No Image
عمان الثقافي

بدأوا بكتابة الخواطر وخطابات الغرام: حينما اكتشفوا أنهم أدباء!

29 يونيو 2022
29 يونيو 2022

في حياة كل أديب لحظة جميلة عرف فيها أنه سيصبح كاتبًا، بالتحديد حين انفتح له ذلك الباب المسحور وقاده إلى عوالم مدهشة وغريبة وأسطورية.

بعضهم قد يبدأ شاعرًا في فترة المراهقة، يكتب عن الحب والوطن والطبيعة. وبعضهم الآخر قد يكتشف مقدرته على السرد في حصة الإنشاء، ويشجعه تصفيق المعلمين والزملاء على كتابة المزيد. وهناك من تسحره حكايات الجدات فيقرر أن يصبح كاتبًا لينقل دهشته بتلك الحكايات إلى الناس.

البدايات تكون مرتبكة وبسيطة وربما عادية غالبًا، لكنها تظل أجمل لحظات يمكن أن يتذكرها كاتب يخطو خطوته الأولى في عالم الأدب.

الكاتب العراقي منعم الفقير كان في الصف الخامس الابتدائي حين اكتشفتْ معلمة اللغة العربية مقدرته المدهشة على كتابة موضوعات الإنشاء. طلبتْ منه أن يقرأ على زملائه ما كتبه، قبل أن تصرح بالدرجة التي منحتها له. يحكي: «اعتقدتُ لحظتها أنها تعاقبني وتعرّضني للسخرية. بعد الانتهاء من القراءة صفقتْ لي، فصفق زملائي خلفها. عبرتْ عن إعجابها الشديد، وأعدّتْ ما كتبتُه أفضل ما كُتب في الفصل الدراسي. قالت: استمر ولا تتوقف عن الكتابة»، ويضيف: «نحن في العراق لا حرية لنا في اختيار موضوعات الإنشاء، فالإنشاء مقرر حكومي، ورؤوس موضوعاته تُقرر علينا، ومنها وصف رحلة مدرسية مثلًا، أو حالة فقير في العيد، أو جو الربيع، لكنني خرجت على ذلك فكتبتُ عن الأم».

الفقير بدأ في كتابة القصص القصيرة، وبعض الخواطر، والتقى بعد سنوات بأستاذ لغة عربية، يدعى عبد الواحد الجابري، ترك الكتابة كما قال بسبب الزواج والعمل التدريسي ومشاق الحياة، رغم محاولاته المتعثرة في النشر. كان يُطلق على نفسه «التاجر المفلس»، استنادًا إلى المثل العراقي «المفلس يدوَّر دفاتر عتيقة» (أي التاجر المفلس يفتش في سجلاته القديمة عن ديون لعلها لم تُسدد بعد)، وينسب إفلاسه إلى انسحابه من الكتابة. يقول: «كنا نلتقي في مقهى بغداد الحديث في ساحة الميدان، كان كمن يعثر في لقاء نادر كهذا على فخر مبعثر، يقرأ ما أعرضه عليه بشغف، يصحح، ينصح، يرشد، يوصي ويبكي أحياناً ثم يمضي. جل ما كان يريد أن يخلص إليه، ألا أنتهي إلى ما انتهى هو إليه: زواج، وعمل وقطيعة مع الكتابة».

يتابع: «أريد أن أبقى كما أنا كي أكتب. الكتابة موقف ووجود في آن. سأبقى كاتبا، في حياتي هذه، وفي أية حياة من الحيوات، ولو عاد بي الزمن إلى السنة صفر من عمري وما تليها من سنوات سأحبو حيث الكتابة، وسأحفظ عثراتي الأولى، وأرفع دهشتي وأسطر احتمالاتي. كيف سأكون، غير عابئ. لا ميل يميلني عن ميلي. ميلي استقامة. والاستقامة كتابتي حيث أنا وحيث أرى».

وردة قُطفت من جذورها

في ذاكرة الكاتبة السورية فدوى العبود حادثتان واضحتان لهما علاقة باكتشاف الكتابة: «الأولى حين طلبت مني صديقة الطفولة، وكنا في الصف الرابع الابتدائي، كتابة رسالة لحب حياتها كما وصفته وهو في مثل عمرنا. كتبتُ سطرا لا أنساه: «أنا وأنتَ وردة قُطفت من جذورها». أردتُ البحث عن رابطة متينة بين العاشقيْن، ولحفظ حقوقي الأدبية وضعتُ اسمي وتوقيعي أسفل الورقة، عوقبتْ صديقتي، وكذلك نلت أنا جزائي، فقد صعدتُ سطح الدار وسحبتُ السلم الخشبي بينما والدتي تقف في الأسفل تتلو عليَّ العقوبات التي تحضّرها لي حين أنزل».

