عمان الثقافي

تقاسيم على الماضي

24 أغسطس 2022
24 أغسطس 2022

أقدم مشهد في ذاكرتي للموسيقى يعود إلى نهاية السبعينيات. كنا نعزف نحن الأطفال الحفاة لحنا بدائيا توارثناه -ربما- منذ أيام الفراعنة. نتذكره حينما تتراكمُ الغيوم وتأكلُ الشمسَ، أو تحجبُ القمرَ. تنفتح أبواب قريتنا في صعيد مصر. نخرج منها إلى الأزقة مخلِّفين سُحب الغبار، ثم نتوقف لاهثين في مكان واسع يشبه الميدان نُطلق عليه «الرَهَبَة». كل طفل يمسك بآنية نُحاسية، بدلوٍ من الألومنيوم، بصفيحةِ جبنٍ أو عسلٍ فارغة. نطرقُ عليها بمغارف خشبية ضخمة، وبعد ارتجال يشبه «الدوزنة» ينتظم الإيقاع وترتفع حناجرنا الخضراء بالنشيد، ونحن نتطلع إلى السماء المخيفة والغيوم التي تتشكل على هيئة وحوش خرافية تستعد لالتهامنا: «اجليها يا رب اجليها.. احنا عبيدك تحتيها». وكان الرب يستجيب دائما، فتنقشع الغيوم، وتُشرق الشمس مجددا، أو ينفضُ القمرُ عن نفسه الغبارَ فينجلي بدوره ويضيء كالماسة.

استخدمنا الموسيقى لضبط إيقاع الكون. لحفظ إيقاع الكواكب والشمس والقمر في مداراتها، لكنس الغيوم، لمسح التكشيرة من وجه السماء. خشينا أن نترك الشمس غائبة فتشرق في الصباح من المغرب، لا نتركها إلا وقد أطلت علينا بعينين حمراوين من أثر الدخان. في الصبح تكتحل بالضوء وتعود إلى طبيعتها أمَّا حانية جميلة، وهكذا تُفِلح الموسيقى ويخسر الشر جولة في صراعه معنا.

كل شيء حولنا ذكَّرنا بفقرنا، وبصعوبة الحياة في السبعينيات، كانت شرائط الكاسيت تُباع في مدينة «نجع حمادي» القريبة، لأغلب مطربي تلك الفترة، لكن الآباء فضلوا على الدوام شراء شرائط فارغة، لنسخ ما يريدونه عليها في مُسجِّل كبير ذي بابين. يضع أبي الشريط الفارغ في ناحية وشريط المطرب في الناحية الأخرى. يضغط زر التسجيل الأحمر، بعد أن يهددنا بقطع الرقاب لو صدرت عنا أي نأمة. الجلبة معناها أن يُعيد التسجيل. كان أبي يسجل القرآن ويرتله بصوت رفيع، بينما تسجل أمي حفلات الطرب، وتغني بصوت جميل أمامي أنا وأشقائي الصغار، وحينما تندمج في الغناء تسحب سيجارة اختلستها من علبة أبي الكليوباترا وتدخن. كانت تغني لأم كلثوم غالبا. تعيد وتزيد حتى يبدو وكأنها في حفل خيالي، لكن حضور أبي كان يقطع استرسالها ويسحبها من السماء إلى غرفتنا الضيقة. تصمت كسوفا لا خوفا، لكنها تغسل فمها سريعا حتى لا يلتقط أبي بأنفه المدرب رائحة الدخان. كان أبي يحب عبد الحليم حافظ، وفايزة أحمد، وشادية، وفريد الأطرش، لكنه لم يكن متخصصا ولا كان أقرانه متخصصين في أسماء شعراء الأغنية والملحنين وقصص غرامهم. استمعوا إلى تلك الأغاني واستمعنا معهم بدون أن نُقِلق رؤوسنا المشغولة غالبا بالجوع.

كان العائدون من الخليج يرتدون جلابيب بيضاء حريرية ويخرجون إلى الشوارع. يمسك كل منهم بمُسجِّل ضخم، يعمِّره بالحجارة «الطورش»، فيرتفع الصوت عن آخره بالغناء. يسير مختالا. يتوقف أمام أبواب البيوت قليلا كأنه يريد أن يطمئن إلى تأثيره في ساكنيها، وهو مصيبٌ غالبا في نظرته تلك أو في اعتقاده ذاك، فكثير من أبائنا يتحدثون عن رفاهيته والنعيم الذي يرفل فيه، ثم يدعون لنا الله بالسفر يوما ما إلى الجنة، والعودة منها لارتداء الجلابيب الحريرية وحمل المُسجِّلات.

