تحولات القراءة في زمن الذكاء الاصطناعي
ترجمة: بدر بن خميس الظفري
ماذا تقرأ؟ ولماذا تقرأ؟
قبل بضعة عقود، لم تكن هذه الأسئلة مطروحة بهذا الإلحاح. كانت القراءة نشاطًا عاديًّا، غير مثير للانتباه، ولم يتغير جوهريًا منذ ظهور صناعة النشر الحديثة في القرن التاسع عشر (وهي منظومة إنتاج وتوزيع الكتب والمجلات كما نعرفها اليوم).
في عام 2017، نشرت الكاتبة إيما راثبون مقالة ساخرة ضمن سلسلة «صيحات وهمسات» (سلسلة مقالات ساخرة في مجلة ذَا نيويوركر) بعنوان «قبل الإنترنت»، عبّرت فيها عن روح القراءة كما كانت تُمارس قديمًا، فقالت: «قبل الإنترنت، كان بإمكانك الاستلقاء على مقعد في حديقة بمدينة شيكاغو، تقرأ كتابًا للكاتب دين كونتز، وكان ذلك يُعد أمرًا عاديًا تمامًا، ولن يعرف أحد أنك فعلت ذلك إلا إذا أخبرتهم بنفسك». كانت القراءة مجرد قراءة، لا أكثر. ومهما يكن ما اخترت أن تقرأ، صحيفة، أو أعمال الكاتب الفرنسي مارسيل بروست، أو كتاب «سمسار النفوذ»، فإنك كنت تمارس القراءة ببساطة عبر تحريك عينيك على صفحة، بصمت، وفي الوقت الذي يناسبك، وبالوتيرة التي ترتاح لها.
أما اليوم، فقد تغيرت طبيعة القراءة. لا يزال كثير من الناس يستمتعون بالكتب والدوريات الورقية التقليدية، بل إن العصر الرقمي أتاح لبعضهم نوعًا من التمكّن الفائق من القراءة، إذ أصبحت الهواتف الذكية بمثابة مكتبات جيبية متنقلة. لكن بالنسبة لآخرين، أصبحت القراءة المثالية القديمة، تلك القراءة العميقة، المتواصلة، التي تبدأ من أول النص وتستمر حتى نهايته، أقرب إلى أن تكون شيئًا من الماضي.
هؤلاء القُرّاء قد يبدؤون كتابًا إلكترونيًّا ثم يُكملونه لاحقًا عبر الاستماع إلى نسخة صوتية منه. وقد يتخلون عن الكتب تمامًا، ويمضون أمسياتهم في تصفح تطبيق «أبل نيوز» ومنصة «سبستاك» (منصة للنشرات البريدية والمقالات)، ثم ينجرفون في نهر موقع «ريديت» (منتدى إلكتروني واسع الانتشار) الذي لا ينتهي.
أصبحت القراءة اليوم تجمع بين التشتت والتركيز في آنٍ واحد؛ إذ تمر أمامنا كلمات عشوائية كثيرة على الشاشة، بينما تُخيّم في الخلفية منصات مثل يوتيوب، وفورتنايت (لعبة فيديو شهيرة)، ونتفليكس. كلها تُلحّ علينا بخيارات الترفيه المتعددة، فكل لحظة نقضيها في القراءة تستلزم مقاومة إغراء التوقف، وكأننا نتخذ قرارًا مستمرًا بعدم الانشغال بشيء آخر.
لقد استغرق هذا التحول عقودًا من الزمن، وقادته تقنيات تبناها الشباب على نحو غير متكافئ مقارنة بالفئات الأخرى. ولعل هذا ما ساهم في التعتيم على مدى عمق هذا التغيير.
في عام 2023، أفادت المؤسسة الوطنية للفنون بأن نسبة البالغين الذين قرأوا كتابًا واحدًا على الأقل خلال العام انخفضت، على مدى العقد السابق، من 55٪ إلى 48٪. هذا تراجع لافت، لكنه يبدو متواضعًا إذا ما قورن بما حدث بين المراهقين: فقد وجد المركز القومي لإحصاءات التعليم، الذي تعرض مؤخرًا لتقليص كبير في صلاحياته على يد إدارة ترامب، أن نسبة الأطفال في سن الثالثة عشرة الذين يقرأون للمتعة «كل يوم تقريبًا» قد انخفضت خلال الفترة نفسها من 27٪ إلى 14٪ فقط.
