No Image
عمان الثقافي

تمثلات الراوي في التخييل التاريخي العُماني

24 سبتمبر 2025
24 سبتمبر 2025

ثاني بن جمعة الحمداني -

اعتنت دراسة النص السردي الحديث بالراوي وأضحى مجالا خاصا بما يسمى بـ«الدراسات السردية» التي أبان حضورها المجال اللساني والمجال الدلالي، والدراسات البنيوية النصية (نسبة إلى النص)

لذا كان دوره ووجوده ضروريا؛ لأنه كما يقول إمبرتو إيكو: «إن السارد قد يترك لنا حرية استباق الأحداث».(1)

فالراوي عنصر يرصد أحداث الحكاية، وشخوصها، ويرسم مسارها الحكائي، ويجعلها ذات توجه خاص، متخيلة يفصل فيها بين عالمين: واقعي ومتخيل برؤيته ووجهته السردية «زاوية النظر» فإذا كنا ننظر إلى الواقع الحكائي، فإن الراوي يركن خلف ستارته مختبئا ومراقبا ما ستؤول إليه الحكاية.

ولئن كان النص السردي بمكوناته الحكائية الوسيلة التي يمضي إليها الدرس النقدي والبحثي؛ فإن الراوي هو المحرك الذي يقود تلك العناصر، ويلاقي بينها ويمضي في ترصدها وسبر أغوارها الدلالية والتأويلية.

يعد الراوي أو السارد تقنية سردية يعمد إليها المؤلف ليحرر حكايته، ويستدعي جوانبها الحكائية، فهو الموجه الذي به تتحرك كافة العناصر وتحضر في الفعل الحكائي. يبين مسارها الفضائي وأدوار شخصياتها. «إن السارد هو صاحب الصوت الذي نسمعه في الرواية، ويتكفل بتقديم الحكاية إلى مخاطب سردي أو قارئ مفترض...هو فاعل لغوي وبنية سردية تعبر عن نفسها من خلال اللغة».(2) والراوي هو من يحدد مساحة العمل السردي وأحداثه ووقائعه، وشخوصه، لهذا فإن العمل الأدبي ذاته يتحول إلى خطاب الراوي يحلل صورته ويكتشف مساره التكويني والسياقي ويبين نوعه وانتماءه من خلال مجاله الفني.

هذا التشكل للراوي قد أبان عن جملة من المسارات النصية وأخرج الحكاية المتخيلة إلى مقاربات مختلفة يفرض وجودها ويسعى إلى بلورتها: واقعية ومتخيلة: تاريخية وواقعية. فكانت هذه الوجهات السياقية والدلالات المختلفة للراوي من الحدود الفنية التي اهتم بها الروائي في عمله، وواكب بها حضور نصه ومايز من خلالها حكاية أحداثه وشخوصها. فقد «كان اهتمام الروائيين العمانيين بالتعبير عن واقع المجتمع العماني في رواياتهم، وبعث شخصياتهم وأحداثهم من هذا الواقع، فعبروا عن النواحي التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية»(3).

أنماط الراوي:

النمط الأول: ويكون الراوي في هذه الحالة هو المؤلف الحقيقي، بحصول تطابق بين الراوي والمؤلف الحقيقي وذاك يتحقق أساسا، وبشكل بين فيما يعرف بـ(السيرة الذاتية). فيأتي الراوي بشخصية حقيقة واحدة مشتركة في تسلسل الفعل الحكائي.

سواء كان ذاك الحضور بالاسم الحقيقي لذلك الراوي، أو باسم آخر؛ لكنه يروي أحداثا حقيقة تنسب إليه، وهذا النوع نجده مثلا في السيرة الذاتية التي كتبها الروائي العماني المعروف صاحب السيرة الذاتية: محمد عيد العريمي والتي أطلق عليها مذاق الصبر» والتي تحدث فيها عن الحادث الذي تعرض له أثناء قدومه من مدينة صور، بعد أن اعترضت طريقه مجموعة من الجمال، مما أودى به إلى الإعاقة. كما يمكن أن نجدها في السير الذاتية العربية كسيرة طه حسين (الأيام) وسيرة مخائيل نعيمة (السبعون) وغيرها من السير الذاتية ذات المجال التأليفي الذاتي وذات الأحداث الحقيقية التي تروى بضمير المتكلم غالبا، ويكون المؤلف هو البطل وهو الشخصية الحقيقية والتي تتطابق أحداثها مع واقع ذلك الكاتب، وحياته وسيرته، وسيرة زمانه وتتقاطع مع طفولته.

