عمان الثقافي

تأملات سردية

25 يناير 2023
25 يناير 2023

«العصفور»

كنت عائدا من رحلة صيد، قاطعا درب الحديقة المشجّر، والكلب يعدو أمامي. فجأة أبطأ من خطوه وبدأ يجسّ الطريق، فكأنه استشعر طريدة أمامه. نظرت في طرقة الدرب فرأيت عصفورا صغيرا، الصفرةُ تحيط بمنقاره والزغب يعتلي رأسه. لقد سقط من العش (إذ كانت الريح تهز بتولات الدرب بقوة) وجثم بلا حراك، ناشرا جناحيه النابتين بلا حول ولا قوة.

كان كلبي يقترب منه ببطء عندما فرّ فجأة من شجرة قريبة، عصفور عجوز، أسود الصدر، وكحجرٍ سقط أمام خطم الكلب مباشرة. استنفر ونفش ريشه، وبصرصرة يائسة، مُدرّة للشفقة، قفز مرتين باتجاه الفك المشرع أضراسه.

لقد انبرى لإنقاذ فرخه والذود عنه بنفسه... مع ذلك فقد كان جسمه الصغير كله يرتجف من الرعب، وصوته يخشوشن ويتوحش؛ لقد تجمد في مكانه، مفتديًا صغيرَهُ بنفسه.

أيُّ وحش عملاق كان الكلبُ إزاءه! ومع ذلك لم يسعه أن يبقى في غصنه العالي المأمون... قوةٌ أعتى منه طوحت به من هناك.

توقف كلبي السلوقي وتراجع وقد أدرك، كما يبدو، هذه القوة، فأسرعتُ بدوري لأدعو الكلب المُحرج بعيدا وانسحبت بوقار.

نعم، بوقار، ولا يضحكنك ذلك. لقد وقَرَ في قلبي ذلك العصفور الصغير الشجاع، وثورة الحُبِ التي يتحلى بها.

ودار في خلدي أن الحب أقوى من الموت ومن رهبة الموت، وبه فقط، بالحب وحده تبقى الحياة وتدوم.

«الغبي»

كان هناك شخص غبي، ظل ردحا من الزمن يرفل بالسعادة، شيئا فشيئا حتى طرق سمعه ما يُشاع عن حماقته، وذيوع صيته بين الناس.

تذمر الغبي وراح يرهق تفكيره في السبيل لإيقاف تلك الشائعة الرذيلة. أخيرا هبطت على عقله المظلم فكرةٌ أضاءته، فما كان منه إلا أن عجّل ووضعها قيد التنفيذ.

في الشارع التقى بأحد معارفه الذي راح يكيل المدح برسام شهير. «حلّفتك بالله! - صاح الغبي به - لقد أحيل هذا الفنان إلى الأرشيف منذ زمن... ألا تعرف هذا؟ لم أكن أتوقعها منك... إنك شخص متخلف».

خاف الصاحب وفي الحال أقرّ بكلام الغبي. ثاني معارفه أخبره قائلا: «أي كتاب جميل قرأتُه اليوم! - فصاح الغبي: حلفتك بالله! أولا تخجل من نفسك؟ لا نفع لهذا الكتاب في شيء؛ الجميع قد نفض يده منه منذ زمن. ألا تعرف هذا؟ إنك شخص متخلف». فخاف هذا الصاحب وأقرّ بكلام الغبي. «يا له من شخص رائع صديقي ن ن! – قال ثالثٌ من المعارف للغبي. – «إنه كائن نبيل حقا، فصاح به الغبي: حلفتك بالله! ن ن وغد سيء السمعة وقد نهب كل عائلته. كيف لا تعرف ذلك؟ إنك شخص متخلف». وقد خاف الصاحب الثالث أيضا وأقرّ بكلام الغبي قبل أن يدير له ظهره.

وهكذا، وبصرف النظر عن الشخص أو الشيء الذي يُثنى عليه أمام الغبي، فقد كان توبيخه للجميع واحدا.

أحيانا كان يضيف إلى لائمتهِ بالقول: «أما زلت تقتدي بالآخرين؟».

وبدأ الحديث يدور عن الغبي وسط معارفه: «مخيف! صعب! يا له من داهية!» وأردف آخرون: «وأية لغة يمتلك! حقا إنه موهوب».

انتهى الأمر أن اقترح أحد الناشرين على الغبي ترؤس القسم النقدي في صحيفته.