وكما هو متوقّع، بدأ أساتذة الجامعات يعبّرون بقلق متزايد عن طلابهم الذين أضعفت الهواتف الذكية قدرتهم على التركيز، وجعلت من القراءة الممتدة أو المعقّدة تحديًا حقيقيًا.
لكن بعض الأدلة على هذا الانحدار في مهارات القراءة هشة أو موضع شك. فعلى سبيل المثال، هناك دراسة نوقشت على نطاق واسع، تقيس قدرة الطلاب على تحليل افتتاحية رواية «البيت الكئيب» للكاتب تشارلز ديكنز، وهي فقرة موغلة في الغموض والتشابك الدلالي، كأننا نطلب من شخص أن يثبت براعته في السباحة بعبور خمسين ياردة من العسل اللزج، لا من الماء، وهو أمر غير منطقي ولا يعكس المهارة الحقيقية.
وعلى الجانب الآخر، ثمة من يرى أن هذا التراجع فى الإقبال على الكتب قد لا يكون أمرًا مقلقًا بحد ذاته، خاصة إذا تأملنا طبيعة ما يفضّله الكثير منّا للقراءة. فهل يعد ذلك انهيارًا للحضارة إذا ما شاهدنا مسلسل «أشياء غريبة» على نتفليكس بدلاً من قراءة كتب الكاتب ستيفن كينغ؟ أو إذا ما استمعنا إلى برامج بودكاست تنمية ذاتية بدلاً من شراء كتب المساعدة الذاتية؟
في مستوى أعمق، قد يكون تراجع القراءة التقليدية مرتبطًا بازدهار المعرفة والمحتوى في العصر الرقمي. فهل نرغب فعلاً في العودة إلى زمن كانت فيه الخيارات أقل، وكان هناك القليل فقط مما يمكن قراءته أو مشاهدته أو الاستماع إليه أو تعلمه؟
ومع ذلك، وبصرف النظر عمّا نراه في هذه التحولات، فإنها تبدو ماضية في التسارع. فخلال العقود الماضية، رأى العديد من الباحثين في تراجع القراءة مؤشرًا على انغلاق «قوس غوتنبرغ»، وهو تعبير يشير إلى تلك المرحلة التاريخية التي بدأت باختراع المطبعة، وشهدت هيمنة منظومة منظمة من النصوص المطبوعة والمنشورة على وسائل الاتصال والمعرفة.
أما الإنترنت، وفقًا لهذا الطرح، فقد أغلق هذا القوس وأعادنا إلى نمط تواصلي أكثر حرية وتشتتًا، وأقرب إلى الحديث الشفهي والمباشر. فبدلًا من قراءة الكتب، أصبح بإمكاننا الجدال في خانة التعليقات. وذهب بعض المنظّرين إلى أننا نعود إلى نوع من الثقافة الشفوية، ما أطلق عليه المؤرخ والتر أونغ مصطلح «الثقافة الشفوية الثانوية»، وهي ثقافة يتم فيها تعزيز الكلام والتفاعل الشفهي من خلال النص المكتوب الذي يواكبه. وقد أضفى صعود البودكاست (البرامج الصوتية)، والنشرات البريدية الإلكترونية، والصور المضحكة أو الميمات، مزيدًا من المصداقية على هذا الرأي.
فبرنامج «تجربة جو روغن» مثلًا يمكن فهمه على أنه أشبه بجلسة حول نار مخيم، يتبادل فيها الرجال المعرفة شفهيًا، تمامًا كما كان يفعل الإغريق القدماء. لكن عند النظر إلى الوراء، قد تبدو فرضية «عودة الثقافة الشفوية» ساذجة أو عتيقة بعض الشيء. يمكن القول إنها تبلورت إلى حد كبير خلال ما يُعرف «بقوس زوكربيرغ»، وهو توصيف لفترة زمنية بدأت باختراع موقع فيسبوك، وهيمنت فيها وسائل التواصل الاجتماعي على مشهد الاتصال البشري.
