No Image
عمان الثقافي

ثلاثة انطباعات عن كرة القدم

23 نوفمبر 2022
23 نوفمبر 2022

أعجوبة

أقول في كرة القدم ما قاله ليوناردو في الرسم، إنها كوزا منتالي [cosa mentale] أي أنها «مسألة ذهنية»، ففي الخيال فقط يمكن أن يجري قياسها وتقديرها. وطبيعة العجب الذي تثيره كرة القدم إنما يأتي مما تولِّده في عقولنا من خيالات الانتصار والقوة. بعينين مغمضتين، مهما يكن ما أبلغه من العمر ومهما تكن الحالة البدنية التي أكون عليها، أنا رأس الحربة النجم الذي يحرز هدف الفوز أو أنا حارس المرمى الذي يرمي نفسه بالحركة البطيئة عابرا الأثير للقيام بإنقاذ حاسم. وكم أحرزت في طفولتي من أهداف مذهلة (أعترف أنها جميعا من بنات خيالي). فكان الذراعان اللتان دأبت على رفعهما إلى السماء في غرفة الجلوس المهجورة ببيت أبويَّ جزءا من الطقس والاحتفال شأنهما شأن الهدف الذي سجلته للتو. كانت الاحتفالات، والتهنئات، والجثو على أرض الميدان، وإلقاء زملائي في الفريق أنفسهم فوقي وإحاطتهم بي، ومعانقتهم لي، وإغداق الثناء عليّ، هي أكثر ما استطبته، وليس الحركة نفسها، كان الانتصار النرجسي هو الذي يحدث البهجة، وليس احتمالية أن ذلك قد يحدث في يوم من الأيام على مستوى الواقع، أن أكون في يوم من الأيام قادرا ربما على التحكم في الكرة ببراعة إعجازية مستعملا قدمي بحيث أنني برباطة جأش، وبأستاذية، وبمهارة، وفي استاد حقيقي، وفي مواجهة خصوم حقيقيين، وعلى أرض ملعب حقيقية، قد أوجهها بضربة من مسافة خمسة وعشرين مترا صافية إلى الركن الأعلى من مرمي الفريق الخصم، على الرغم من محاولة حارس المرمى اليائسة المتخبطة عديمة الجدوى لصدها. تلك الصورة مغوية، يقينا، ولكن لدي طموحات أخرى في الحياة عدا أن أكون بارع القدمين. وذلك في حالتي يتعلق أكثر بيدي، وليس في الفن فحسب. إن الواقع محبط بصورة شبه دائمة، وليس هذا بجديد عليكم. في سن الثالثة عشرة كان كل شيء قد انتهى، ومسيرتي الكروية قد بلغت نهايتها. فآخر أحلامي بالمجد يرجع إلى ربيع عام 1970، وكان ذلك في بروكسل، في شقة شارع جول ليجون. كان أبواي قد أخبراني للتو بأننا سوف ننتقل إلى باريس، فبدا عليَّ الحزن وأنا واقف بالباب الفاصل بين غرفة الطعام وغرفة الجلوس فقام إطار ذلك الباب مقام مرماي الخيالي، وبات مسرح آخر سيناريوهات مجدي الكروي. كانت حقبة كاملة تبلغ في تلك اللحظة منتهاها. كان الواقع بالنسبة لي آنذاك هو هذا المستقبل المجهول في باريس وبداية مدرسة في عام 1970 ملتحقا بالصف الرابع تلميذا مقيما في مدرسة داخلية ثانوية في ميزون لاتيه. كان ذلك ليصبح بمثابة استئصال، وليكون بمثابة نهاية للطفولة، للأيام السعيدة ولبروكسل. كان من شأنه أن ينهي سنوات الدفء. والطفولةُ عادةً ما تتبعها المراهقة، والحياةُ، والواقع، بلا مهادنة، بينما الكرة، بتكوينها الكروي، متقلبة، متغيرة، تقاومنا، وتهددنا، وتذلنا إذلالا.