النمط الثاني: وفي هذا النمط يقع شيء من التقاطع بين شخصية المؤلف والراوي ومن خلال هذا النمط يختلط الواقع بالمتخيل. وقد نلمح من خلاله نوعا من الإيهام بواقعية الحدث. التي يفترض فيها المؤلف راويا مناوبا عنه في رصد الأحداث، وبيان عناصرها. والمتمثل في الحكي التاريخي الذي يصور الواقع، ويجلي بعض جوانبه الحياتية والزمانية والمكانية ويتحدث عن شخصياتها الواقعية والتاريخية، ويصور مجريات وقائعه وأحداثه. وهو ما سنقف عليه في هذه المساحة.

النمط الثالث: وفيه ينفصل الراوي عن المؤلف؛ فتكون للراوي وظيفتان: راوٍ مشارك في الأحداث يقوم بالحكي بضمير المتكلم، وراوٍ غير مشارك؛ ولكنه حاضر يعرض الأحداث ويربط بين أصوات الشخوص التي يقدمها. وهو في عموم الرواية التي تحمل أحداثا تخييلية، وهذا هو مجال الكتابة السردية التي لا ترتبط أحداثها بالواقع ولا تستمد حكايتها من مجال الحياة الواقعية بل تمثلها من خلال حكايتها المتخيلة التي سيتقي الكاتب أحداثها من ذاته ومن فكره وقراءته لذلك الواقع وهو لا يعني بذلك ترصده حركة حياتية أو تصوير لواقع معين بل يهدف في المقام الأول إلى إمتاع القارئ بفنه وبأدبه ومساره التكويني والكتابي وهو يحضر كمشاهد دون تدخل في مجريات الأحداث؛ ولكنه قد لا يفترض واقعا بعيدا؛ فإن الأدب هو صورة للواقع وما ينتمي إليه فلا حدود فاصلة إلا من خلال فعل التخييل، ومجابهة الواقع بواقع مغاير تخييلي في درجته وتصوره.

إن هذه الصور التي يظهر فيها الراوي على اختلاف أشكالها تنعكس بظلالها على حال الشخصيات، وطبيعة وجودها السردي، وعلى ما ينبني عليه مجمل الخطاب الحكائي.

وقد أشار تزفيتان تودوروف(T.Todorov) علاقة الراوي بالشخصية الروائية في النص من خلال رصده لتلك العلاقات المؤسسة للرؤية، وهي:

*الراوي الشخصية الروائية (الرؤية من خارج) وفيها يكون الراوي أقل معرفة من الشخصية.(4)

ومن خلال هذا النوع «فإن الراوي لا يقوم بشيء سوى مراقبة الشخصيات ورصد سلوكها الخارجي دون النفاذ إلى مشاعرها أو معرفة أفكارها ودواخلها. (5) إن كل فعل حكائي تندرج أمامه سلسلة من الوظائف والمهام تحكمه، وتسعى لفرض مستواه الحكائي: فالراوي بوظيفته الانتباهية، ووجوده من خلال مبدأ أو هدف ينوي الوصول إليه، مما يجعله يستقي ذلك، وأن يستحضر شخصياته ويقدم أفعالها؛ فالراوي له من الوظائف: «الحكي، والتأثير».(6) من جهة أخرى يوضح (بارت) العلاقة بين المؤلف والراوي والشخصية فيقول: «إن الراوي شخصية من شخصيات الحكاية»، وإن الراوي والشخصيات كائنات من ورق»، وأن الراوي هو من صنع الكاتب وليس حضوره إلا متخيلا يقدم الحكاية ويسرد أحداثها ويقابل بين شخصوها.