في الصف الأول الإعدادي لفتتْ فدوى نظر أساتذتها وصارت كاتبة الصف، زملاؤها يطلبون منها كتابة مواضيعهم. تقول: «الطريف أني كنت أوقفهم في طابور في الباحة وأُملي على كل منهم موضوعه، وفي الحصة تقول المعلمة: أشم رائحة فدوى في هذه المواضيع، فننكر»، وتضيف: «دُعيت مرة لعيد ميلاد صديقة، لم أكن أملك ثمن هدية فكتبت قصة قرأتها للمحتفلات اللواتي نسين أمر الكاتو. تناولتها صديقتي من يدي وقالت هناك مسابقة مهرجان «قادش» سنوصلها إليها، وحين فزت.. شعرت أن القدر يدلني على خطواتي»

ولو عاد بكِ الزمن إلى الوراء هل ستتخذين نفس القرار بأن تصبحي كاتبة؟ تجيب فدوى: «ليته كان قرارًا، في الصف الأول الابتدائي كانت صديقاتي ترتدين ثياباً مزركشة، وتلعبن لعبة عرائس، تجلس إحداهن في وسط الدائرة والأخريات تدرن حولها وتغنين، كنت أجلس فوق صخرة بالقرب أراقب أوراق شجرة التفاح تتساقط وآلمني هذا. اقتربت مني إحداهن فأخبرتها بما أشعر به فقالت: لا عليك، في الربيع ستخضرّ من جديد. تعالي لنلعب. انظر كم كان الأمر سهلًا بالنسبة لها. القرار الذي اتخذته كان عكسيّاً. توقفتُ لعشر سنوات عن الكتابة، شعرتُ أن مأساة الحياة أكبر من أن تعبِّر عنها اللغة. لا أحد يتخذ قرارًا بالركض أمام قطار سيدهسه. كانت القراءة بالنسبة لي غريزة. قد يختفي الذئب الذي يتبعك لكنك تتابع الركض. الكتابة كالخطيئة لا بد أن يرتكبها كل إنسان، البعض يفعلها لمرة واحدة والبعض الآخر لا يكف عن ارتكابها حتى النهاية».

خلطة من التجريب

الشاعر المصري جمال القصاص بدأ الكتابة بـ«خلطة من التجريب». كتب قصصاً قصيرة على غرار أسلوب المنفلوطي، كتب أزجالا وأشعارا غنائية بالعامية، رسم مجموعة من المناظر والبورتريهات لبعض أصدقائه، وأهالي قريته، حتى الآن واحدة من هذه البورتريهات معلقة في أحد دكاكين البقالة العريقة بها. وحين يعرج على الدكان مصادفة في أثناء زيارته للقرية، يحس بأن طفولته، بإيقاعها القروي، كانت بمثابة متحف، مفتوح على الطبيعة الرحبة وخطى البشر بكدهم وعرقهم في الحقل وليالي السمر المقمرة.

كان ذلك في سن تراوحت ما بين الثالثة عشرة، والخامسة عشرة من طفولته. ثم فجأة غادر كل هذا وانصرف إلى الشعر، محتفظًا بخيط شفيف للرسم، نما واتسع بقوة الشعر، ولا يزال هذا الخيط يرافق قصيدته، مسكوناً بمراهقة البدايات ودهشة المعرفة. يقول: «الآن، حين أعيد النظر في تلك الخلطة اكتشف أنني كنت أبحث عن نفسي، أو على الأقل عن فن يقربني منها. وجدت هذا في الشعر، أحسست بأن دفقة من النور بدأت تطفو على سطح جسدي وروحي، وتغمر وجودي كله في مائها الصافي العميق. لم يكتشفني أو يرعى موهبتي أحد، فقط كانت هناك عبارات محفزة وخاطفة، ردًا على قصائدي الغضة التي كنت أرسلها للنشر بين الحين والآخر إلى الصحف والمجلات. في تلك السنوات كان سندي ودليلي الوحيد لاكتشاف العالم من حولي هو حبي للقراءة والمعرفة، وشغفي بالأفكار والرؤى، خاصة الصعبة القصية المسكونة بالوضوح الغامض. من هنا نشأ حبي للفلسفة، والتي درستها فيما بعد بالجامعة. وسيظل من أجمل الأشياء في عتبة تلك البدايات هو المقدرة على بناء جدار من الثقة بنفسك، أنت اللبنة الأولى والأخيرة فيه. وأعتقد أن كل فنان ومبدع يجب أن يتسلح بهذا، فدون ثقته بنفسه، سيهتز ذاتيا، ويتململ ويضطرب، وهذا بدوره ينعكس على إبداعه».

وأنهى كلامه قائلا: «اخترت أن أكون شاعرا، لأن هذا اختيار وجود وحياة، وفي الوقت نفسه، رهان على كل شيء، ولو رجعت إلى تلك اللحظة سأختار أن أكون شاعرا أولا وأخيرا، لأن الشعر ليس فقط أحد الجذور المهمة في فضاء الفلسفة والفن والمعرفة، وإنما هو فن الحياة، بلا وسائط أو عقد وفواصل زمنية سميكة».