لم نعدم البهجة، انتزعناها من «الترانزستور»، ومن التلفزيون. كان هنالك ما ننتظره كل يوم. صباح الجمعة تعلو موسيقى برنامج «سينما الأطفال»، قوية كأنها توقظ الصغار، ترتفع أصوات الكورال: «سينما الأطفال.. سينما. سينما الحقيقة وأحلى خيال»، ثم موسيقى السماء وصوت النقشبندي قبل صلاة الجمعة «مولاي إنني بابك قد بسطت يدي، من لي ألوذ به إلاك يا سندي؟»، ثم ترتفع موسيقى تتر برنامج «عالم الحيوان». موسيقى سيمفونية تعكس التصاعد التدريجي في الجري بين وحش وظبي، أو نسر وأرنب بري، ثم ننتهي إلى صوت مقدم البرنامج المذيع محمود سلطان. يأتي إلينا محمولا على قطيفة، يسلبنا لبَّنا، ويجعلنا تعيش أجواء قنص لا تنتهي. صوت فيه الكثير من الرصانة، والإقناع، والإرواء، ثم نستمع إلى تتر برنامج الشيخ الشعراوي. موسيقى خاشعة بسيطة صارت علامة على ذلك الزمان، وعلى فترة الظهيرة من يوم الجمعة لسنوات طويلة، بعدها يظهر الشيخ الشعراوي بجديته وابتسامته وبساطته، يشرح للناس أمامه في المسجد، وللناس أمام الشاشات، أمور دينهم ودنياهم بلغة يفهمونها، لغة فيها قصص حياتهم، فأحبوها وأحبوه.

يوم الجمعة كان كذلك مناسبة للأفلام الكوميدية بالأبيض والأسود، وأبطالها المحببين، إسماعيل ياسين وعبد السلام النابلسي وحسن فايق وفؤاد المهندس وعبد المنعم إبراهيم وحسن مصطفى وزينات صدقي وماري منيب وغيرهم وغيرهن. حظيت تلك الأفلام بموسيقى تصويرية واحدة. نسمعها من بعيد فنعرف أن الفيلم الكوميدي بدأ، كانوا يؤجلون الفيلم أسبوعا للانتقال أحيانا إلى إذاعة خارجية ومشاهدة مباراة كرة قدم في الدوري، وكانت موسيقى الانتقال إلى تلك الإذاعة الخارجية مميزة وحماسية ويبدو فيها الكورال وكأنه يهتف: «هيا»، ثم يأتي البرنامج الذي نكرهه كأطفال لكننا فهمنا قيمته بعد أن كبرنا، برنامج «حياتي»، بموسيقى التتر الأوبرالية. يؤدي ممثلون أدوارهم ويجسِّدون قصة مأخوذة من الواقع بإتقان، ثم تتوقف التمثيلية عند ذروة الحدث أو المشكلة، بدون أن تقدم حلا، لتبدأ المذيعة فايزة واصف التعليق على ما شاهدناه، وغالبا تستضيف متخصصا يشاركها حل المشكلة.

كان هنالك الكثير من البرامج المهمة التي ارتبطنا بها من غلافها، أقصد من موسيقاها المميزة في التتر. برنامج «تاكسي السهرة» مثلا قدم كثيرا من الفقرات الجديدة بالنسبة لنا وقتها عن الأفلام والأغاني والمسرحيات. برنامج «اخترنا لك» صار الأهم طوال أعوام، بفقراته المميزة الأجنبية، مثل فقرة الساحر، والأغنية الجديدة، والعروض الأوبرالية، والفقرات الإعجازية، وكذلك بتقديمه لفقرة مسابقات «تليماتش»، والمسلسل الأجنبي مثل «ماكجايفر» وبطله الذكي. كان ماكجايفر يخرج من الورطات بفضل ذكاء حاد يعينه على الهرب من الفخاخ بأقل الإمكانيات، أو «إكس فايل» في وقت لاحق في التسعينيات، في هذا المسلسل يعمل المحققان بقسم التحقيقات الفيدرالي فوكس مولدر ودانا سكالي على حل الجرائم الغامضة بشكل غير اعتيادي.