«أما (جنيت Gerad Genette ) فقد قرّب المجال بين المؤلف وبين الراوي» فعدّ المؤلف صاحب الرواية، وعدّ الراوي شريكا له فيها». وهي نظرة وصفية دلالية جعلت الراوي مشاركا في الحكاية؛ كأنه لا يخرج من أصل الحكاية سواء على مستواها الواقعي المنتسب إليه المؤلف أو على مستواه التخيلي المنتسب إليه الراوي نفسه».(7)  نجد الفارق المتكون والتمايز الحاضر بين أداءين ودورين وموقعين متباينين: موقع الكاتب من حيث وجوده واقعا وتاريخيا، وموقع الراوي من حيث هو وسيلة لغوية خطابية. وقد استحضر هذا التمايز -النظر إلى علاقة الوجهتين- بين الموقعين والدورين: «فأمام الكاتب التاريخي هنالك قارئ تاريخي، وأمام السارد هنالك مسرود له، فالأول مساره الواقع العيني، والأخير مجاله الخطاب التخييلي».(8) 

الراوي بين السرد وحكاية التاريخ:

يقول عبدلله إبراهيم في كتابه «التخييل التاريخي»: «التخيّل التاريخي هو «المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية، وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية، ورمزية»(9).

ينبني الخطاب السردي في عمومه على راوٍ يأخذ موقعه ووجهته من خلال وجوده السردي في بنية النص؛ فيقدم الحدث والشخصيات، ويرسم مسارها الحكائي هذا ما يمكن أن نجده في النص التخييلي غير الواقعي. لكن من هو الراوي في العمل التاريخي أو الواقعي؟ لعل القول الظاهر إن المحرك الأول في العمل التاريخي هو المؤلف. والمراجع التي يعتمدها في تأليف الحكاية ويجعل منها صورة متخيلة من خلال وسائل الحكي، واختيار أسماء الشخصيات، وتغيير لبعض مستويات القول: من الفضاء وترتيب الزمان والحبكة وغيرها. وكل هذا في حقيقة الأمر أيضا مرجعه المؤلف.

«فحص ريكور مفهوم التجربة الزمانية وبنية الزمن الإنساني فذهب إلى أن القصص التاريخية والقصص الخيالية متشابهة؛ لأن مضمونها يظل واحدا، ألا وهو بنية الزمن الإنساني. وبصرف النظر عن كون السرد الخيالي نقيضا مقابلا للسرد التاريخي، فإنه مكمله وحليفه في المجهود الإنساني الشامل في سرد الزمانية».(10).

في رواية «بن سولع» التي تقع أحداثها في جزء من عُمان في المنطقة القريبة من دولة الإمارات والتي كانت محط نزاع بين أهل تلك المنطقة وآل سعود في خمسينيات القرن الماضي. هذه الحكاية التاريخية معروفة من قبل الكثير ومسطرة في العديد من المراجع، والمصادر التاريخية. فكانت هذه الحكاية الجزء الأساس الذي قامت عليه الرواية.

في رواية «السيد مرّ من هنا» نجد الكاتب يختار شخصية السيد سعيد بن سلطان؛ فيقدم حكايتها وقصة المبعوث العماني والسفينة التي وصلت إلى أمريكا محملة بهدايا السلطان، وطريقها بين رحلتها وعودتها إلى مسقط. وكل هذا مرجعه إلى التاريخ وله حضوره في العديد من المصادر.

في رواية «الباغ» تتحايل الحكاية، فتقدم لنا شخصيتين من خارج مدينة مسقط، فهي وسيلة فنية بدأت بها الرواية، بينما الحكاية الأساس هي تلك الأحداث التاريخية التي حدثت في عمان قبيل تولي السلطان قابوس -طيب الله ثراه- واستمرت إلى السنوات الأولى من حكمه، فأشارت إلى تلك النزاعات والتوجهات الفكرية والسياسية. وبالتالي فـ«صلة الرواية التاريخية بالنصوص التاريخية هي صلة تناص يكون فيها التاريخ نصا سابقا والرواية نصا لاحقا...»(11).

