No Image
عمان الثقافي

ثنائية القرية والمدينة في مجموعة «قبل أن نسقط في البحر» للكاتب سلطان العزري

23 فبراير 2022
23 فبراير 2022

الشخصيات في نصوص القرية رسمت بدقة في وصف ملامحها الخارجية، وكذلك عوالمها النفسية الداخلية فيما تفقد الشخصيات في نصوص المدينة عمقها

النصوص متماسكة وفيها اشتغال على بناء النص، وتصاعد الأحداث، وقلق وتوتر الشخصية، والرجوع للماضي والذاكرة والتاريخ

تأتي مجموعة سلطان العزري «قبل أن نسقط في البحر» الصادرة عن مشروع كتاب نزوى في أكتوبر 2021، بعد عملين سرديين سابقين، الأول مجموعة قصصيّة بعنوان «تواطؤ» في عام 2006م، والعمل السردي الثاني، رواية بعنوان «سفينة نوح» صدرت عام 2012م.

قبل الولوج في عوالم المجموعة القصصيّة وثيماتها واشتغالاتها، سنتفحص عنوان المجموعة ولوحتها، واللوحة للفنانة التشكيلية العمانية بدور الريامي، حيث سنلاحظ في العنوان أن هناك نزولا بسيطا لكلمة «نسقط»، وتكاد هذه الكلمة أن تسقط من العنوان إلى البحر في اللوحة، ويدل لفظ «نسقط» على السقوط الجماعي، وليس الفردي، رغم وجود حذاء إنسان متروك على الشاطئ، وقد يتساءل المتأمل للوحة المجموعة، ما دام السقوط جماعيا، فلماذا يوجد حذاء واحد على الشاطئ؟ ولماذا فردة واحدة من الحذاء منقلبة على وجهها؟ وهل الشخوص الفردية داخل النصوص تمثل الأفكار المجتمعية؟ هل العنوان واللوحة تضع المتلقي في مفارقة بين العنوان واللوحة؟ وبين الجمعي والفردي؟ ولماذا السقوط في البحر؟ وليس في مكان آخر؟ علمًا أن عنوان المجموعة هو أحد عناوين نصوص المجموعة. وهل كلمة «نسقط» لها دلالاتها ومبرراتها داخل المجموعة؟ وماذا لو استخدم القاص كلمة نغرق؟ هل سيختلف المعنى والدلالة؟ أم أن القاص كان يشير إلى شيء ما في نصوصه ليحذرنا من سقوطه؟ ومفارقة العنوان تأتي من المعنى الدال داخله «قبل أن نسقط في البحر»، هل هنا التحذير من السقوط أم الاستعداد للسقوط؟ وفي كلتا الحالتين على المتلقي أن يتلمس معنى السقوط في كل النص؟ ما الذي دلَّ على السقوط في كل نص؟

تضم المجموعة بين دفتيها ثمانية نصوص، (الرائحة، خيل شنون، قصيدة للكورنيش، إجازة حقيبة، قبل أن نسقط في البحر، اهتراء، غياب، الأغنام) في 59 صفحة، حاولت المجموعة الاقتراب من الواقع، وملامسة هموم الإنسان، والتوغل في قضايا الحياة اليومية، وكشف بعض عقد المجتمع، والتحولات التي تحدث فيه. أحيانا بلغة مباشرة تطرح أفكارها في النصوص، وأحيانا أخرى بلغة رمزيّة، تتطلب من القارئ أن يفكك رموزها وتلمحاتها، مثل ما نجد ذلك في النص الأول «الرائحة».

هذه الرائحة التي تُطارد البشر، وتُحاصر المدينة، تختفي وتظهر في أمكنة وأوقات مختلفة، رمزية الرائحة هنا يمكن أن يفسرها القارئ حسب منظوره الشخصي. ربما تكون رائحة الفساد، وربما الفقر، وربما الهموم، وربما فضيحة ما، وربما أشياء أخرى. لذا نجد أن لغة المجموعة متفاوتة فنيًا، بين نص وآخر.