الهروب من المراهقة

الشاعرة التونسية وئام غداس لم يكن في نيتها وهي تتخذ من الكتابة مهربا منذ مراهقتها المبكرة أن ذلك قد يعني احترافها الكتابة ذات يوم. تقول: «لم تكن الكتابة خياري على عكس ما قد يظنه البعض بديهياً، في الحقيقة لو كان لديَّ الخيار حقا لما كتبت أبداً، ولاخترتُ شيئا من ضمن أشياء أخرى كنت استمتع بالقيام بها أكثر. كانت طفولتي سيئة ومراهقتي أسوأ، لكنهما كانتا محاطتين بالكتب. عشت في محيط يقرأ، محيط ضيق وواسع يؤمن بضرورة الكتاب. تفتحت عيناي على مكتبات البيوت، والأدراج المليئة بالكتب وتفتحت حواسي ومثلها وعيي بمحاذاة الكتب بأنواعها، هكذا لم يكن ثمة بدّ من القراءة والغرق فيها، لأنني إضافة إلى هذا كله لم يكن يُسمح لي بفعل شيء آخر سواها، والقراءة الكثيرة تؤدي غالباً إلى محاولة الكتابة. لكنني كنت أكتب لأخفف عن نفسي. ثم عندما بدأ أساتذة اللغة العربية في مرحلتي الثانوية ينتبهون إلى أنني أمتلك شيئا لا يمتلكه زملائي، بدأت أفهم، إنه الوقت الذي بدأت أسمع فيه كلمة: سيكون لك شأن في الكتابة!»، وتضيف: «الجميع شجعني على الاستمرار، إنها الموهبة الأقلّ تكلفة حسب ظني، ماديا وأخلاقيا أيضا. لم يكن ممكنا مثلاً أن أعبّر عن أني أفضّل الرقص على الكتابة مثلا. من الطبيعيّ أن يشجعوني».

معجزات الأنبياء

وهي بعدُ طفلةٌ في الرابعة من عمرها كان والد الكاتبة المصرية فاطمة ناعوت يُجلسها على ركبتيه ويحكي لها قصص الأنبياء. وما يحكيه لها من معجزات يثيرُ شغفها بدخول هذا العالم الذي لا يحدُّه قانونُ المنطق الفيزيقي الذي تعرفه. فكيف لإنسان أن يمكث في بطن حوت، وكيف لطفلٍ أن يتكلم في المهد، وكيف لفَرس أن يطير ويجول بين السماوات السبع، وكيف لرضيع ينجو في سلّة ملقاة في نهر؟! كانت تقول لأبيها إنها تريد أن تفعل كل هذا، فنبَّهها إلى أن المعجزات للرسل، ولكن بوسعنا أن نفعل كل هذا بتوسُّل الخيال. تعلق: «أظنُّ أن رصاصة الأدب قد ضربتني في تلك الآونة ولم يكن ينقصني إلا الأداة. وكانت الأداة هي اللغة. مجموعة من المصادفات أوقعتني في هوى اللغة لأبحر في لُجّتها العالية وأغرق في أعماق أسرارها. منها أن كان لي جدٌّ واسع الثقافة ضربه العمى إثرَ حادث، وكنتُ أقرأ له وأنا في صباي المبكر. قرأنا معًا الأغاني للأصفهاني والشوقيات وطه حسين والعقاد والشكسبيريات وغيرها، وكنتُ في طفولتي قد حفظتُ أجزاءَ من القرآن الكريم ما مكّنني من القبض على لجام اللغة العربية، في سنٍّ مبكرة. وعلّمني جدي فن المعارضة الشعرية حين لمح شغفي بالشعر، وشجعني على الكتابة وكذلك فعل معلمو مدرستي. كنتُ وما زلتُ أشعرُ أن الحرف هو أعظم ما ابتكره الإنسانُ فوق الأرض. ورغم دخولي كلية الهندسة إلا أنني لم أتوقف عن ممارسة تلك (المعجزة): الكتابة، لأنها دليلي الوحيد على الوجود والحياة. يقول جدي المصري القديم في وصاياه: كن كاتبًا تمشِ في الطرقاتِ حُرا».