تقدم رواية «الباغ» مستوى من حضور الراوي العليم؛ فهو يقدم الحكاية، ويستحضر شخوصها، ويسرد أحداثها.

وقد كانت الحكاية التاريخية التي رصدها الراوي من خلال تتبع طريق الشخصيتين: راشد وريا وخروجهما من قرية السراير في الرستاق ووصولهما إلى مطرح. ثم كانت الحكاية حين أخذ راشد دوره التاريخي، وأصبح جنديا من جنود السلطان وضابطا له مكانته، وسيرته في الحرب، وقتال الخارجين عن نظام الحكم وسلطة الدولة الحاكمة.

ثم صورت لنا الأحداث التاريخية التي ترافقت مع الأحداث الأخرى من خلال حكاية الشخصية زاهر الذي يسافر إلى الكويت طلبا للعلم، ثم نجده يسلك طريقا مختلفا؛ فيلتحق بالثوار في اليمن وظفار، ثم يعود إلى عمان وهو مسجون. فصاحب الراوي الأحداث والشخصيات، ونقل أفعالها وأحداثها ومصيرها برؤيته السردية ومنظوره الحكائي. «وقف راشد عند الباب الكبير يحرسه، يراقب الناس ويتعلم طبائعهم بسرعة تعلم من علي القراءة والكتابة، وحفظ القرآن وشيئا من الشعر... وعرف تاريخ مسقط.. وصار يوما بعد يوم يشعر بأنه ابنها وأنه ينتمي إليها وإلى تاريخها وقلاعها وسورها ومساجدها وسكانها المختلطين... بعد مدة.. وأنه اختير ليصبح عسكريا في حامية مسقط. «.(12).

الراوي في رواية «بن سولع»:

من أنماط الراوي ذلك النمط الذي يقع في محور التلاقي بالمؤلف: فهو يوهم بواقعية الحدث والوصول به إلى مستوى التخييل والابتعاد عن الواقعية المباشرة التي تختلف في مستواها الحكائي التخييلي. وهذا ما يمنح الراوي بعده الحكائي ويعطيه صفته السردية وقيمته الفنية: فالحكاية التاريخية وإن كانت ذات واقع معروف؛ لكنها بطريقة جديدة تستحضرها الرواية ويقدمها الكاتب بفنيته وأسلوبه مختارا لها جانبا من الرؤية السردية التي تمكنه من ترصد حركة أحداثه وتوالي شخصياته المشاركة في الحكاية، هذا المنحنى يقودنا إلى استنطاق ما هو واقعي وما هو غير واقعي. فنحن أمام عمل سردي متخيل والراوي هو الوسيلة التي تقربنا إلى الحكاية التخييلية وتقودنا إلى مستوى من التماهي بين ذلك الواقع وتشخيصه وتمثله محور الحكاية.

يقول علي المعمري في شهادته: «لقد تكونت لدي فكرة كتابة رواية «بن سولع» حينما كنت وبشكل دائم أقطع الطريق ما بين دولة الإمارات العربية المتحدة، وسلطنة عمان، خاصة عندما أدخل إلى منطقة حتا، حيث تثار لدي أسئلة كثيرة إلى أن أصل إلى منطقة تدعى بالروضة، وهي تابعة لولاية محضة على الطريق الواصل بين عمان، ودبي...(13).

ومنذ أن صدرت الرواية وهي تمتلك حضورا واهتماما من قبل النقاد والقراء والمتابعين؛ فقد تحدث عنها الدكتور هلال الحجري منذ صدورها في مقال عنونه بـ(القبض على جمرة التاريخ) حيث يقول: «استطاع علي المعمري في هذه الرواية أن يقبض على جمرة التاريخ باقتدار باهر؛ فالعمل يكشف عن دراية كاتبه بأسرار تلك المرحلة التاريخية من جهة وقدرته على الإمساك بخيوط السرد في نسيج متماسك، يضيع كثير من الكتاب في متاهاته من جهة أخرى...»(14).

