عمان الثقافي

تأسيس أغنية وموسيقى عربيّة بديلة

24 أغسطس 2022
المثلث الرحباني: فيروز وعاصي ومنصور
24 أغسطس 2022

في ربيع العام 1985 وفي مكتبهما الأنيق قي شارع بدارو في بيروت، التقيت بالأخوين رحباني: عاصي ومنصور. كانا في انتظاري بحماسة غير معهودة، تجلت في طريقة استقبالهما لي وبالترحيب الودي والعميق الذي أبدياه تجاهي. أما دواعي ذلك فلم تكن لأجلي أنا شخصيا بالطبع، وإنما لأجل والدي الراحل سليم فرحات، زميل منصور الرحباني في سلك الشرطة اللبنانية في الخمسينيات من القرن الماضي، وصديق الشقيقين رحباني معا في ما بعد، من موقع أنه كان شاعرا موهوبا بالعاميّة اللبنانية، وشكّل لهما مرجعيّة اعتبارية يُستفاد منها في هذا المضمار، إذ كانا يطلعانه مسبقا على القصائد التي يؤلفانها ويأخذان بنصيحته في تعديلها وضبطها وحتى بالإضافة عليها أحيانا، بحسب ما أفادني بذلك منصور نفسه، ووافقه عاصي على ما أفاد قائلا: «نعم، والدك كان له فضل كبير علينا، وكان يمكن لفضله هذا أن يستمر لولا أن الأجل داهمه قبل الأوان. والدك رحمه الله كان شاعرا صميميا، وقد استفدنا منه كثيرا، وازددنا إعجابا به كونه ظلّ يؤثر حياة الانطواء والعزلة على حياة الأضواء والاستعراض.. كان كأنه لم يكن، وبخياره هو تماما. وموقفه الصامت والمتواري هذا، شكّل لنا دليلا إضافيا على عمق شاعريته ومزاجه الحر فيها».

شكرت الأخوين رحباني على هذه الشهادة الحيّة والمجللة بالوفاء لوالدي، وعلى الأخصّ لجهة الاعتراف به كمعلّم «سري» لهما، وهو اعتراف جريء للغاية وينمّ عن شجاعة استثنائية يتحليان بها، خصوصا بعدما بلغا ما بلغاه من شأوٍ إبداعي متجاوز وشهرة ذهبيّة طبقت الآفاق، وإن دلّ هذا الأمر على شيء فعلى أنّ الرحابنة هم أهل فضل ومروءة، والفضل «لا يدركه إلا ذووه» كما يقول المثل العربي الشهير.

طبعا كان هذا أول لقاء شخصي لي بالأخوين رحباني، وقد أردته أن يكون لقاء ثقافيا ومعرفيا أيضا، أقف خلاله، وبالحوار المباشر، على ظاهرة فنية رياديّة عربية قلّ نظيرها، خصوصا وأنّ فيروز كانت واسطة العقد فيها، والتي لولاها لما كانت هذه الظاهرة موجودة أصلا. نعم، لقد شكّل الأخوان رحباني مع فيروز مثلثا فنيا لا يُضاهى، قاده صوت «سفيرتنا إلى النجوم» بتألق عزّ نظيره في دنيا الغناء والموسيقى العربية. وأتذكر يومها أنني سألتهما عن لحظة فيروز الأولى فيهما: متى كانت؟ وكيف نمت وتطورت حتى وصلت إلى الهالة الكبرى التي هي عليه اليوم؟. وتولّى عاصي الرحباني زوجها مبتدأ الكلام قائلا إنّ أول لقاء جمعه بفيروز كان سنة 1949 وفي مكتب الموسيقار حليم الرومي رئيس الدائرة الموسيقية في الإذاعة اللبنانية، وقام هذا الأخير بتقديم فيروز إلى الملحن وعازف الكمان الشاب وقتئذٍ عاصي الرحباني «الجدير بأن يلحّن لكِ ويرعى بدقة طاقات صوتِكِ وتدرّجات هذا الصوت المعجز» على حد تعبير الرومي نفسه والذي تابع يقول «ستكونين، ليس إلى جانب ملحن كبير فقط، وإنما إلى جانب إنسان راق ومهذب للغاية أيضا، وسيكون هناك بالتأكيد تعاون فني ناجح بينكما». وبالفعل لحّن عاصي الرحباني فيما بعد قصيدة «حبّذا يا غروب» التي كتب كلماتها الشاعر قبلان مكرزل وغنتها فيروز بأداء أكثر من مميز، واعتبرت الأغنية عنوانا مجيدا وأثيرا لهذا الفتح الموسيقي والغنائي اللبناني العربي الذي كرّس نفسه لاحقا ككيان إبداعي لا يضاهى.