حكاية طويلة

الكاتب السعودي فهد العتيق كان قارئاً محترفا منذ شبابه. قرأ ودرس بجدية «الغريب» لأبير كامو، و«الحكم» لكافكا، و«شرق النخيل» لبهاء طاهر و«مالك الحزين» لإبراهيم أصلان. وبعد أشهر من هذه القراءات الجادة كتب في شهر واحد أهم قصصه وهي قصص «شروق البيت» و«حصة رسم» و«عمود التراب» و«إذعان صغير». قرأ هذه القصص الجديدة على الأصدقاء في نادي القصة بالرياض ولم يتوقع ردود أفعالهم الجميلة المعجبة بهذه القصص. قال عنها صديقه الروائي عبد العزيز الصقعبي في تلك الليلة إنها قصص عميقة جداً. نشر فهد هذه القصص في صحيفة «اليوم» السعودية ومجلات: «إبداع» المصرية و«الكرمل» الفلسطينية و«لوتس» الآسيوية الإفريقية التي تنشر النصوص باللغات الثلاث، العربية والإنجليزية والفرنسية. يقول العتيق: «صارت هذه القصص من أعمدة قصص كتابي «إذعان صغير» الذي أعجب الكاتب المصري الراحل إبراهيم أصلان حين أرسلت المخطوطة له، فأصدره عن مختارات «فصول» بالقاهرة عام 1992. وقد كُتب عنه بعد صدوره عدد من الدراسات النقدية المهمة كان من بينها مراجعة نقدية ملفتة ومبدعة وعميقة للشاعر والناقد الراحل وليد منير. أظن أنه من هنا شعرت بسعادة أن كتابتي أعجبت خبراء في الكتابة وكأني كسبت رهاناً ما. ومثل ردود الأفعال النقدية الجادة والمهمة والخبيرة هذه هي التي تشجعني على الاستمرار. وتجعلني أشعر أن النص الأدبي هو حياتي الحقيقية. لكن للأسف حتى الآن لم أشعر ولم أكتشف، والله، أني كاتب بشكل جاد. أشعر أني لا أزال قارئا محترفاً يهوى أو يحاول الكتابة. لهذا يقال دائماً إني مقل أو قليل الكتابة. كنت من البداية أشعر أن تفاصيل حياتنا اليومية هي أدب غير مكتوب. هذه التفاصيل والحوارات التي أعيشها يوميا في البيت والحارة والشارع والعمل هي قصص وروايات ومسرحيات لم تُكتب بعد. وربما لهذا أكتب».

النجمة البعيدة اللامعة

كلما سأل أحدٌ الكاتبة السورية زينة حموي: «ما مهنتك؟» أو «ماذا تعملين؟» تهربُ من الإجابة الواضحة وتتحاشى صيغة اسم الفاعل وتجيبه: «أكتب»!

حتى هذه اللحظة، تخشى أن تصف نفسها بـ«الكاتبة». تجدُ أن الفعل «أكتب» يؤدّي معنى المحاولة والتجريب والسعي وهذا ما تريده لنفسها. في حين تبدو لها كلمة «كاتب» أو «كاتبة» لفظ فيه يقينٌ يؤذي الكتابة. وإن كان عدد من يدّعون أنهم كتّاب قد زاد كثيراً، خاصة مع انفجار وسائل التواصل الحديثة وتمييع المفاهيم، إلا أن الكتّاب الحقيقيين نادرون. والكتابة، بالنسبة لهؤلاء، هي تلك النجمة البعيدة اللامعة، يعلمون ألّا سبيل إلى إمساكها قطّ، لكنهم لا يتعبون من رفع أيديهم نحوها ومحاولات قطفها.

تقول: «مع ما رافقه من مواجهات أُسَريّة وتحدّيات اجتماعية، كان قراري بالدخول إلى كلّية الآداب، قسم الصحافة والإعلام أوّلَ قربانٍ أقدّمه للكتابة قائلةً لها: لقد اخترتكِ، فاقبليني. عندها، كنتُ أعني أنني اخترتُ الكتابة كمهنة. أمّا كعلاقة فلا أعتقد أننا نختار الكتابة. فعلى الرغم من وجود شقّ عَمَلي في شؤون الكتابة يجعل منها مهنةً كبقيّة المِهَن لها سوق وعلاقات وحسابات ومتطلّبات، خاصّة عندما تقترن بالنشر، إلا أنّ الكتابة في الأصل نمط حياة وأسلوب عَيش، ولا أبالغ إذا قلت إنها طَبْع أو طبيعة. إنها طريقة خِلْقيّة في فهم الحياة والذات والآخر، تتكرّس عندما يعيها صاحبها في نفسه فيرعاها ويطلقها. من خلالها يتفاعل مع الوجود ويعبّر عن رؤيته له ودوره فيه. لا استراحة له منها ولا إجازات، حتى عندما لا يكون أمام ورقة أو شاشة فهو يؤلّف في ذهنه النصوص ويبحث عن الأفكار ويكتب الرسائل الوهمية ويشطب ويحذف ويصحح ويعيد.

لا يعني ذلك أنّ من اختار الكتابة كمصير أو مهنة لن يندم أو يفكّر بالتراجع، بالعكس. فالعالم المُعاصر ما يزال ينكر على الإنتاج الفكري والإبداعي قيمتَه وفعاليتَه وحقّه في مقابل مادّي لائق. وما يزال معظم الناس ينظرون إلى الكُتّاب والفنّانين كأشخاص زائدين عن الحاجة إذا ما قورن عملهم بالمِهَن والوظائف الأخرى. وهناك من يعتبرهم مجرّد حالِمين وسُذَّج لا مجال لأخذهم على محمل الجدّ والتقدير إلا بعد أن يفرغ العالم من مآسيه وقضاياه الكبرى. عدا عن مشقّات الكتابة نفسها، فهي مُرهِقة ومُتطَلِّبة بطبيعتها، لا ترضى بالمتوفِّر ولا تَسْهُل بالممارسة ولا يُؤتَمَنُ لها جانب. شديدة الحساسية للضعف والثغرات، سريعة الزعل ومدمنة على نوبات الخصام والهجران».