صار الناي الصوت المميز لبرنامج الدكتور مصطفى محمود «العلم والإيمان». موسيقى لا يمكن أن تخطئها أذن، ولا يمكن أن يرفضها وجدان. صار ذلك الصوت الحزين مدخلنا إلى العلم. يبدأ الدكتور مصطفى محمود غالبا من الفرضيات والنظريات العلمية الجديدة، وفي خلفيته ينساب صوت الناي خافتا، ثم تأتي الفقرة الجميلة، حينما يعرض مصطفى محمود الفيلم العلمي، وبعدها يربط ما شاهدناه بالدين. كل ما أراد أن يثبته هو وجود الله في كون تتباعد مجراته وتلتهم ثقوبه السوداء النجوم الضالة والشاردة.

أما الموسيقى الخام فقدمتها إلينا الفنانة العظيمة رتيبة الحفني في برنامج «الموسيقى العربية» على مدار عقدين كاملين. بدت لي في هذا الوقت امرأة من عصر غابر، إذ ولدت في عام 31، وعلى مدار سنوات راكمت منجزا مهما من الغناء في الأوبرات العالمية وقادت كثيرا من مؤسسات الموسيقى المصرية، من عمادة معهد الموسيقى العربية «قسم البنات» إلى رئاسة البيت الفني للموسيقى، ثم أصبحت أول امرأة تتولى منصب رئاسة دار الأوبرا منذ عام 88. قدمت إلينا الموسيقى الرفيعة، وعرفتنا بأهم الموسيقيين، وأفهمتنا أن الموسيقى ليست حراما كما يقول شيوخ الزوايا في قريتنا.

حينما انتقل بنا أبي إلى مدينة نجع حمادي صار بإمكاني سماع الموسيقى في أحد أزقة السوق القريبة، فبائعو الكاسيت يشغلون شرائط المطربين الجدد. أحببت صوت المطربة حنان وحينما رأيتها في بوستر صارت فتاة أحلامي. انتظرت حدوث معجزة ما تجعلها تعيش معي في مدينتي الجنوبية. أحلام يقظتي اقتصرت على قصة حبنا. توثقت علاقتنا حتى أنني طلبت منها أن تفسخ ارتباطها بفريق «الأصدقاء». كانت تغني لي حينما تلاحظ أنني متضايق: «افرح بقى وافرجها يا عم»، وحينما رأيتها في تلك الحفلة بالتلفزيون ذات مساء شديد الحرارة ترتدي ميكرو جيب شعرت بالغيرة الشديدة من كل هؤلاء الشبان الذين يتقافزون أمامها ويمزقون لحم ساقيها بنظراتهم.

أحببت أصالة نصري. بدأت قوية. ظهرت جادة ورصينة بارتباطها بأشعار نزار قباني. أرسلتْ إليه قبل أن تبدأ الاحتراف أغنية لها، ففوجئت به يبعث إليها خطابا فيه الكثير من الثناء على صوتها، والمفاجأة أنه منحها قصيدة له هي «اغضب» فغنتها بإجادة، كانت صادقة ومتعالية وغير مكترثة وهي تدعو حبيبها للغضب. كان هناك كذلك صوت الجبل، نجوى كرم. في فترة الجامعة حجزت الكرسيين بجوار سائق الميكروباص على الدوام. كنت أمنحه شريطها «عالعلالي» أو «يا حبايب»، فتنجح في إخراس الركاب. صوت نجوى هادر كشلال. تشعر أنها تمارس به نوعا من السحر القوي، كأنها تسيطر على وحوش في غابة، ولا أعرف إلى الآن لماذا انقطعتُ عنها وانقطعتْ عني.

ظهر محمد فؤاد شابا يشبه كثيرا من أصدقائي، لم يكن مهتما بالحفاظ مثل آخرين على رشاقته، لم يكن مهتما بالموضة سوى في تسريحة شعر «البَنْك» حيث تمتد مقدمة الشعر إلى الأمام كأنها فوهة مدفع دانة. جعل الموسيقى سريعة وجعلنا نتمايل رقصا في الشارع نحن المراهقين: «في السكة قابلت اتنين. ماشيين مع بعضهم. خليك بعيد عنهم. في السكة»، ثم فوجئنا بالأصنام من الأجيال السابقة يتحدثون عنه وعن المغنين الجدد أصحاب الذوق الهابط بغضب. أرادوا منعه بأي طريقة من الغناء، وكان كلامهم مقنعا لآبائنا فقد رأوا فيه شرا مستطيرا، وهم يشاهدون لهفتنا على أغنياته. رآني أبي أرقص على أغنيته وأغني «في السكة» ذات مرة فجرى خلفي في الشارع بشاكوش.