بعد ذلك تولّى منصور الرحباني، الذي كان شاهدا على اللقاء، الكلام قائلا: «نعم، كان حدس الموسيقار حليم الرومي في محلّه منذ ذلك اليوم التاريخي. أما لماذا؟ فلأنه كان عارفا سلفا بأهمية صوت فيروز الملهم النادر، وكذلك بإمكانات عاصي اللحنية المتفوقة والمهيّئة لإحداث ثورة فنيّة جديدة في عالم الموسيقى والأغنية العربية.

وماذا عن حقيقة دور الأخوين فليفل (محمد وأحمد) هنا، بخاصة وأنهما كانا في صدارة من اكتشفوا فيروز واختبروا خامة صوتها الفريد والاستثنائي؟ سألت منصور الرحباني فأجاب:

صحيح ما تقوله، فمحمد وأحمد فليفل هما سبب اكتشاف فيروز وتقديمها للبنان والعرب والعالم. وأقدما على ضمّها بسرعة إلى كورسهما الموسيقي الإنشادي، ودرّباها وعلّماها، خصوصا محمد، التجويد القرآني، فبرعت فيه وهي لم تتخط بعد سن الخامسة عشرة. والتجويد القرآني، كما تعلم، هو علم صوتي عربي قائم بذاته، يختصّ بمخارج الحروف وصفاتها وتباعدها وتقاربها، وعلوّها وانخفاضها وإدغام بعضها ببعض، وقلة قليلة هي التي تبرع بهذا العلم الذي يتخذ أصحابه من النص القرآني ميدانا مباشرا للتجارب الصوتية وامتحانها، نطقا وأداء. وقد نجحت فيروز في امتحان التجويد القرآني بحسب مدرّسها محمد فليفل الذي كان من كبار علماء التجويد قي لبنان والمشرق العربي؛ وكان ممن يصرّون على مساواة علم التجويد بعلم الصرف وعلم النحو.

وهل كانت فيروز يا ترى متضلعة من اللغة العربية في سن مبكرة؟

من فوره أجابني منصور: نعم، وكان ذلك بفضل معلمتها سلمى قربان مديرة «مدرسة الإناث الأولى» (حوض الولاية كما يعرفها البيروتيون)، وهذه المعلّمة الفريدة والنابهة جدا، هي أصلا من تولت الاتصال بمحمد فليفل واستدعته إلى المدرسة ليعاين صوت التلميذة نهاد حداد (فيروز لاحقا) ابنة الـ15 سنة ويختارها كواحدة من أهم المنشدات والمنشدين في فرقته. ثم كان محمد فليفل نفسه وراء إدخالها فيما بعد إلى المعهد الموسيقي الوطني (الكونسرفاتوار) في بيروت، حيث درست أصول الغناء لمدة أربع سنوات. وأكمل جميله معها فيما بعد باصطحابها إلى مدير الإذاعة اللبنانية فايز مكارم، الذي أحالها بدوره على لجنة امتحان الأصوات والتي كانت تضم وقتها كبار رجالات الموسيقى العربية والغناء في لبنان: حليم الرومي، توفيق الباشا، نقولا المتني وخالد أبو النصر. وكان إجماع على أهمية فيروز كخامة صوتية استثنائية ينتظرها مستقبل واعد وكبير.

وفهمت من منصور الرحباني كذلك أن محمد فليفل ظلّ يتعهد فيروز وصوتها بالرعاية والحب والاهتمام حتى قبيل مرحلة زواجها من شقيقه عاصي الرحياني في العام 1955. ومن وجوه هذه الرعاية الملحّة وقتها إبعادها مثلا عن الأطعمة التي تحتوي على فلفل وبهارات حادة، وكذلك منعها من شرب المياه المثلجة والليمون الحامض وكل ما يتسبّب بخدش حنجرتها وحبالها الصوتية.