تضيف: «وإن كانت المُحبِطات أكثف حضوراً من المُشَجِّعات إلا أنها تتناوب على طول الطريق. فلا ضَيرَ أن ينتشي المرء بإطراءات القرّاء. وبالنسبة لي، كثيرا ما أستند إلى كلمات الثناء لأنهض بعد كبوة، خاصّة تلك الواردة من أشخاص لا أعرفهم مهما بدت علاقتهم محدودة بالكتابة والأدب. بالإضافة إلى الدعم الذي تمدّني به عائلتي الصغيرة وزوجي ومجموعة محدودة من الأصدقاء الذين يحيطون قلبي بعنايتهم لكي لا تنطفئ فيه الشعلة. أمّا جائزة الكتابة فهي الكتابة نفسها. أعتقد أن الكاتب الحقيقي كالنوّاس أو البندول، دائم التأرجح بين زاويتين شديدتي الخطورة، الأولى هي الإيمان بنفسه ككاتب عظيم، والثانية هي الشكّ في ذاته وكتابته حَدّ الرغبة في الاختفاء. والتذبذب بين هاتَين النقيضتَين، دون أن يبلغ أيّاً منهما تماماً، هو ما قد يحقق للكاتب استمراره ولكتابته إتقانها وجمالها».

مرحلة الحكي

في صبا الكاتب العراقي عائد خصباك كتب قصة، وأرسلها بالبريد إلى ملحق أدبي تابع لجريدة «الأنباء الجديدة»، يحرره عبد الرحمن الربيعي، وهو قاص معروف وروائي لامع، فنُشرتْ، وهكذا أضيف لاسمه صفة «كاتب». حينها داهمه شعور من الخوف والدهشة، لأن هذه الكلمة الكبيرة كان يقرأها قبل اسم سلامة موسى ومحمود تيمور وغيرهما، يعلق: «لا أدري لماذا لم أُطلع أحداً على فكرة أنني أكتب؟!».

كتابة خصباك للقصص جاءت بعد مرحلة حكي شفاهي سبقتها. يقول: «في صباي كنت أجمع أبناء الجيران والأقرباء، لأقص عليهم ما أقرأه في مجلة سمير. أجلس على كرسي فوق سطح الدار، وهم أمامي جالسون على الأرض، عيونهم مشدودة نحوي. كانت حكاياتي على حلقات. أدركت أني لو أسمعتهم الحكاية كما هي في المجلة، لانتهت في دقائق، وانفضوا من حولي، فماذا أفعل لتبقى أفواههم مفغورة وهم يستمعون إليَّ؟ أتدخل في مجرى الأحداث لأطيلها، أضيف لها أحداثاً جديدة، أتلاعب بالمصائر لو اقتضى ذلك، وأحياناً هذه الأحداث التي أضفتها، تكون هي الأصل، وما هو أصل يتلاشى ويذوب تدريجياً، لكن ذلك لم يدم، بعد أن دخل جهاز التلفزيون إلى بعض البيوت، فانفضُّوا من حولي».

هذه القدرة على الحكي والصياغات الجديدة للأحداث أوجدت حالة من الالتباس، مع المحيطين به من أسرة خصباك ومعارفه، عندما يشرح ما جرى له في المدرسة أو الطريق مثلاً، يسألونه: هل الحدث حقيقي، أم هو خيالك؟ لم يشجعه أحد على الكتابة، من أسرته، ولم يمنعه أحد أيضاً. يستدرك: «يمكن اعتبار الكاتب عبد الرحمن الربيعي الذي نشر قصصي بانتظام في ملحقه الأدبي هو من دفع برئيس تحرير مجلة «الكلمة»، وهي تعادل «جاليري 68» في مصر، أن يأتي بنفسه إلى كلية الآداب، ويطلب مني قصة لنشرها في المجلة. نشرها فعلاً، وكان اسمي بجانب أسماء لامعة مثل سعدي يوسف وسركون بولص وفؤاد التكرلي وعبد الوهاب البياتي ويوسف الصائغ ونزار قباني، وغيرهم، وتتالى نشر قصصي في تلك المجلة وسُمْعتُها كانت عظيمة، إلى أن اقترح عليَّ حميد المطبعي، أن أجمع قصصي لينشرها لي في كتاب، فكانت مجموعتي الأولى «الموقعة» من منشورات مجلة الكلمة».