بعد الاقتراب من أجواء النصوص وعوالم المجموعة، سنجد أن عوالمها وفضاءاتها انقسمت إلى عالمين، عالم القرية، وعالم المدينة، وأحيانًا بعض النصوص تتداخل فيها المدينة أو تطل القرية بظلالها وعوالمها وذاكرتها.

حيث نجد أن خمسة نصوص من المجموعة فضاءاتها وعوالمها تدور في المدينة: (الرائحة، قصيدة للكورنيش، إجازة حقيبة، اهتراء، قبل أن نسقط في البحر). وثلاثة نصوص من المجموعة تتخذ من القرية جوا لها، وفضاءً مكانيا للحكاية، تنطلق منه في تكوين خطابها السردي (خيل شنون، غياب، الأغنام).

هذا الانقسام في جو المجموعة من حيث مكان النص وشخوصه، خلق جوًا من التنوع في المجموعة، وكذلك الاغتراب الداخلي في بعض شخصيات المجموعة، «أعطتني تلك اللحظات فرصة لمراجعة علاقتي بالمكان والناس، أحسست بغابة مظلمة أمامي، شيء لم أره من قبل، شيء موحش ومخيف، يجب أن تكون كالآخرين صارمًا ومبتسمًا للضرورة» ص58، ونلاحظ أن الشخصيات في نصوص القرية رسمت بدقة في وصف ملامحها الخارجية، وكذلك عوالمها النفسية الداخلية (مثل نص خيل شنون، ونص الأغنام)، وهذا ما لا نجده في نصوص المدينة، حيث إن الشخصية تفتقد عمقها ودقة رسمها، وأن أدوارها في النص عابرة ومحدودة، أو حضورها في النص جاء لأداء دور في النص، أو لتوضيح خطاب النص القصصي، دون عمق داخلي للشخصية. ونجد ذلك واضحًا في نصيّ (اهتراء، ونص إجازة حقيبة). وأحيانا تتداخل عوالم القرية والمدينة في بعض النصوص من خلال المكان أو الشخصية، وربما هذه الشخصية تعيش بين عالم المدينة وفضاء القرية، ونجد ذلك في نص «غياب» ونص «الأغنام».

نجد في نص الأغنام (وهو أطول نص في المجموعة) أن الشخصية التي تعيش في المدينة (حيث تعمل)، وتمتلك مزرعة في قرية تبعد 200 كم عن مكان العمل، ولكن هذا البعد المكاني بين القرية التي تمتلك فيها شخصية النص مزرعة وبين المدينة، لم يفصل بين العالمين، بل هناك تداخل بينهما، «إنها قرية ضالة، يبحثون لك عن المشاكل ويسوقونها لك، وإن كنت بعيدا عنها». ص47 ونجد كذلك أن خطاب الشخصية داخل النص قلق ومتوتر، حتى على مستوى تفكير الشخصية هناك تذبذب، بما تؤمن به من قيم المساواة، وما تراه في الواقع، نتلمس ذلك من نمط حوار الشخصية في النص، أن هناك نمط حياة وتفكير تفرضه عليك القرية، وكذلك هناك نمط آخر تفرضه عليك المدينة، وأحيانا تقع الشخصية بين هذين العالمين من التفكير.

فهذا النص رغم بساطة فكرته إلا أنه استطاع أن يسبر جزءًا من حياة الناس في القرى، وأن يكشف زيف الصورة المثالية/ النمطية للناس في القرية، فهناك الحسد والكراهية والضغينة والمكائد حتى بين الأقرباء والأهل.

قال: «الواحدة ما تسدها مائة ريال، خلنا نسوي بهن مضي» كانت الفكرة جيدة لو أني بمزاج جيد ولا أحسب عواقبها، لقد تغيرت الأمور كلها، كان ذلك ممكنا قبل فترة من الزمن البعيد، عندما كان أهلك وجماعتك وأصدقاؤك صفًا واحدًا، صفًا واحدًا في الصلاة وفي الحياة».ص49