الطفولة

في بروكسل، في ملعب المدرسة الابتدائية رقم 9، كنا نلعب كرة القدم في الفسحة ولم يكن المعيار الذي ينفصل على أساسه الفريقان هو الصغار في مقابل الكبار أو البيض في مقابل السود أو الصف الرابع في مقابل الصف الخامس، وإنما الأخلاق في مقابل الدين. في بداية السنة، في هذه المدرسة العلمانية في شارع أمريكا في إيكسيليس، كان الخيار الفعلي الذي يواجهه المرء هو خيار بين الأخلاق والدين، بحسب رغبة آبائنا أو رفضهم، أو رغبتنا نحن أنفسنا أو رفضنا لدراسة أحد المنهجين. وفي حين أن منهج الدين كان يبدأ بحلقات تنوير من حياة المسيح وقراءة للإنجيل، كانت البقية منا تتلقى لونا من التعليم المدني الأولي الذي لم أستوعب مذاقه الكامل إلا بعد سنين موجزا في كلمة الأخلاق. ومع ذلك، في الفسحة، كنا نحن التلاميذ، مستمسكين بهذا المعيار الفارق الذي بدا لنا منطويا على بساطة إنجيلية والذي كان يمتاز فضلا عن ذلك بأنه عابر تماما للأجيال (فقد كان من الصغار كما من الكبار كثير من المؤمنين ومن غير المؤمنين، ومن المدافعين المحتملين، ومن المهاجمين المفترضين) في ملعب شارع أمريكا، كنا نلعب مباريات كرة القدم بين الأخلاق والدين، ولقد كان لاعبو فريق الدين وأنا منهم (ودائما ما كنت في الدين بقوة، على الأقل حتى السنة السادسة) هم بحق شياطين الكرة.

وقت كرة القدم

اهتمام أحدكم بمباراة في كرة القدم مسألة لها علاقة خاصة جدا، في جوهرها، بالزمن، علاقة بالتلاؤم الدقيق، علاقة بالتزامن الأكمل بين المباراة الجارية أحداثها ومرور الزمن. كرة القدم لا تحتمل أوهى فجوة، أو أقل انقطاع، ولأن كرة القدم تندمج اندماجا تاما في مسار الزمن، ولأنها تعانق مروره إلى حد الامتلاء، ولأنها تسكنه وتقيم فيه وتستوطنه، فذلك ما يهبنا ونحن نشاهد كرة القدم لونا من السلامة الميتافيزيقية التي تصرفنا عن شقاواتنا وتلهينا عن فكرة الموت. في الوقت الذي نشاهد فيه مباراة في كرة القدم، خلال الوقت المعين الذي يمر ونحن في الملعب أو أمام شاشات تليفزيوناتنا، ننتقل إلى سكنى عالم مجرَّد مُطَمْئِن، فإذا بنا في شرنقة زمنية تبقى ما بقيت المباراة، معزولين عن جراح العالم الخارجي، بعيدين عن احتمالات الواقع، وآلامه، وخيباته، بما فيه من زمن واقعي، زمن حرون لا يكف عن دفعنا دفعا إلى الموت، زمن يبدو وكأنه مخدَّر. وذلك أيضا هو السبب في أن كرة القدم، في اللحظة التي نشاهدها فيها، تنشئ ما يشبه سمة تشويقية. فحينما نشاهد مباراة لكرة القدم، يكون المستقبل، في المدى القصير، مزعزعا، منفتحا بصورة أساسية. يكشف المستقبل النقاب عن نفسه أمام أعيننا، نكتشفه قطعة قطعة في زمن وقوعه. في الوقت المحدد الذي نشاهد فيه مباراة في كرة القدم، تكون النتيجة غير معلومة، ولا مضمونة، فيستحيل علينا أن نسمح لأنفسنا بفقدان انتباهنا ولو للحظة، أو بترك مقاعدنا (وإلا فإننا نعمد طائعين إلى مخاطرة، لأنه في هذه اللحظة، أيْ في أيِّ لحظة، قد يسجَّل هدف). لذلك تفقد مباراة كرة القدم إثارتها فور أن نعرف النتيجة النهائية. فلا يكاد الخيط الخفي الذي يصل كرة القدم بمرور الزمن ينقطع، ولا يكاد يُنتزع من اللعبة بُعْدُ اللارجعة الأصيل فيها، حتى يصير ألقها وبهاؤها بددا: ولا يبقى غير مادية اللاعبين، وابتذال الواقع وعنفه، والعرق، والصياح، والضرب، وعبثية وجنون في عشرين رجلا إذ يركضون من وراء كرة في ملعب.

من كتاب «كرة القدم» لجان فيليب توسان، في ترجمة شاون وايتسايد إلى الإنجليزية ومنشور في مجلة «ذا باريس ريفيو»

جان فيليب توسان كاتب بلجيكي، له تسع روايات، صدرت جميعا عن دار لي إيدسيون دي مِنْوِي في فرنسا، وحصل على العديد من الجوائز الأدبية، منها جائزة ميديسيس عن رواية «الهرب»، وجائزة ديسمبر عن «حقيقة ماري».

أحمد شافعي شاعر ومترجم مصري