وتوالت الكتابات عنها حتى حصولها على أفضل راوية عمانية عام/2011 في مسابقة جمعية الكتاب والأدباء.

إن «الروائي الحقيقي يمارس لعبته الفنية على مساحة وهمية بين الجانبين، أو هو كلاعب سيرك على حبل مشدود، وما أسهل أن يسقط على شبكة الحقائق التاريخية الاجتماعية فيكون أسيرا لها، أو يواصل مغامرته الإبداعية؛ فيصبح قادرا على قراءة جوهر حركة الواقع، ومساراته الفعلية؛ فيكتشف أمامه الطريق ويستطيع أن يدلنا على المستقبل»(15).

لقد كان الراوي الخيط الواصل في مجريات الأحداث؛ وحوله تمركزت الشخصيات، والحكاية وسيرتها. فلم تبتعد أية شخصية عن مساره، ولم يقف أي حدث بعيدا عنه؛ فهو بين الشخصيات الماضوية: بين حمدة وبن ليه بين زعماء الواحات وصراعهم بين بن باروت وعشيقاته، وبين مصدق وزوجته، وبين مالكوم وطلابه وتاريخه؛ فهو بين الجميع وأمام كل الأحداث الحاضرة. وهو بذلك قد سيطر على الحكاية، وأخرجها عن الإشكالات الموجهة لها -وإن كان عقبة أمام بعض الأحداث والشخصيات في بعض الأحيان- لأنه أبعد تلك الشخصيات عن محورها الخاص، وقاوم أحداثا لا شك أنها كانت بعيدة عن مجاله واهتمامه؛ لكنه بقوته الحكائية والقولية قد أخرجها من مكمنها واستدعى حضورها بين مختلف الفواعل والأفعال، وساوم بين أزمنتها وأمكنتها وتوالي مساراتها الحكائية حتى تلك الشخصيات التي حاولت أن تجد لها فرصة للخروج. لم يتركها وبقي متواصلا معها رغم بعدها المكاني كما فعل بمصدق حين سافر وبالضابط الذي أعطاه مصدق رقمه ليتواصل معه والبروفسور الذي خرج من محاضرته بعدما أوصاه بأن يترك له بعض ما يحتاجه مع منسقة مكتبه.

«وما بين خدور الظلام وسريانه، وبوادر النعاس وعذوبته، سبحت بمخيلتي؛ فتكشف لي مشهد جديد عن جدة الحراسيس، وهي تستقبل دلوك الفجر، وتنفض عن سمائها وترابها عوالم وظلام ليل البارحة. وتفسح الطريق لإشراقات شمس يوم جديد وكان وقتها بن سولع يتعقب مراحل الفجر، يظهر ويبتان في مرحلة الغفلة فاغرا فمه، يلتقط قطرات الندى المتساقطة قطرة قطرة..»(16).

يذكر الكاتب قصة كتابته لرواية «بن سولع» بعد أن زاره الباحث والمؤرخ الإنجليزي ولكنسون وأهداه كتابا عن الحدود الشرقية للجزيرة العربية. وبعد قراءة الكتاب جاءت فكرة الرواية... حيث استمر بحثه في جمع تلك الوثائق والمصادر أربع سنوات ونصف السنة، تخللها رحلات كثيرة في الحصول عليها (15 ألف وثيقة) من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وإيران، والمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات.

مثّل الجانب التاريخي في رواية «بن سولع» منحى واضحا في سجل المتواليات التاريخية، والزمانية التي اختفت بين بقايا المحفوظات والتراكمات المختلفة؛ فالرواية في وجهتها بحث تاريخي قد لا يتوفر للكثير الإحاطة به والتعرف عليه، ثم إنها جمعت مختلف المسارات التي يجهلها الكثير منا فقد اعتمد الكاتب على ما يقارب 15 ألف وثيقة. وهي مهمة لن يتسنى للكثير التصدي لها. تقول الدكتورة فاطمة الشيدي حول رؤيتها لرواية بن سولع: «رواية بن سولع رواية تاريخية بامتياز، وهي في ذلك رواية جريئة تواجه، وتفكك الكثير من التاريخ المسكوت عنه، في تاريخ منطقة شبه الجزيرة العربية أو ما يعرف اليوم بمنطقة الخليج العربي» (17).