نلاحظ أن النص يحلل وينتقد بطريقة فنيّة عوالم القرية، بالرغم من صغر الحدث السردي، إلا أن القاص دخل في الكثير من الأفكار التي تخص القرية، ووضع الكثير من الاحتمالات، والأسئلة، «لمن هذه الأغنام؟ وكيف الخروج بأقل تكلفة وضرر من هذه المشكلة؟ كانت مثل هذه الأسئلة تتزاحم في رأسي وأنا أجلس في عملي متظاهرًا بتقليب الملفات» ص47، ويسرد بطل النص قصة جده كيف تصرّف مع البدوي الذي حاول إخراج أغنامه السائبة التي ألحقت الضرر بمزرعة الجد. فحضور قصة الجد، وكيف تصرّف في هذا الموقف، رغم اختلاف الزمن والظروف بين الموقفين، (موقف الجد والحفيد)، لها دلالة في استحضار الذاكرة، إلا أن بطل النص يحاول البحث عن حل لمشكلته في زمن مضى. ولا يستطيع تطبيق الحل الذي طبقه جده في ذلك الزمن، خوفًا من العواقب.

هذا الرجوع للتاريخ والذاكرة الجمعيّة ليس مجانيا، وليس ترفًا، بل كان مقصودًا، حيث حاول الراوي أن يبحث عن جذور مشكلة الأغنام، التي تسببت في تخريب مزرعته، وارتباطه الوثيق بحياة الناس في القرية، والقلق الذي سببته له هذه المشكلة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن استحضار التاريخ والحكايات التي ترتبط بمشكلة الأغنام في الماضي، هي محاولة للبحث عن أعداء محتملين لشخصية النص، ربما هم من تسببوا بمشكلة الأغنام التي وصلت إلى مزرعته، وجعلته يقطع مسافة 200 كلم.

«كنت أدرك أن التاريخ حاضر وله سطوته غير المرئية، الأغنام لها تاريخ أيضًا، قد يكون تاريخًا مسكوتًا عنه، تاريخًا حقيقيًا في هذه البقعة من الأرض، إنها أحد عناصر الإنتاج التي قام عليها المجتمع الرعوي والزراعي، عادة لا ينتبه الناس لتاريخ الأشياء» ص51، «الأغنام لها تاريخ يا رجل». ص51

بناء النص، وتصاعد الأحداث، وقلق وتوتر الشخصية، والرجوع للماضي والذاكرة والتاريخ، والحوارات داخل النص والمونولوج الداخلي للشخصية، جعل النص متماسكًا فنيًا، يسبر الأشياء والأفكار بتمهل. لهذا يمكن أن نعدّ هذا النص مركزيا في المجموعة، لما يحمله من مضامين ودلالات تكشف لنا جزءا من نمط وتفكير الناس في القرية، كانت الأحداث تتصاعد بشكل متمهل، وأسهم توتر الشخصية في تصاعد الحدث، لكن المراوحة في الزمن بين الماضي والحاضر، جعل النص يتدحرج بمهل، حيث إن الراوي استحضر الماضي وقصصه بهدف البحث عن الجاني المحتمل، والكشف عن أنماط التفكير في القرى في الماضي والحاضر.

«القصة ليست بالبساطة التي تبدو عليها، إن وراء الأكمة ما وراءها، لذا يجب تفصيص الأشياء، التاريخ ليس عابرا، إنه معاش ويعود أحيانا على هيئات أو رسوم، أو خيالات وقصص قد تكون قريبة من سابقاتها لحد التماهي». ص52

نص آخر من نصوص المجموعة، حاول أن يقترب من حياة الناس في القرية، نص «خيل شنون» فالعنوان واضح وفاضح لعوالم النص، يتكلم عن خيل رجل يدعى شنون، فهذا الرجل البسيط جدا، الذي يعمل في بيع السكاكين المسنونة، أو المشارط لأكثر من ثلاثين عامًا، شنون ذو الأصول الإفريقية، النص بدأ بمشهد غريب، وانتهى نهاية غامضة «دوت طلقة رصاصة في بيت شنون» ص20، رغم زمن الحكاية داخل النص التي لم تتجاوز عدة أسابيع، إلا أنها كانت كافية لتعرية عنصرية المجتمع التي يمارسها ضد بعض أبنائه، وكافية كذلك ليشعر شنون بقيمته في الحياة، وأن يغيض الأغنياء والشيوخ، ويصبح مساويا لهم في الحياة والمجتمع.

