخرين منه، وما تعيشه الشخصية بينها وبين عالمها يسهم في خلق هشاشة ضرورية لرؤية مختلفة تكوّن جزءا كبيرا من عقدة الرواية.

«مجاز» تكوين متنوّع من الأيديولوجيا والفكر والأسطورة والبحث عن المخفيّ، لم تكن «مجاز» إلا بتغييب وتخصيص في وقت واحد، ثمت عوالم لا تقارب «مجاز» لكنها تعود إليها؛ مثلتها حركة الدفاع والقتال والمقايضة وتعيين المحيط وجبل المنسيين، البشر الذين يراهنون على العدالة يخرجون أنفسهم من بوتقة الأسئلة التي تغيّب الناس بعيدا، ويكفي أن يكون العطاء بقدر المنزلة، ومن هنا كانت صور الأسئلة تمثّل بأكثر من شكل تمتد من بؤرة العادات وطريقة التفكير واختلافه؛ كما مثّل ذلك الشخوص الأكثر تأثيرا على كسْر الموروث والمفروض، وقد كان طول الفترة الزمنية مؤشرا كبيرا على تغلغل هذا الموروث بين الناس ومعالم الحياة التي تمثّلها تحولات «مجاز» المعهودة.

عتبات الانتقال التي وظفتها الكاتبة متصلة بمجهول لا يترك مؤشرا في السياق الاجتماعي الذي تعيش فيه الكاتبة بالعالم الأول، لكنّ تمثلات «مجاز» هي جوانب متعددة تبرز تطور العلاقات بين الناس والموروث الذي يحافظ عليه المستفيدون منه في كل زمان ومكان؛ إذ يرتبط ذلك بشعور هؤلاء تجاه غيرهم، وما دامت المساحة الفكرية والاجتماعية في المقبول الذي يعيش به كل من تحت سيطرتهم لا تخرج لهم نشازا فهي الحياة التي يجب أنْ يلتزم بها الناس دون التفكير فيما يتجاوز ذلك؛ كما هو الحال في دور ألماس وصاحب الحصن، لكن الكاتبة وسّعت هذه الدائرة بتعدد الاختلاف الذي شمل العلاقات والمعرفة والفلك وازدواجية الموروث بين المعقول واللامعقول أمام قوة النقض والوضع الاجتماعي والجوع وضعف الموقف فالفكرة تتجذر في ملاحقة صور الصراع بين الوعي في تجليات مختلفة على شخوص موجهة كـ«بثنة الثائبة» و«الضحاك» و«الخبابة» و«الشاغي» و«حويضر» و«نجيم العاشق»، وقد أتاح أسلوب الروائية في تشكيل كل شخصية على حدة ثم تشكيل تأثيرها وعلاقاتها مع بقية الشخصيات، فالاشتغال على تجذير هذه الشخوص إلى مئات السنين يضع التجربة في كشف بشري يظهر الصراع بين المتغيرات والثوابت التي يحرص الظلمة على ترويج أفضليتها في حياة الناس الجمعية. وقد مثلت النجوم وجبل الغائب وامتداد الصحراء وما خلف عالم مجاز الضوء الذي يتبعه المنسيون.

المدهش في تجربة هدى حمد تكثيف دلالات كثير من الثيمات بتحويلها إلى ملموس ومحور صراع حسي يصدم القارئ بما ينكره أحيانا؛ لكنه يدرك سيرورة التجربة إلى بناء الثوابت على أنقاض ما ينقضه الإنسان بالمعرفة، واشتغال الكاتبة على الموروث بإعادة تفعيله في إطار الغرابة التي شكلت بها «مجاز» كوّن الكثير من المنطلقات التي تؤسس جوانب مشتركة مع عوالم أخرى؛ على رأسها عالمنا الذي يتعالق مع الماضي بهذه الموروثات الدالة على صراع ثقافي واجتماعيّ، وعلى الرغم من تجاوز ظهور الدين إلا نادرا؛ لكنه امتزج مع الثيمات الاجتماعيّة التي توارثها الناس في «مجاز» وبقيت جزءا من المنظومة التي تؤسس علاقات الناس مع بعضهم ومع الحصن وسيّده وهيمنة ألماس، كذلك علاقات الناس مع الطبيعة والسماء، ومواقفهم من تقلّبات الطقس وأثر ذلك عليهم وعلى مزروعاتهم وحيواناتهم، ولأنّ هذه أسباب حياتهم في الحيّز المسموح لهم به؛ فهم يخافون من الآثمين وكاتمين آثامهم. كل هذه المواقف تكرر بأشكال مختلفة في حياة الناس اليوم في ظل غياب الوعي والجرأة على الاختيار والاستدلال بالعقل المعرفيّ، ويبقى أعداء الوعي والتطور الفكري ماثلين لتعارض ذلك مع مصالحهم في الهيمنة الاجتماعيّة بلباس أصالة الموروث والأصل الدينيّ.