حكايات شجرة البونسيانا

بدأ الروائي المصري جار النبي الحلو الكتابة وهو تلميذ في المدرسة الابتدائية. كان يجلس إلى جدته لأمه، يسمع منها الحكايات، أعجبته فأحضر كراسة وقلماً ودوَّنها، رأى فيها سحراً وعوالم خيالية. جعلته جدته يحلم بهذا العالم، حتى حدث وأن قرر إعادة كتابته بنفسه، مضيفاً إلى الحكايات وحاذفاً منها، ثم تطور الأمر حتى أصبح ما يكتبه عملاً يخصه. يقول: «كنت أحب شجرة بونسيانا في حديقتنا الصغيرة، أصبحت ظلاً لكتابتي. أجلس أسفلها لأكتب عن النهر والغرقى والعفاريت. كان يمكن أن أتوقف عن الكتابة لأي سبب لا أعرفه، ولكن القدر وضع في طريقي أستاذي وتاج رأسي عبدالفتاح الجمل، أحب قصصي، وخصني بنشرها في جريدة «المساء» وأنا شاب في الثالثة والعشرين من عمري. كان الجمل، وقبله جدتي، وكذلك رؤية اسمي في الجريدة، هو ما جعلني أعشق هذا الطريق الصعب، كما أنني لحسن الحظ نبتُ في شجرة واحدة مع أبناء مدينتي المحلة الكبرى، شجرة كبيرة تميزت بألوانها المتعددة وأزهرت أسماء مثل جابر عصفور، وسعيد الكفراوي، ومحمد المنسي قنديل، ومحمد صالح، ومحمد فريد أبوسعدة. الكتابة لم تكن قراراً، وإنما هى تكويني ونسيجي. أنا في الخامسة والسبعين من عمري، ولو عشت مائة عام أخرى فمن أجل كتابة قصة أو رواية جديدة لم أكتبها من قبل».

زهرة رمان

الشاعر اليمني صدام الزيدي اكتشف أنه سيصبح كاتباً، في اللحظة التي بدأ فيها الابتعاد عن أصدقاء وزملاء الدراسة. في بواكير العمر، حينما كان الناس يذهبون إلى حال سبيلهم، كان يذهب هو إلى ورقة بيضاء تتأمله ويتأملها، تربك محاولاته في أن يجعل منها ورقةً مشوّهة بشخبطاته. يقول: «شغفي، وصوت غامض في رأسي، هما من شجعاني. ثم، شجعتني زهرةُ رُمّان قضمتها وأنا أهرول من جبل إلى السهول المؤثثة بالعذابات البكر، سأسميها «السهول الزرقاء لشاعر» اتسعت مغامراته وما زال حائرًا، كيف أن «نجمة داود» وهبه الله إياها، في انبساط يده، وفي أثناء ذلك، شجعني اسمي الذي تسلل ذات فجر بعيد، إلى صفحة «بريد القراء»، في صحيفة رياضية كانت تصدر كل أسبوع من صنعاء، ثم لم يتوقف بعدها عن التسلل، خارجًا عن سيطرة أفكار هي في الوهلة الأولى تشبه نبعًا لا ماء فيه، غير أن كثيرا ممن تواصلت بهم للكتابة، وحتى الآن، يدفعونني، بمحبةٍ أنا مدين لها، لأن أشرب منه، وأسقي الحفاة العراة على امتداد الطريق إلى القيامة. هناك من شجعني فعلًا، ومنهم الأصدقاء: أنطوان شلحت، وحاتم الصكر، وأحمد الفلاحي، وعبد الفتاح بن حمودة، وآخرون».

لكل نص سببه

الروائي السوري سومر شحادة شعر في السنة الثالثة من دراسته الجامعية لهندسة الاتصالات بأنّه يعيش خيارا خاطئاً يعطّله عن القراءة الأدبية وعن الكتابة. يقول: «بطبيعة الحال، بعد مضي ثلاث سنوات في دراسة فرع خاطئ - بالنسبة إليَّ - لا أحد سوف يشجّعك على خيار آخر مثل دراسة العلوم الإنسانيّة. وقد حاولت أن أعوّض بالقراءة ما فاتني دراسته، والأهم، حاولت صون الحس الذاتي من التهدّم. ثمّ إنّ القراءة المتواصلة مع التجربة، هما أساس الكاتب، والأمور التي تُعطّل قرارك في أن تكون كاتباً هي التي تصنعك على نحوٍ ما. لأنّ في داخلك ما يقاومها طوال الوقت. أقصد شغفك في أن تكتب».