في تلك الفترة، لم يتخيل أحد داخل هذا القوس مقدار التهديد الذي ستشكّله تقنيات الذكاء الاصطناعي قريبًا على فكرة «الإنترنت الحواري» أو التفاعلي. لقد دخلنا بالفعل عالمًا جديدًا، حيث لم يعد من المؤكد أن الأشخاص الذين نتفاعل معهم على الإنترنت هم أشخاص حقيقيون؛ فبعضهم ليسوا سوى شخصيات مولّدة باستخدام الذكاء الاصطناعي، تم تدريبها على كميات هائلة لا يمكن تصوّرها من النصوص. كأن الكتب قد بُعثت إلى الحياة، وها هي تنتقم، لا بتكرار ذاتها، بل بابتكار شيء جديد، عبارة عن زواج غريب بين النص والفكر والمحادثة، يعيد تعريف قيمة الكلمة المكتوبة ووظيفتها في عصرنا الحالي. في شهر يناير، أعلن الاقتصادي والمدوّن تايلر كاوِن أنه بدأ «يكتب من أجل الذكاء الاصطناعي». لقد أصبح من المعقول، كما أشار، أن نفترض أن كل ما ينشره لم يعد يُقرأ من قبل البشر فقط، بل تطالعه أيضًا أنظمة الذكاء الاصطناعي، وهو ما دفعه إلى اعتبار هذا النوع الثاني من القرّاء ذا أهمية لا تقل عن الأول.
كتب كاوِن قائلًا: «باستثناءات نادرة، حتى أكثر الكتّاب والمفكرين شهرة في حياتهم يُنسَون لاحقًا». لكن الذكاء الاصطناعي قد لا ينسى؛ بل إننا، إن زوّدناه بقدرٍ كافٍ من النصوص التي كتبناها، قد يتمكن من استخراج «نموذج لطريقة تفكيرنا»، يمكن للقراء المستقبليين التفاعل معه. وأضاف: «لن يضطر أحفادك، أو حتى معجبوك في المستقبل، إلى تقليب صفحات كتب قديمة متربة لمحاولة فهم أفكارك». وبالتزامن مع هذا التصوّر، بدأ كاوِن ينشر في مدونته تدوينات تتناول فترات غير لافتة من حياته، مثل سنوات الطفولة بين الرابعة والسابعة من عمره.
ورغم أن القراء البشر قد لا يهتمون كثيرًا بمثل هذه التفاصيل، فإن هذه التدوينات يمكن أن تتيح «لأنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة في المستقبل القريب أن تكتب سيرة ذاتية ممتازة للكاتب تايلر كاوِن». يستطيع كاوِن التفكير بهذه الطريقة لأن نماذج اللغة الكبيرة مثل «شات جي. بي. تي» من شركة «أوبِّن آي»، و«كلاود» من شركة «أنثروبّك»، هي، في أحد أوجهها، آلات قراءة.
صحيح أن القول بأن هذه النماذج «تقرأ» ليس دقيقًا تمامًا بالمعنى البشرى للكلمة، فالنموذج اللغوي لا يشعر، ولا يمكن أن يضطرب قلبه من الحماسة أو الترقب؛ لأنه لا يملك مشاعر. لكن من المؤكد أيضًا أن الذكاء الاصطناعي يتفوّق على البشر في جوانب معينة من عملية القراءة، بل يتجاوزهم إلى مستويات فوق بشرية.
فخلال مرحلة تدريبه، يقوم النموذج اللغوي بـ«قراءة» وفهم كمية لا تُتصور من النصوص المكتوبة. ثم لاحقًا، يصبح قادرًا على تذكّر جوهر تلك النصوص على الفور، حتى وإن لم يكن ذلك دائمًا بدقة كاملة، وعلى عقد المقارنات، واستخلاص الرؤى، وربط المعاني ببعضها وتطبيق كل ذلك على نصوص جديدة لم يسبق له الاطلاع عليها، بسرعة مذهلة.