وهكذا راح الغبي ينتقد كل شيء وكل شخص من دون تبديل في أسلوبه أو استهجانه.

الآن، وبعد أن كان يرفع عقيرته ضدّ القدوة من بني البشر، أصبح هو نفسه قدوة، وكان الناشئة يبجلونه ويهابونه. ولكن، ما بوسع هؤلاء الشبان الفقراء فعله؟ فحتى وإن كان الأمر لا يستوجب التبجيل، إلا أن الحقيقة (والحال كذلك) هي أن عدم التبجيل يضعك في زمرة المتخلفين.

فعش غبيا وسط الجبناء.

«وردة»

إنه آخر يوم في أغسطس وقد دخل الخريف.

كانت الشمس تغرب عندما اجتاحت سهلنا الواسع أمطارٌ غزيرة مباغتة لم يصحبها برق أو رعد.

وكانت حديقة المنزل مشتعلة تنفث دخانا وقد غمرها حريق الغروب وطوفان المطر.

جلسَتْ هي في الصالة، إزاء الطاولة، مطرقة تفكّر وتنظر إلى الحديقة عبر الباب الموارب.

كنت أعرف ما يعتمل في روحها إذّاك؛ أعرف أنها في هذه اللحظة، وبعد صراع قصير، وإن كان مريرا، تعلن استسلامها وبأنها لم تعد قادرة على التحمّل أكثر.

نهضتْ فجأة وهرولت إلى الحديقة واختفت.

مرّت ساعة وانقضت أخرى ولم تعد. عندئذ وقفتُ وغادرت المنزل ثم اتخذت الدرب المشجّر الذي لا شك بأنه نفس الدرب الذي مضت فيه.

لقد أعتمَت والليل أرخى سدوله. مع ذلك، ومن خلال الضباب المنسكب، تراءى على رملة الدرب الرطبة، جسمٌ مستدير متوّرد بالحمرة. انحنيتُ... كانت وردة طرية قد تفتحت قليلا. لقد رأيت هذه الوردة على صدرها قبل ساعتين من الآن.

بعناية التقطت الزهرة التي سقطت في الوحل ورجعت إلى الصالة حيث وضعتها على الطاولة، أمام كرسيّها.

ها هي تعود أخيرا، وبخطوات خفيفة، تقطع الصالة بطولها ثم تجلس إزاء الطاولة.

شحب وجهها وانتعش في آنٍ معًا؛ عيناها اللتان تألقتا بتساؤل مرح، تراقصتا بسرعة وقد ارتخى طرفاهما وبدتا صغيرتين.

شاهدتْ الوردة، أمسكتها ونظرت إلى بتلاتها المكسرة الملطّخة، ثم نظرت إليّ ولكن عينيها تحجرتا فجأة وقد أشرقتا بالدموع. «علام تبكين؟» – سألتها. «على هذه الوردة، انظر ماذا حدث لها». عندها ارتأيت أن أنطق بالحكمة، وقد قلتها بطريقة معبّرة: «دموعك ستغسل هذه الأوساخ». «الدموع لا تغسل، الدموع تحرق»، - قالت ذلك والتفتت إلى المدفأة حيث ألقت بالزهرة في اللهب المُحتضر.

«والنار تحرق بصورة أفضل من الدموع» – صاحت بجسارة، وعيناها الجميلتان اللتان لا تزالان تتألقان بالدموع، تضحكان بجرأة وسعادة.

وقد أدركت أنها، هي أيضا، كانت تحترق.

«عتبة»

أرى بناءً ضخمًا.

في الحائط الأمامي بابٌ ضيقٌ مفتوحٌ على مصراعيه؛ خلف الباب ضبابٌ قاتم. أمام العتبة العالية تقف فتاة... فتاةٌ روسية. كان الضباب الذي لا يخترقه نظر يبّث الصقيع، وبصحبة التيار الذي تقشعر له الأبدان، خرج من عمق المبنى، صوتٌ أجوف رتيب.

«هيه أنتِ، يا من ترغبين باجتياز هذه العتبة، أتعلمين ما الذي ينتظرك؟» فتجيبه الفتاة: «أعلم».