أما محمد منير فانسال كالنهر الفريد، حاظيا بمحبة الجميع. صوت أسمر دافئ، فيه من نعومة رمال النوبة، وخصوبة أرض أسوان، وملاحة الجنوب، وتدفق النيل. كان فيه شيء من البراءة وهو يغني «شد القلوع يا مراكبي. مفيش رجوع يا مراكبي»، واحتاج عمرو دياب إلى الكثير ليصنع نهرا موازيا في مواجهته. ظهر عمرو دياب فقلب الموازين. وُلد نجما. رأيناه شابا متوثبا وسيما، صوته به نبرة غير معتادة على الأذن، لكنها لا تشبه نبرة المطربين الشعبيين. كان صوت الطبقة «الكلاس» إن جاز التعبير، لكن الجميع اعتبروه ملكا لهم. شق طريقه بنجاح وغنى «شوقنا أكتر» و«غني من قلبك» و«هلا هلا» وغيرها. صنع أسطورته بصوته وبشكله. صار ملكا للموضة. إذا ارتدى قميصا جديدا سارعت مصانع الملابس إلى إنتاجه، وسارعنا إلى ارتدائه. اختار لنا عمرو دياب تسريحاتنا، اختار لنا ملابسنا، وأحزمتنا، وخواتمنا، وحتى طريقة كلامنا ومشينا. أطال سوالفه في أحد الأعوام وحاولت عبثا تقليده فقد كان سالفيّ قصيرين، وقال لي أبي شامتا وهو يعرف محاولاتي اليائسة: «الله لم يمنحك سوالف، فماذا تفعل في خِلقة ربنا؟!»، لكني لم أعلن استسلامي. تسللت إلى غرفته هو وأمي، وأخذت قلم الكحل الخاص بها وأكملت الناقص في سوالفي بالأسود، ونظرت في المرآة. هززت رأسي راضيا عن النتيجة، لكنه أمسك بي ومسح سوالفي بقطنة مبتلة!

ظهر في الأفق إيهاب توفيق بألبوم «اكمني» ثم «مراسيل». كنت أتشارك المال مع أصدقاء في نجع حمادي لنشتري أي ألبوم جديد له أو لغيره، ومع ظهور إيهاب ظهر «البنطلون» التركي الأزرق. كان فتحا بالنسبة لنا أطار عقولنا. طلبت من أبي أن يشتري لي واحدا لكن المبلغ كان كبيرا، خمسا وخمسين جنيها كاملة، وبعد يومي تفكير اتخذ أبي القرار ومنحني المال. كانت لحظة لا تُنسى حينما ارتديت البنطلون التركي لأول مرة. سرتُ في الشارع متمهلا أتطلع لعيون المارة لأرى إن كانوا ينظرون إليَّ بانبهار وإعجاب!

بعد استقراري في القاهرة عام 98 انتهت أيام موضة الموسيقى بالنسبة لي، لم يكن هناك الكثير من الوقت وأنا أحاول أن أثبتُ نفسي في مجالي الأدب والصحافة. أخذتْ الموسيقى حيَّزها البسيط. تراكمت الشرائط في مكتبتي للجميع بدون فواصل زمنية، أم كلثوم مع عبد الحليم حافظ وليلى مراد ومحمد فوزي وعلي الحجار ومحمد فؤاد وعمرو دياب وكاظم الساهر ولويس آرمتسرونج وإلفيس بريسلي وفريق بينك فلويد. أمد يدي وأسحب شريطا أو أسطوانة وأشغلها. تصبح الموسيقى خلفية للمكان، لكني أقوم بإطفائها فورا إن أقدمت على فعل شيء آخر. فشلت طوال سنوات في الاستماع إلى الموسيقى بينما أكتب أو حتى أتحدث في التليفون. أقرأ عن الموسيقى وأشاهد كتابات أصدقائي حول تاريخ الغناء والأغنية كما يفعل الشاعران أحمد شافعي وإبراهيم داود لكني لم أحاول مسايرتهم أبدا. الموسيقى واحدة من أعظم اكتشافات البشرية، أستمتع بها وأنا أجلس على شاطئها ولا أحاول أبدا السباحة فيها.

حسن عبد الموجود قاص وصحفي مصري