تشبه هذه الأنظمة خريجي جامعات قرأوا بالفعل كل ما طُلب منهم وأكثر، أثناء دراستهم، وهم على استعداد لقراءة المزيد، ما دمت تعطيهم موادّ جديدة. لقد عرفت في حياتي بعض الأشخاص الذين يبدو أنهم قد قرأوا كل شيء، والتعلُّم على أيديهم كان من التجارب التي غيّرت مجرى حياتي. ومع ذلك، لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محلّ هؤلاء، لأنه في جوهره محايد ومبني على التوافق العام؛ لن تنظر إلى «شات جي. بي. تي» بوصفه قدوة في «الحياة الفكرية»، ولن تُصاب بالإثارة أمام نظريات تطبيق «جيمني» من إنشاء شركة «جوجل» أو بصيرته الفريدة، لأنه ببساطة لا يملك شخصية خاصة به. لكن قوة الذكاء الاصطناعي كقارئ تكمن تحديدًا في هذه «اللامحلية» أو الحياد. في برنامج البودكاست «كيف أكتب؟» للكاتب ديفيد بيريل، يشرح الكاتب تايلر كاوِن كيف أنه حين يقرأ، يطرح أسئلته على روبوت محادثة «تشات بوت» كلما واجه شيئًا لم يفهمه؛ والذكاء الاصطناعي لا يملّ أبدًا من تلك الأسئلة، بل يجيب عليها بالاستعانة بمعارف واسعة النطاق، لا يمكن لأي إنسان الوصول إليها بنفس السرعة. وهكذا يتحول أي نص إلى ما يشبه منصة انطلاق أو خطة دراسية مخصصة. لكن الذكاء الاصطناعي قادر أيضًا على التبسيط. فإذا وجدت نفسك عاجزًا عن فهم افتتاحية كتاب «البيت الكئيب» للكاتب تشارلز ديكنز، يمكنك أن تطلب من الذكاء الاصطناعي إعادة صياغتها بلغة أبسط وأكثر حداثة.
مثلًا، كتب ديكنز بأسلوبه الأصلي: «الغاز يتصاعد عبر الضباب في أماكن متفرقة من الشوارع، تمامًا كما قد تبدو الشمس، من الحقول الإسفنجية، لمن يراها من الفلاحين أو صبيان الحراثة». أما نموذج الذكاء الاصطناعي «كلاود» فقد صاغ المعنى هكذا بشكل مباشر: «مصابيح الغاز تتوهج بخفوت عبر الضباب في مواقع مختلفة من الشوارع، على نحو يشبه الطريقة التي قد تظهر بها الشمس للمزارعين أثناء عملهم في الحقول المغطاة بالضباب». بهذه الطريقة، قد يجد القارئ الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي نفسه يطمس الخط الفاصل بين المصادر الأصلية والثانوية، لا سيما عندما يقرأ مواد يعتقد أن من الممكن فيها الفصل بين الشكل والمضمون، وهذا ليس أمرًا جديدًا تمامًا؛ فكثير من الناس معتادون على هذا النمط من التلقّي. فمنذ عام 2012، بدأت شركة «بلينكليست»، ومقرها برلين، وتقدّم نفسها بوصفها «مستقبل القراءة»، بعرض ملخصات مدتها 15 دقيقة للكتب غير الروائية الرائجة، في صيغتي النص والصوت. في هذه «اللمحة» القصيرة، يمكن للقارئ أن يلمّ سريعًا بمضامين كتب مثل «السكينة هي السر» للكاتب رايان هوليداي، والذي يستعرض فيه أفكار الفلسفة الرواقية والبوذية، أو خذ مثال (كتب ريدرز دايجست المختصرة)، وهي سلسلة مجلدات أنيقة تصدر على شكل اشتراكات موسمية، كانت تضم أربع أو خمس روايات مختصرة إلى نحو نصف حجمها الأصلي. وقد كانت تحظى بشعبية كبيرة؛ ففي عام 1987، ذكرت صحيفة (ذا نيويورك تايمز) أن نحو مليون ونصف مليون قارئ يشترون عشرة ملايين نسخة سنويًا. وفي بيت أسرتي حين كنت صغيرًا، كانت هناك رفوف كاملة من هذه المجلدات، وكنت أقرأ منها دون تفكير، منها روايات مختصرة للكاتب ديك فرانسيس والكاتبة نورا روبرتس. ولا تزال هذه