«البرد، الجوع، الكراهية، السخرية، الازدراء، الاستياء، السجن، المرض والموت ذاته». «أعلم». «العزلة المطلقة، الوحدة». «أعلم وأنا مستعدة. سوف أتحمل كل الآلام وكل الضربات». «ليس من الأعداء فقط بل من الأقارب أيضا والأصدقاء». «نعم، ومنهم أيضا». «حسنا، هل أنت مستعدة للتضحية؟». «نعم». «ستضّحين بلا اسم. سوف تموتين ولن يتمكن أحد حتى من تكريم ذكراك». «لا أحتاج لامتنان أو شفقة. لست بحاجة إلى اسم».

«وهل أنت مستعدة لارتكاب جريمة؟» حنت الفتاة رأسها... «ولارتكاب جريمة مستعدة». لم يستأنف الصوت أسئلته على الفور ولكنه قال أخيرا: «أتعلمين أنك قد تفقدين الثقة بما تؤمنين به الآن، وبأنك مخدوعة، وعبثا تدمرين شبابك؟». «وهذا أيضا أعرفه، ومع ذلك أودّ الخروج». «اخرجي!».

قفزت الفتاة فوق العتبة فنزل ستارٌ ثقيل خلفها. «غبية» – صرخ أحدهم من الخلف، فأتاه الردّ من مكان ما: «قديسة».

«التوأم»

شهِدتُ خِلافا بين توأم. كانا متشابهين في كل شيء كقطرتي ماء: ملامح الوجه، تعابيره، لون الشعر، الطول، تركيبة الجسم، وكانا يكرهان بعضهما البعض بشكل لا يمكن إصلاحه.

كانا يستشيطان غضبا بنفس المقدار، ووجهاهما المتشابهان بشكل غريب يتواجهان ويتميزان غيظا بالقدر نفسه؛ العيون المتشابهة كانت تقدح وتتوعد بنفس الطريقة؛ نفس الكلمات البذيئة، ينطق بها صوت متشابه، وتنقذف من شفاه ملتوية متطابقة.

لم أحتمل ذلك فسحبت أحدهما من يده وقدته إلى المرآة: «من الأفضل أن تتشاجر هنا، مع هذه المرآة... لن يُحدث هذا فرقا بالنسبة لك، أما بالنسبة لي فسيكون الأمر أقل فظاعة».

«حساء الملفوف»

فقدت الأرملة ابنها الوحيد ذا العشرين عاما وكان أول عامل في القرية.

السيدة، صاحبةُ أرضِ القرية، وبعد أن علمت بمصيبة المرأة، ذهبت لزيارتها في يوم الدفن نفسه.

وجدتها في دارها. كانت تقف أمام الطاولة في وسط الكوخ، وببطء، تحرّك يدها اليمنى بحركة منتظمة (اليسرى كانت متدلية كسوطٍ) وتغرف من قاع إناء مُدّخن، حساءَ ملفوفٍ متقشف، مرتشفة ملعقة بعد أخرى.

كان وجه المرأة قد اعتكر وأعتم؛ عيناها قد احمّرتا وانتفختا... مع ذلك فقد احتفظت برصانتها وانتصابها وكأنها واقفة في كنيسة.

«رباه! – دار في خلد السيدة. – كيف بمقدورها أن تأكل في مثل هذه اللحظة؟... ما أغلظ مشاعر هؤلاء الناس!»

وتذكرت السيدة أنها، بعد وفاة ابنتها ذات التسعة أشهر قبل بضع سنوات، وبسبب حزنها، تراجعت عن استئجار منزل ريفي جميل بالقرب من بطرسبورغ وعاشت الصيف بأكمله في المدينة.

واستمرت المرأة في ارتشاف الحساء. في الأخير لم تطق السيدة صبرا وتفوهت: «تاتيانا! اتقي الله! ألم تحبي ابنك أبدا؟ إني لمندهشة، كيف لم تفقدي شهيتك؟ كيف بوسعك تناول هذا الحساء؟

«لقد مات بنيّ فاسيا، - تكلمت المرأة بهدوء ومن جديد انسكبت دموعها السخينة على خدها الغائر. وهذا يعني أن ساعتي قد حانت كذلك. لقد قُلع رأسي وأنا حيّة. كما أن الحساء سيفسد لو لم يؤكل وقد وضعت فيه الملح».

هزّت السيدة كتفيها تعجبا وخرجت... إن الملح لا يكلّفها شيئا.

إيفان تورغينيف روائي ومسرحي روسي

أحمد م الرحبي كاتب ومترجم عماني