الانطلاقة المغايرة

مع زواج عاصي من فيروز تعمّقت الشراكة الفنية الرحبانية أكثر، وصارت المسؤولية تجاه إيجاد فن غنائي وموسيقي عربي بديل، الشغل الشاغل للثالوث الموسيقي والغنائي اللبناني، ولاسيما أن المدرسة المصرية في الغناء والموسيقى كانت حاضرة بقوة وقتها، وهي المنافس الوحيد للرحابنة مع وجود أسماء فنيّة رياديّة عملاقة من طراز أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وليلى مراد. وقبل هؤلاء كان الطرب المصري مهيمنا بقوة على ذاكرة الكثير من المصريين واللبنانيين والعرب على امتداد بلدانهم وخصوصا مع رموز فن «التخت الشرقي» من أمثال الشيخ سلامة حجازي ومحمد عثمان وعبده الحامولي وسيد درويش.. ولقد استفاد الرحابنة من هذا الجو الفني السابق واندمجوا في عوالمه الصوتية واللحنية التي كانت لا تزال سائدة، وكانت لهم استعارات أغان وألحان من سيد درويش أعادوا توزيعها أدتها فيروز ببراعة مشهودة: «الحلوة دي قامت تعجن في البدرية»، «زوروني كل سنة مرة»، «طلعت يا محلا نورها».. وفي ما بعد صار جمهور الرحابنة من المصريين يتوسع شيئا فشيئا في أرض الكنانة ويلوّن الحياة الموسيقية والغنائية المصرية على طريقته، خصوصا بعد التعاون المباشر مع محمد عبد الوهاب الذي لحّن خصيصا لفيروز أغنية من كلمات الأخوين رحباني وتوزيعهما هي «سهار بعد سهار». كما أعاد الأخوان توزيع «يا جارة الوادي» و«خايف أقول اللي فلبي» بصوت فيروز.

ومع استخدامهم أدوات «التخت الشرقي» مثل الناي والقانون والعود والدف، بدأ الرحابنة يدخّلون أيضا الآلات الغربية في موسيقاهم وألحانهم وعلى رأسها الكمنجا والبيانو والتشيللو والأوكارديون والكونترباص، علاوة على العديد من آلات النفخ في الأوركسترا الغربية، وكان لهذا التوظيف وقعه المغاير والمفاجئ على الأغنية اللبنانية والعربية، والتي مال فيها الرحابنة إلى اختزال المادة الكلامية، والمدة الزمنيّة للأداء، فضلا عن اختيار أرقى الكلمات الشعرية أو النثرية التي ستغنى.

كما أن دخول الرحابنة على «السكتش» الإذاعي وتطويره إلى مسرح غنائي استعراضي راقص، أوجد لدى جمهور المشاهدين والمستمعين كذلك، أنسا فنيا من نوع آخر، تفاعل معه (أي الجمهور) بذائقة أخرى وحماسة عفوية عالية، وكل ذلك نتيجة لمزجهم الألحان الشرقية بالغربية على نحو غير مسبوق جماليا وإبداعيا. ومما زاد من أهمية التجريب الفني الرحباني المذكور أنه جاء متماسكا مع البنية الدرامية للعمل المسرحي المقدم وتوالي مشاهد العرض على الخشبة. ويذهب بعض نقاد الموسيقى الثقات في لبنان إلى أن أعمال الرحابنة المسرحية بدءا من «بياع الخواتم» - 1964 و«أيام فخر الدين»- 1966 و«جبال الصوان» - 1969 اتسمت بالربط الفني الدقيق بين الموسيقى واللعبة المسرحية ككل. ومع هذه الأعمال المذكورة وما تلاها من أعمال، تراجع حضور المشاهد الفولكلورية البحتة، والحوارات الهزلية لمصلحة السياق الدرامي الذي كان غالبا ما يقوم مضمونه على فكرة الدفاع عن الأرض ومقاومة المحتل وإدانة ظلم السلطات الديكتاتورية.. إلخ.