مارست الكاتبة لعبة توجيه الحوادث بين الخيال والواقع بأن تكمل الواقعة بما لا يربطها بالمشاهد والملموس؛ لكنها تتعقب حركة الواقعة لتصنع لها زوايا أخرى لتجاوز حساسية الصراع بين الزمنين، ولهذا نجحت في إثراء هبات الشخوص المؤثّرين في الصراع بتسلسل أسطوريّ في أغلبه موروث متناقل في حكايات المجتمع العمانيّ؛ لكنها ـــ كما تقدّم ـــ مكنته من التنوع ليكون أوسع من دائرة المجتمع المحليّ، ولا يمكن أن نقول عن هذا التشكيل الموروث بأنه ضيق الدلالات؛ لأنه أسس تجربة مختلفة وثريّة لعوالم إنسانيّة واسعة.

كان الوصف في التجربة الروائية فاعلا فنيّا يشكل الجزء الأخطر على الرواية؛ فكلما استطاع الكاتب أن يوظفه باعتباره زوايا تضفي على الحدث جدة وبناء دراميا صنع في تسلسلها وحركتها جوانب لا تشعر القارئ بثقله في التجربة، أما عكس ذلك فهو يثقل حركة الرواية ويحول مسارها إلى جهة أخرى لا تتناسب وانتقالاتها، وفي تجربة هدى حمد كان أكثره وصفا للتحوّلات والمشاهد التي تتعلق بالطبيعة والمؤثّرات المرتبطة بالصراع؛ إضافة إلى الملامح البشرية والمكانيّة.

ما الذي أرادته الكاتبة / بطلة الرواية ؟؛ إنه ما يصدم المتلقي أمام ملموس العصر بشكل آخر. نحن أمام عمل يمكن أن ينجز سلسلة عمل سينمائي يضعنا أمام رغباتنا في عالم ينفذ من عتبات زمنية إلينا ليقول إن تحت الأنقاض حيوات فاتنة تولد بالأساطير والأبطال الخارقين لبناء معرفي محسوس يوظّف موروث الشعوب الخفي - الذي تعود إليه في انكساراتها - في الإيمان بصراع الظلمة والكبرياء. صوت طالما صاحب المنطقي والمطلق في حياتنا، هذا العمل أراد لغة أخرى تثمر بمدلولات بنائيّة لا تستهلك إنكارنا للملموس وحده؛ بل تستجيب إلى تلك الرغبة في القول بشكل آخر، موازاة عالمنا صور ووجوه أخرى تسهم في انعكاس المتغيرات وصراعاتها علينا، بطلة الرواية مثال للكثيرين منّا يشكلون أسئلتهم ويلاحقون إجاباتها الخفيّة والهشّة.

التجربة مدهشة في هذا المزج الفني بين العوالم المتوازية في القديم وفي الشعور بهذه العوالم في يومنا هذا، حين تتوقد المعرفة والوعي الذي يعيش أصحابه في جبل المنسيين؛ هؤلاء المتكررون في كل حقبة تاريخية ليعيش الظلم في اطمئنان دون أن يقض هؤلاء مضجعه، كما هو الحال بين صراع الضوء والظلام.

محمود حمد كاتب وشاعر عماني