كما يقول الدكتور محمد زروق عن رواية بن سولع: «رواية بن سولع هي آخر الروايات المنشورة لعلي المعمري، وقد انصرف فيها إلى إثارة جملة من المواضيع الحارقة على وجه الإطلاق، هي مواضيع تبعث الحكاية وتولد الأحداث وقد مثلت هذه المواضيع في رواية بن سولع دوائر كبرى ينتظم فيها السرد ..(18).

2-رواية «السيد مرّ من هنا»:

يقدم الراوي خطابه السردي معتمدا على مدونات واقعية، وهو يقوم بذلك من خلال وسيلة الإيهام بواقع الأحداث وسيرها وتكويناتها السردية من علاقات بالشخصيات الروائية وبفضاءاته الحكائية: المكانية والزمانية، والدلالية. ففي مدار وجهته أن الخطاب التخييلي عليه أن يستقي بعده التداولي والتأويلي مستقلا عن التبين والبيان. وهذا ليس من حدود الواقع أو الخطاب الواقعي.

-»عما تبحث أيها الفتى؟

-أريد أن أذهب معك.

-لكن بلاد بعيدة. لا، مستحيلة لمن هو مثلكم

-أمحارب أنت؟

-لا

-أتاجر أنت؟

-لا

-أتجيد الزراعة؟

-لا...لا أجيد سوى الحلم...أريد أن أرى ما تراه يا مولاي.

-هذا لا يكفي، لكن امض في بحار مخيلتك واتبعني».

-أريد أن أتعبك بعيدا عنها.

-لا تقاطع حديث السلاطين أيها الفتى، قلت لك اتبعني من حيث أمرتك. (19).

تقاطع حلم الفتى الذي يعاني مشكلة صحية متخيلا السيد سعيد وهو يبحر إلى شرق أفريقيا في سفينته السلطانة. ثم يستمر حلم الراوي الفتى بعد أن وصل أفريقيا وهو يحضر مجلس السيد. وهي يعترف بحكمه على عمان وزنجبار والمناطق المحيطة بها.

فالراوي/ الشخصية الرئيسة يرسم حدود الفعل الحكائي بين رواية الحلم وطريق الرؤية التي تجمعه بالسيد سعيد وخادمه جوهر الذي يشارك الراوي حلمه وتوالي حكايته.

يخبرنا الراوي بحكايته ولقائه بخولة بنت السلطان: «الماء يجري بهدوء النهر الصغير، تتبعه حتى دخل القصر بيت المتوني، لا أدري كيف عبرت حراسه... يخبرنا عن جمادار تنغاي الذي أوكله السلطان أمور سفينته؛ فهو من يركب أولا، ويقدم له تقريرا، وقد وثق به نظير إخلاصه وذكائه.

ثم يسرد لنا الراوي الحاضر عن رحلة أحمد بن النعمان في السفينة سلطانة حاملة هدايا السلطان إلى أمريكا... والتي أنقذت سفينة بيكوك والقنصل الأمريكي، روبرتس الذي استقبله السلطان في قصر المتوني.

«سألني أحمد بن النعمان هل تتذكر اسم السفينة سلطانة؟ ثم قال هي سفينة بنيت في مومباي عام 1933م.. وقال ابن النعمان: «إن السيد سعيد بن سلطان استقبل ذات يوم في قصر المتوني القنصل الأمريكي روبرتس... قال: إن سفن بلاده تعاني من صعاب في المياه العمانية، ولا تعامل كالسفن البريطانية، وقال له: أيها السلطان لماذا لا تكون بيننا علاقات تجارية ستكون في صالح زنجبار وبقية إمبراطورتك؟ وعرض عليه مشروع معاهدة تجارية...(20).