السلسلة متاحة حتى اليوم، تحت عنوان (أفضل الروايات من ريدرز دايجست). والحق أنه لو كنت أكتب بحثًا أكاديميًا عن رواية «قبضة السوط» الصادرة عام 1979 للكاتب ديك فرانسيس، لعُدّ اعتمادي على النسخة المختصرة خطأ فادحًا. لكن إن كان كل ما أريده هو القصة، والأجواء، والتشويق، فربما يكون شعوري بأنني «قرأت» الكتاب شعورًا مبررًا. والأرجح أنني لن أسعى لقراءة النسخة الكاملة غير المختصرة. في نظام القراءة المعاصر، لا تزال النصوص المختصرة أو المعدَّلة استثناءً لا القاعدة. لكن في العقد المقبل، قد تنقلب هذه المعادلة رأسًا على عقب؛ فقد نبدأ بانتظام بقراءة النسخ البديلة أو المختصرة، ثم نلجأ لاحقًا إلى النصوص الأصلية، تمامًا كما نقوم اليوم بتحميل مقتطفات تجريبية من الكتب على أجهزة كيندل، قبل اتخاذ قرار بشرائها أو مواصلة قراءتها. وبما أن الذكاء الاصطناعي قادر على توليد اختصارات وملخصات وإصدارات مكثفة من النصوص عند الطلب، فقد نجد أنفسنا نتنقّل بين هذه النسخ بحسب الحاجة أو الظرف، مثلما قد نستمع اليوم إلى بودكاست بسرعة «2x» أو نتوقف عن مشاهدة مسلسل ممل لنبحث على ويكيبيديا عن نهايته. كما أن الأغاني الشعبية كثيرًا ما تصدر بنسخ متعددة، مثل (النسخة النظيفة) ونسخ الريمكس الإلكترونية. وبصفتي كاتبًا، قد لا أحب أن أرى نصي يُعاد تشكيله أو يُعرض بزوايا مختلفة بهذه الطريقة. لكنّ قوة هذا «التكسّر» أو الانكسار النصي لن تكون بيدي، بل ستكون بيد القراء وذكائهم الاصطناعي. فمعًا، سينهار الحاجز بين القراءة والتحرير. من المنطقي أن نقول إن بعض أنواع الكتابة لا ينبغي تلخيصها، أو ربما لا يمكن تلخيصها على الإطلاق. فإذا قرأت ملخصًا لـ«روايات نابوليتان» للكاتبة إيلينا فيرانتي، واكتفيت بقول: «لِيلا فعلت كذا، ولينو فعلت كذا»، فأنت في الحقيقة تُفقد نفسك التجربة الأصلية بكامل زخمها. ربما يمكن اختزال كتاب «جودل، إيشير، باخ: جديلة ذهبية أبدية» للكاتب دوجلاس هوفشتاتر إلى مفاهيمه الأساسية، بل وربما يستطيع روبوت محادثة شرح تلك المفاهيم بشكل أوضح من المؤلف نفسه، لكن الطول والصعوبة جزء جوهري من مغزى الكتاب ذاته. ومن المؤكد أيضًا أن القرّاء سيواصلون تقديرهم لأصوات البشر الأصيلة. فأنا مثلًا أقرأ حاليًا كتاب «الطفولة، الصبا، الشباب» للكاتب الروسي تولستوي. الكتاب مليء بعبارات ألمانية، وتفاصيل تاريخية غريبة، وخصوصيات ثقافية روسية لا أفهمها تمامًا. ومع ذلك، فإنني أتجنب قراءة الحواشي؛ لأنني أريد أن أبقى في تيار السرد، تحت تأثير سحر تولستوي. نعم، قد تتناقص نسبة من يحبون القراءة التقليدية القديمة، لكنها لن تتلاشى تمامًا، ولن تقترب حتى من الزوال. ومع ذلك، لا أستطيع إلا أن أتساءل: هل ستثبت القيمة الجوهرية للنص المكتوب أنها أقل رسوخًا مما نعتقد؟