كتب للمرّة الأولى مدفوعاً بقصة حبّ. كما كتب رواية «حقول الذرة» مدفوعاً بمحاذاة بالموت، وكتب رواية «الهجران» مدفوعاً بشعور الأسى لسبب شخصي. يعلق: «إذا، أنا لا أكتب لسبب مطلق، وإنّما لكلّ نص سببه. إن كان لا بدّ من إجابة واضحة، فأنا أكتب كي أفهم مسألة ما مسّتني في داخلي. سواء الحبّ أو الموت أو الأسى. لكن ما كتبته كان فهما جزئيا، وهكذا أحاول الكتابة مجدّدا. لا أعتقد أنّ المسألة كانت قرارا. كأن يستيقظ أحدهم في صباح مشرق ويقرّر العمل كاتبا. أذكر مرّة عَقّب صديق على جملة قلتها وكان أحد الموجودين قد سألني إن كنت أكتب شيئا في هذه الأيام. فقلت له إنّني أقرأ. قال الصديق ما معناه أنّ الماء لا يزال يتجمّع في الغيم، وسوف تمطر ما إن تمتلأ الغيمة - التي هي رأسي- بالماء. في الحياة كثيرا ما تُصادف شعراء. لكن واقعيّاً فأنا أحاول أن أكون كاتباً في كلّ مشروع جديد، يمكن أن تقودك مجموعة عوامل لأن تكتب نصك الأول. لكن أن تستمر، أعتقد أنّ الأمر يحتاج إلى ما تدعوه قرارا، وهو ليس قرارا بالفعل، بقدرِ ما هو مواصلة العمل الذي تحبّه، وتعتقد إجادتك له. أعتقد أنّ الإجابة على السؤال باختيار الكتابة مجدّدا تنسف الطريقة التي أفكّر بها حيال الكتابة. لأنّني أمام كلّ مشروع جديد أواجه أسئلة قريبة من سؤالك: هل سأنجح هذه المرة؟ هل أصير كاتبا؟».

راحة بعد كل صفحة

الكاتب المصري عادل أسعد الميري بدأ الكتابة في سن مبكرة جدا، حوالي الخامسة عشرة، بكراسة المذكرات واليوميات، وهي كراسة من 60 ورقة كتب عليها رقم 1، دون أن يكون لديه إدراك أنه سيصل يوما ما إلى الرقم 155، وكانت تلك الكراسة تضم تعليقات في منتهى الجدّية على روايات وأفلام. يقول: «أتذكر رواية «جرمينال» للكاتب الفرنسي إميل زولا، وكانت قد صدرت في سلسلة روايات الهلال، وكذلك رواية «موسم الهجرة الى الشمال» للطيب صالح في نفس السلسلة وفي الفترة نفسه، ثم فيما يتعلّق بالأفلام كان هناك فيلم «رجل لكل العصور» عن الإنجليزي توماس مور صاحب يوتوبيا المدينة الفاضلة، وكنت قد شاهدته في دار سينما ريالتو بالإسكندرية خلال موسم صيف 1968، ووصف لسهرة مع فرقة الموسيقى العربية لعبد الحليم نويرة في مسرح محمد عبد الوهاب بالإسكندرية».

ويضيف: «كنت أشعر بالراحة بعد كل فقرة أو صفحة أضيفها إلى كرّاساتي تلك، كأن الكتابة هي فعل حتمي لا مفرّ منه، كأنك تحمل في ذهنك فكرة لا تستطيع أن ترتاح من إلحاحها عليك إلا بعد تدوينها. كان هذا هو ما شجّعني على الاستمرار. أما فكرة أول كتاب وهو «تأملات جوّال في المدن والأحوال» فقد جاءتني من تعليقاتي على أماكن مختلفة في حياتي، ولم يكن هذا الكتاب والكتاب التالي له وهو «تسكّع» إلا مجرّد تجميع لفقرات من كرّاساتي. أما فكرة أول رواية فتعود إلى سنة 1998، عندما تردّدت لمدة ستة أشهر على طبيبة أمراض نفسية طلبت مني في كل جلسة أن أقرأ عليها صفحتين أو ثلاث صفحات من مذكرات طفولتي ومراهقتي وبداية شبابي، فكنت قبل كل جلسة أستعد بكتابة موضوع في حدود هذا الإطار وهكذا وُلدت رواية «كل أحذيتي ضيّقة»، وقد استمرت معي هذه الطريقة في تأليف الكتب حتى روايتي الأخيرة «خيوط أقمشة الذات»، التي قد لا تكون رواية لأنه يغلب عليها الطابع التسجيلي، وأتحدّث فيها عن مشاغل سنوات عشر بين العاشرة والعشرين، بين صور وصفية قصيرة لعدد من أقربائي من طرف الأم، ثم صور وصفية قصيرة لذكريات المدارس والمدرّسين، ثم فصل عن الروايات والأفلام، ثم فصل عن رحلتي إلى انجلترا في سن العشرين، حيث أمضيت خمسة أشهر خلال الإجازة الصيفية بين يونيو ونوفمبر 1974، وكنت منقولاً من الصف الثاني إلى الصف الثالث بكلية طب طنطا، والفصل الأخير عن بعض الأحلام والرؤى، وهكذا يمكنك أن ترى أنه لم يكن هناك من يشجّعني على الاستمرار، بل كانت المسألة تبدو كما لو كانت طبيعية جداً مثل الأكل والشرب. إلا أنني لا أستطيع أن أنكر فضل المقالات الأولى التي نُشرت في الجرائد عن كتاباتي الأولى».