يسوق الراوي حكايته زمنيا بواقعية وهو يتجول في مطرح ومسقط وأسواقها وأبنيتها ومقاهيها وناسها. وجولته في مستشفى الأمراض العقلية. ومعه مرافقه خادم السيد والحلم المرافق الذي ينتقل به الراوي إلى دولة السيد سعيد بن سلطان وسفيره أحمد بن النعمان المبعوث إلى أمريكا.. فالراوي بين صورتين مختلفتين زمنيا: زمن الكاتب الراوي وزمن الحكاية المروية التاريخية في أحداثها وشخصياتها. فصارت الحكاية حكايتين حدثتنا في زمنين مختلفين. وكان الراوي وجهة سردية متخيلة جمعت الأحداث والشخصيات. فالرواية تحكي قصة السلطان سعيد واتساع مملكته بين مسقط وزنجبار وهو يتنقل بين العاصمتين حاملا خيرات البلدين إلى العالم عن طريق تمكنه من السيطرة على طرق البحار والموانئ التي ترسو بها سفنه المحملة بالبضائع، وقد كانت الدول الغربية تسعى لعقد اتفاقيات تجارية وتعاونية مع السلطان وهذا ما نجده في عبارة القنصل الأمريكي الذي تمنى أن يسمح السلطان لهم كما يسمح للسفن البريطانية، وهذا ما حملته رحلة أحمد بن النعمان المعروفة والمعروف عنه أنه أول سفير عربي يصل إلى أمريكا. فالرواية قد وضعتنا في محاورة تلك الأحداث التاريخية من حياة السلطان سعيد والتدخلات الأجنبية وبعض الجوانب الخاصة من حياته، وبعض خاصته وخدمه من الجنود والعبيد والتابعين والعاملين معه. فالحكاية رحلة في سيرة السلطان والرواية حكاية بين التخييل والواقع. «إن الرواية تقوم أساسا على موازاة هذا الواقع كتابيا وفنيا وتخييليا، وصوغ كونها وعالمها وفضائها استنادا إلى طبيعة صيرورة هذا الواقع وإشكاليته وما يرتبط به من عوالم مختلفة»(21).

3-الراوي في «الباغ»:

قام الراوي في هذه الرواية باستدعاء أحداث البلاد قبل تولي السلطان قابوس -طيب الله ثراه، وأسرد بعض الأحداث التي صاحبت تلك النهضة المباركة من حركات مناهضة، وانقسام البلاد بين عمان الداخل والساحل، وحرب واحة البريمي والتدخلات الخارجية. وكل ذلك في سرد حكائي تخييلي، قوامه الحكاية التاريخية المنقولة في مختلف المصادر والكتب التاريخية. “فالتخيّل التاريخي لا يحيل على حقائق الماضي ولا يقررها ولا يروّج لها، إنما يستوحيها بوصفها ركائز مفسرة لأحداثه»(22).

لقد شكل الراوي حضورا واسعا استطاع أن يرسم حدود الحكاية المروية ذات الحكاية التاريخية المرتبطة بأحداث ووقائع وشخصياتها وقد امتلكت جوانب التاريخ، وكونت صورتها في المصادر التاريخية التي رسمت تاريخ المنطقة الخليجية، وحركت الدول الأخرى نحو رصد العلاقات، وتكوين المصالح المشتركة أخذت المنطقة إلى حدود ومسرات معيشية وتاريخية، واقتصادية، وسياسية.