«ما كان مُهما هو أن شنون الحداد بات يمتلك خيلًا يفاخر بها، خيلًا حقيقيةً، خيلًا أرادها أن تغيظ الأغنياء والشيوخ، شعر ساعتها بأنه تساوى معهم، شنون الحداد أصبح معهم، إنه يمتلك خيلا حية رغم هزالها» ص16

ما بين البداية الغامضة والنهاية الأكثر غموضًا للنص، سبر القاص حياة شنون، بالتوازي هناك سبر لأمراض المجتمع، وكيف يصنع طبقيته وعنصريته، وكيف يحاول المهمشون أن يبحثوا لهم عن قيمة ترد لهم اعتبارهم الإنساني، وفي رحلة بحث الإنسان عن قيمته المستحقة والعادلة في مجتمع يمارس القسوة والعنصرية يكلفه الكثير، وهذا البحث عن قيمة للإنسان في مجتمع لا يقدر معنى المساواة ولا العدالة هو فعل مقاومة حقيقي «عندما تبختر شنون بائع السكاكين المشحوذة متباه بها أمام الجميع في السوق، بدا المشهد مفارقًا، غريبًا ومزعجًا، مشهد لا يحتمل ـ كما قال أحدهم ـ شنون الفقير، شنون ذو الأصول الإفريقية، العجوز يمتلك خيلا ذات شلاشل وحلي فضيّة، وتتبختر في السوق» ص14.

اختيار شنون السوق ساحة للظهور أمام العامة كان مقصودًا، ليرى عامة الناس شنون وهو يمتطي خيله، ولكن هذه المجتمع الذي يعيش فيه شنون، سيحارب شنون بكل أدواته وقسوته، بالسخرية والإشاعات والبحث والتقصي، كيف امتلك خيلا؟ سياق الأحداث يقول: إن المجتمع هزم هذا الرجل المهزوم أصلا، والباحث عن قيمة له في مجتمع يسحق الضعيف ويبني له طبقية مقيتة. لكن المتأمل يرى أن شنون انتصر على عنصرية المجتمع في جانبين، اختارهما بذكاء وفطنة منه، سحق وهم المجتمع الذي يعيش فيه. الجانب الأول هو الأداة التي اختارها لصعق النظرة العنصرية له. اختار الخيل، وليس شيئا آخرا، لما للخيل من دلالات في مجتمع قروي، ولا يملك الخيل سوى الأثرياء والشيوخ، والجانب الثاني، اختيار مكان وزمن الظهور الأول بالخيل، حيث ظهر في السوق في التاسعة صباحًا؛ وهو بكامل أناقته، ارتدى دشداشة بيضاء جديدة، وعمامة بيضاء، وخنجرًا وعصا خيزران. كل هذه الأناقة متعمدة في الظهور الأول، فالرجل الذي سحقه المجتمع يريد أن يرد الاعتبار لإنسانيته، بعدما كان منزويًا لأكثر من ثلاثين عامًا في زاوية صغيرة في السوق. «قد بعرت كثيرًا، أو إنها تركت بعرها على وجه سيارة الشرطة التي ركنت خلفها». ص16 لهذه الجملة دلالاتها في النص، التي تزيد من نشوة النصر في روح شنون.

لا يهم كمية السخرية التي قابلته، لكنه حقق هدفه، ولو لأسابيع قليلة، وقال رسالته لمجتمع لا يدرك معنى المساواة ولا الحرية، ولا يهم كذلك كيف خطط مسبقا لاقتناء الخيل، وكم كلفه ذلك، وكيف وصلت له، وكيف كانت النهاية المأساوية للرجل. وغموض النهاية في النص أعطى للنص عمقا أقوى، فالرصاصة التي دوت في نهاية النص لا ندري من قتلت شنون أم خيله؟

بشكل عام شخصيات النصوص مهزومة، متألمة، متعذبة من واقعها، هاربة عن المواجهة، باحثة عن آفاق جديدة في الحياة، حتى الرجل في نص إجازة حقيبة جعل السفر سببا للهروب من واقعه.

حمود سعود كاتب وقاص عماني