كما استحدث الرحابنة مع فيروز موسيقى راقصة خاصة بهم، أتت كنتيجة لانفتاحهم، بل واندغامها الواعي في بنيات موسيقية عالمية أخرى، ومنها «التانجو» و«الجاز» و«البوليرو» و«السلو»، وصاروا يركّبون عليها كلاما بالفصحى العربية أو بالدارجة اللبنانية، ويعيدون توزيعه على طريقتهم الموسيقية ذات الهوية السحرية الخاصة بهم. وفي هذا الإطار نستذكر تعاونهم الناجح مع موسيقيين غربيين كبار في طليعتهم الإيطالي إدواردو بيانكو الملقب بملك التانجو، والذي قدم ألحانا خاصة بفيروز غنّت أشعارها العربية تحت إشرافه هو وخياراته هو. ونقل عنه قوله إن صوت فيروز هو نفسه موسيقى ولغة شعرية في آن معا، وأهمية هذا الصوت أنه صار مقبولا ومستساغا من شعوب الأرض قاطبة.

وإذا كان إدواردو بيانكو عاشقا لأغاني فيروز بشكل عام، إلا أنه وعلى مستوى آخر، كان يطرب أكثر للأغاني الفيروزية التي لحنها الفنان الشعبي فيلمون وهبي (1918 - 1985) وذلك بسبب الارتجال الموسيقي الذي تتسم به والذي ترتاح له الأذن وينسجم له الطبع اللحظي.. مثل أغنيات: «يا كرم العلالي» و«جايبلي سلام» و«يا مرسال المراسيل».. علاوة على مجموعة من الأغاني التي كتب كلماتها الشاعر جوزيف حرب، ومنها «ورقو الأصفر» و«طلع لي البكي» و«أسامينا».. وقد قام الموسيقي بيانكو بنقل بعضها، وبأسلوبه التركيبي الفذ إلى الريبرتوار الموسيقي الإيطالي.

من جهة أخرى كانت فيروز ترتاح للألحان التي يقدمها لها فيلمون وهبي، وكانت لا تناقشه فيها البتة؛ لأنها كانت ترى فيها ألحانا تتدفق من القلب والمزاج المباشر؛ وقد أطلقت عليه، تبعا لذلك، لقب «شيخ الملحنين اللبنانيين». أما عاصي ومنصور فكانا بدورهما يرتاحان لشخص فيلمون وهبي العفوي الظريف وموهبته اللحنية الفورية؛ وقد اعتمدا على جرأته لجهة «كسر عصا المايسترو» الجديّ أحيانا.

هكذا أحدث الثالوث الرحباني: فيروز، عاصي ومنصور ثورة فنية عربية شاملة على القوالب والأساليب والمقامات الموسيقية في عالم اللحن والتلحين من جهة، والأدب الغنائي بوجهيه العامي والفصيح من جهة ثانية، مقدما بديله الإبداعي على مستوى الكلمة والنغم في مشروع قيام أغنية عربية جديدة ترتبط بالناس وحاجاتهم الذوقية والثقافية والاجتماعية وحتى السياسية، ودائما على قاعدة منظومة قيم ذات جذور أخلاقية وفلسفية وإنسانية عامة.

ماذا عن فيروز اليوم، خصوصا بعد رحيل عاصي ومنصور منذ سنوات طويلة نسبيا.. وأساسا كانت العلاقة بزوجها عاصي قد تفكّكت وهو لا يزال حيا؟ وماذا عن لبنان الذي أحبته وغنّته وقد أصابه ما أصابه اليوم من أفول وضمور وشلل وانطفاء؟

عن السؤال الأول تفضّل فيروز ألا تجيب. تعتصم بالصمت وتعلق على الفضوليين الملحاحين الذين لا يتوانون عن نبش الدفاتر الشخصية القديمة مع زوجها عاصي رحمه الله: «أنا من أصدقاء الصمت. أبو الهول صاحبي من زمان وأنا من أقربائه. أحبه لأنه صامت».

أما بصدد السؤال الثاني فتقول: «كل شيء تغيّر، وهذا يخيفني. غنينا لبنانا أشبه بالحلم، إلا أن هذا الحلم لم يبق منه الشيء الكثير. ثمة لغة ماتت واندفنت، وعلينا أن نبتكر في لبنان لغة جديدة، وهذا ليس بالأمر السهل، لكنني متفائلة وسأظل متفائلة».

أحمد فرحات كاتب وصحفي لبناني