كان هناك وقت يصعب فيه تخيّل أن تُؤلف أغنية كاملة حول مقاطع مقتبسة من أغانٍ أخرى. أما اليوم، فقد أصبح هذا الأمر عاديًا، وننظر إلى مرونة إنتاج الموسيقى على أنها ميزة، لا خلل. فهل من المستبعد إذًا أن تنتقل (ثقافة الريمكس) إلى عالم القراءة؟ أي من النسخ العديدة من أغنية فرقة (نيو أٌوردَرْ) الشهيرة «الاثنين الكئيب» هي النسخة الأصلية حقًا؟ وهل يهم الأمر طالما أنك تحب الأغنية؟ وبالمثل، إن قرأتُ أنا نسختي من رواية «صديقتي المذهلة»، الجزء الأول من رباعية نابوليتان للكاتبة الإيطالية إيلينا فيرانتي، وقرأتَ أنت نسختك الخاصة، أفلا نُعدّ معًا من محبّي أعمال فيرانتي؟ الكاتب هنري جيمس أعاد تحرير العديد من رواياته عندما أُعيد نشرها لاحقًا في حياته. والمغنية الأمريكية تايلور سويفت قدّمت لنا «نسخ تايل» من أغانيها، إصدارات أعادت فيها أداء أغنياتها القديمة لتحافظ على حقوق ملكيتها. نحن نهتم بنيّة الكاتب، وهويته، وملكيته الفكرية. ندرك أن العمل الكتابي هو ترتيب محدد لكلمات معيّنة، وأن هذا الترتيب يفقد من خصوصيته، وأحيانًا من قيمته، كلما أعيد تشكيله أو تغييره. لكن ربما نجد أيضًا متعة في أن نصبح محررين مساعدين يعملون مع الذكاء الاصطناعي لما نقرأه. بلغتُ ذروة علاقتي بالقراءة قبل أن أدخل عالم الصحافة، حين كنت أتابع دراسة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي. في منتصف برنامج الدراسات العليا تقريبًا، اضطررت للخضوع لاختبار شامل، وهو امتحان مطوّل على مدى ساعات، يشبه الاستجواب، يديره ثلاثة من الأساتذة. وقد استند الامتحان إلى قائمة قراءة وُزِّعت قبل عام، شملت معظم المراحل الأساسية في تاريخ الأدب الإنجليزي. بدأت بأقدم الأعمال، مثل ملحمة «بيوولف» — وهي قصيدة بطولية قديمة كُتبت باللغة الأنجلو-ساكسونية، تصور بطولات محارب في مواجهة مخلوقات أسطورية — وانتهت بأعمال حديثة مثل رواية «محبوبة» للكاتبة توني موريسون، التي تتناول بعمق تأثير العبودية على الإنسان وذاكرته. كما ضمت القائمة أعمالًا مفصلية مثل رواية «يوليسيس» للكاتب جيمس جويس، وهي رواية حداثية تُعرف بأسلوبها المعقد وتجريبها اللغوي، إلى جانب مختارات من قصائد الشاعر ويليام بتلر ييتس، الذي جمع في شعره بين الأسطورة والتأملات الروحية والسياسية. كنت أقرأ ليلًا ونهارًا؛ ولأتمكن من الاستمرار دون أن تُجهد عيناي، اشتريت مصباحًا خاصًّا وعدسة مكبّرة مُثبّتة على حامل. وبعد عامين تقريبًا، خضعت لاختبار ثانٍ، هو اختبار «مجال التخصص»، يركّز على فرع معيّن من الأدب، وكان عليّ هذه المرة أن أُعدّ بنفسي قائمة القراءة. وقد كانت هذه القائمة، هي الأخرى، تمتد على مدار عام كامل من القراءة، واحتوت نحو عشرين رواية، بالإضافة إلى كمية لا حصر لها من الدراسات النقدية الأدبية. وبلغ بي الحال أن بدأت أقرأ واقفًا، لتخفيف الضغط عن ظهري. القراءة، حين يمارسها الإنسان، تظل دومًا مقيدة بحدود. لقد كانت تجربة مدهشة أن أكتشف مقدار ما يمكنني قراءته، وقد وضعتني الدراسة من أجل تلك الامتحانات على طريق أولئك الذين يُقال عنهم إنهم «قرأوا كل شيء». ومع ذلك، وبينما كنت أشق طريقي في قراءة جزء كبير من الأعمال الأدبية الكلاسيكية المشهورة، لم أستطع تجاهل الحقيقة الواضحة: أنني لم أكن أقرأ سوى جزء صغير من هذا العالم الهائل. فمكتبة جامعتي كانت واسعة إلى حد السخرية، تتكوّن من عدة طوابق تحت الأرض، وفي أعماق الرفوف كانت الأنوار تومض كاشفة عن أرفف كاملة من الكتب، شككت في أن أحدًا قرأها مؤخرًا، أو قرأها على الإطلاق. واليوم، حين أنظر إلى الوراء، يظهر نوع آخر من الحدود: الذاكرة. ربما قرأتُ كتاب «الملكة الجنية» للكاتب إدموند سبنسر، لكن هل أتذكّر منه سوى خطوطه العريضة؟ لهذا السبب، في هذه المرحلة من حياتي، أقضي وقتًا في إعادة قراءة الكتب العظيمة التي قرأتها سابقًا، مثل «الطفولة، الصبا، الشباب» للكاتب تولستوي، كما أبحث أيضًا عن كتب جديدة. فهل يشكل الذكاء الاصطناعي تحديًا جوهريًا لهذه الحدود؟ من الممكن بالفعل أن نتصوّر أن آلات القراءة الذكية ستساعدنا على اكتشاف القيمة في نصوص كانت ستظل مهملة، وقد تُشبه هذه العملية شيئًا من استخراج الوقود الأحفوري، إذ النصوص القديمة أو المتخصصة أو الصعبة يمكن أن تُستخلص منها أفكار مركّزة تُغذي تفكيرًا جديدًا. وقد نرى أيضًا سيناريوهات يمكن أن تسهم فيها النماذج الذكية في توسيع وتعميق ذاكرتنا القرائية. فلو كنت قد درست لامتحاناتي بمرافقة نظام ذكي، ثم واصلت مناقشة قراءاتي معه عامًا بعد عام، ربما كنت سأبني شيئًا يشبه دفتر ملاحظات حيًّا، أو يوميات فكرية. لكن ما حدث هو أنني وُفِّقت إلى رفيق حواري من لحم ودم، وهي زوجتي، التي كانت أيضًا زميلتي في برنامج الدراسات العليا. لقد تشكّلت علاقتنا بفعل ما قرأناه معًا، وحوله. أما الذكاء الاصطناعي، في جوهره، فهو بلا دافع ذاتي؛ إنه يقرأ، لكنه ليس قارئًا. اهتمامه في أي لحظة يعتمد على نوع السؤال المطروح عليه. ومن ثمّ، فإن فائدته كأداة للقراءة تظل رهينة بوجود ثقافة إنسانية للقراءة، وهي ثقافة لا يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يجسّدها، ولا أن يحافظ عليها من تلقاء نفسه. ماذا سيحلُّ بثقافة القراءة حين تصبح القراءة نفسها عملية آلية؟ تخيّل أننا نتجه نحو مستقبل يُنظر فيه إلى النصوص على أنها مرنة، وقابلة للاستبدال، ولإعادة التشكيل، وللتجريد. في ذلك المستقبل، سيقرأ الناس غالبًا بطلب تلخيص النصوص أو إعادة صياغتها لتكون أكثر مباشرة، أو تحويلها إلى أشكال أخرى، مثل بودكاست أو تقرير متعدد الوسائط. سيصبح من السهل إدراك فكرة النص العامة، ومن السهل الشعور بأنك «عرفته»، ولهذا فإن اتخاذ قرار بقراءة النص كاملًا كما هو، سيُصبح فعلًا مقصودًا يتطلب جهدًا واختيارًا واعيًا. سيرد بعض الكتّاب على هذا التحوّل بمحاولة جذب القارئ الإنسان عبر قوة أسلوبهم وحضورهم الشخصي، بينما سيفترض آخرون ببساطة أنهم يكتبون «لأجل الذكاء الاصطناعي». وربما تظهر أساليب كتابية جديدة تهدف إلى طرد القارئ الآلي، وخلق مساحات خاصة للبشر فقط. وسيصير أولئك الذين يقرؤون «النسخ الأصلية» للنصوص قِلّة نادرة، لهم رؤى لا يمتلكها غيرهم، ويعيشون تجارب يتخلّى عنها الآخرون. لكنّ العصر الذي كانت فيه صفة «مثقف» أو «واسع الاطلاع» تعني أنك قرأت كثيرًا من الكتب، قد يكون قد شارف على الانتهاء. سيصبح من الصعب التمييز بين القارئ العميق والقارئ السطحي؛ بل وربما، إذا ما أثبتت القراءة بمساعدة الذكاء الاصطناعي فائدتها، لن يعود هذان التوصيفان مهمّين أصلًا. وقد يُعامَل النص، في هذا السياق الجديد، باعتباره وسيطًا انتقاليًا، لا غاية في ذاته؛ مجرد محطة مؤقتة للأفكار، لا خاتمتها. ما نراه اليوم من نص مكتوب بوصفه ذروة جهد، وحدة مكتملة، أو نقطة نهاية للفكر، قد يُنظر إليه مستقبلًا، بحلوه ومرّه، كـ«عتبة» فقط نحو شيء آخر.