يمكننا في الختام أن نطمئن بالقول حول الإشكالية القائمة في تمثل الراوي في العمل الروائي التاريخي أو ما يسمى بتسريد الخطاب التاريخي أو بالتخييل التاريخي على عبارة عبدالله إبراهيم ما نجده لدى سهيرة شبشوب معلّى وهي ترصد العلاقة القائمة بين السارد والمؤلف والتي توجهت بالقول مستشهدة بما أورده جيرار جنيت وقد يكون هذا القول الفصل الذي نحل به هذا الإشكال: فقد قالت: «إن مسألة المطابقة بين القائم بالسرد والقائم بالكتابة، وبين السارد والمؤلف، قائمة على نوع من الخلط وقد يكون هذا الخلط «شرعيا حين يتعلق الأمر بقصة تاريخية أو سيرة ذاتية حقيقية؛ ولكنه لا يكون كذلك إذا تعلق بقصة خيالية»(23).

لقد قدم الراوي الأحداث والشخصيات وقارب بين مستويات الحكي، ورصد حركة السرد والخطاب الحكائي بكل جوانبه السردية والحكائية واللغوية والدلالية؛ فكان نوعا من الخلط الشرعي حين تعلق الأمر بقصة تاريخية. وكان عمله تخييلا لا علاقة لها بواقع أو بتاريخ في القصة المتخيلة، وإن تعانقت الأحداث وتشابهت الشخصيات وظهرت بعض الصلات والروابط والتأويلات يبقى ذلك العمل السردي مختلفا عن العمل التاريخي. وكان الراوي بمختلف أنواعه وتشكيلاته، وتبيان حضوره في الروايات المختارة: بين الراوي العليم والراوي المشارك والراوي الشخصية هو الفاصل الذي باين حضور التاريخ، وقارب فعل الخيال.

الهوامس:

(1) إمبرتو إيكو، تأملات في السرد الروائي، تر، سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثاني، 2015. ص187.

(2) الرواية العربية «ممكنات السرد» أعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الحادي عشر، ديسمبر، 2004، ص64.

(3) بخيتة خميس القريني، توظيف التراث في الرواية العماني في العقد الأخير من القرن العشرين، الانتشار العربي، بيروت، ط1، 2014، ص116-117.

(4) امبرتو ايكو، ست غابات في السرد، تر، سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 2005. ص45.

(5) عدالة، أحمد محمد، الجديد في السرد العربي المعاصر، إصدارات دائرة الثقافية والإعلام، الشارقة، 3006، ط1، ص14.

(6) عبدالرحيم الكردي، الراوي والنص القصصي، القاهرة، مكتبة الآداب، ط1، 2006، ص68.

(7)سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، بيروت، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط3، 1997، ص:282-298.

(8) ثاني الحمداني، بنية الشخصية في الرواية العماني، الآن ناشرون وموزعون، الأردن، ط 1، 2019م، ص17-18

(9) عبدالله إبراهيم التخّيل التاريخي: السرد والامبراطورية والتجربة الاستعمارية. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت، ط:1، 2011م. ص5.

(10) فاضل ثامر، التأريخي والسردي في الرواية العربية، دار الروافد الثقافية، ناشرون، بيروت، ط1، 2018، ص24.

(11) المرجع السابق، ص25.

(12) رواية الباغ، ص43

(13)الرواية الخليجية الجديدة، وقائع ملتقى الشارقة التاسع للسرد العربي، إعداد عبدالفتاح صبري، الشارقة، دائرة الثقافة والإعلام، ط1، 2013م. ص383-384.

(14) جريدة الشبيبة تاريخ النشر: 28/1/2011م.

(15) نزيه بو نضال، التحولات في الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1 2006م، ص71.

(16)رواية بن سولع»76

(17) عالم علي المعمري السردي34،

(18) عالم علي المعمري السردي،45

(19) رواية السيد مرّ من هنا، ص54.

(20) الرواية، ص112

(21) علي الشرجي، تداوليات الخطاب السردي في روايات علي المعمري، الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، مسقط، ط 1، 2021، ص57-58.

(22) عبدالله إبراهيم التخّيل التاريخي: السرد والامبراطورية والتجربة الاستعمارية. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت، ط:1، 2011م. ص5.

(23) سهيرة شبشوب معلّى: السارد في الرواية العربية: بين 1996-2006، ضحى للنشر، تونس، ط1، 2017، ص251.

ثاني جمعة الحمداني كاتب عماني