عدد محدود

الكاتبة الجزائرية حنان بوخلالة قبل أن تكتشف أنها ستصبح كاتبة تمنت ذلك بشدة. مع كل كتاب قرأتْه واستمتعتْ به فكرتْ: «أنا أيضاً سأؤلف كتاباً». كتبتْ سراً، وشاركتْ ما كتبته عدداً محدوداً جداً من الأشخاص، بسبب الشكوك في نوايا الناس، وكذلك خوفاً من أحكامهم القاسية، وبالتالي خوفاً من الفشل. تقول: «في النهاية أنا أقرأ كثيراً وأقارن دائماً ما أكتبه بما قرأته فأسأل نفسي: هل ما أكتبه جدير بأن يُقرأ؟ حصلت على إجابتي عندما شاركت في مسابقة وطنية للقصة القصيرة وفزت بالمركز الأول. لجنة التحكيم ضمت أسماء كبيرة مثل الدكتور صلاح عوض عبد القادر، والدكتور أحمد خياط والروائية نصيرة بلولة. اكتسبتُ ثقة لأفكر أنه بإمكاني أن أصبح كاتبة. أفراد عائلتي يشجعونني على الاستمرار. هم أكثر من يدعمني في كل خطوة أقوم بها، أعتقد كذلك أن كل قارئ - بغض النظر عن رأيه في كتاباتي - هو مشجع وداعم وإضافة رائعة. تخيل أن تنتقل من شخص يكتب لنفسه إلى شخص يقرأه الناس. الأمر عظيم بلا شك».

الرسوب في العربية

قبل ربع قرن كان أصدقاء الروائي المغربي هشام بن الشاوي - وهم شعراء - يتحدثون بشغف عن قصائد سيف الرحبي، أمجد ناصر، ‏وآخرين. كانوا يرمقونه بريبة، حين يتفوّه وجلًا باسم: «أسامة أنور عكاشة»، ويمطرونه بتعليقاتهم الهازئة‏.

يحكي: «لم أكن متفوقًا في مادة اللغة العربية، لكن محبّة الأدب، كانت سبب رسوبي في الدراسة. ‏في الصف الثانوي، عثرت في درج طاولتي على ورقة شبه مهترئة، كُتبت في حصة درس ‏المؤلفات، لفت انتباهي «حسن» اسم بطل رواية «بداية ونهاية»، وفي الوقت نفسه، كان التلفزيون ‏المغربي يعرض حلقات مسلسل «أرابيسك». اشتريت رواية نجيب محفوظ، لأنني اعتقدت أنَّ ثمّة ‏صلة بين الرواية والمسلسل، وسوف أحتاج إلى سنوات، لكي أدرك أنني لم أكن مخطئا في ‏ذلك التصوُّر!».

ويضيف: «كانت الكتب تتهاطل عليَّ كلعنة من الأصدقاء، لكي أكتب عنها. كان صديقي المرحوم، الكاتب الكبير محمد البساطي، يرسل إليَّ جديده الإبداعي، بصيغة الوورد، عبر بريد إلكتروني، لكي أكتب عنها، رغم أنني لست ناقدا، ولم أحاول أن أكتب تلك العبارات المضحكة: ناقد، قاص، شاعر، مسرحي وروائي من المريخ.. لكن إحدى المجلات الفنية، ذيلت مقدمة حواري مع الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة بـ«ناقد من مصر»، بدل «كاتب من المغرب»، التي أكتبها دوما، وبلا ألقاب زائفة، وقد سبق أن مازحني الصديق الروائي المغربي مصطفى لغتيري، فوصفني بالأديب المغربي الذي سرقه منا المشرق. بسبب هذه الألغام اليومية، كتبت قبل أيام على جداري الأزرق في لحظة انكسار مريع: أنا متعب حقاً، أريد أن أستقيل من مبادئي، مشاعري.‏ اكتشفت أن ما يشبه بوادر الزهايمر تنتابني كثيرا، فلماذا أعبأ بعالم يدفعني إلى هواية انكسارات متتالية؟!».

جلد جديد

الكاتبة السودانية صباح سنهوري اكتشفت أنها قد تصبح كاتبة منذ طفولتها، إذ كان ذهنها دائم الانشغال بنسج الحكايات تبعا لتساؤلاتها الدائمة أيضا، بدأت تدوّن ما يدور في ذهنها على الورق، حتى نسجت «العزلة»، قصتها التي فازت بجائزة الطيب صالح للقصة القصيرة، وكانت تلك محطة بدت لها وقتها وكأن وشاحا رسميا قد تم وضعه على كتفها، كتعميد ما، أو شيء من هذا القبيل!

تقول صباح: «واصلت الكتابة بمزيج جديد من الجد واللعب، رغم انقطاعي عن الكتابة نفسها بعد فوزي بالجائزة لفترة تصل إلى عامين، كنتُ ممتلئة بالأسئلة والشك والخوف، «السؤال» هو قريني، أعرفه، أما «الشك» فكان في كل شيء يخص مسألة الكتابة، جديتها، مسؤوليتها، ويخصني أيضا. و«الخوف» كان من الناس ومن عدة أشياء بت لا أذكرها الآن. لكنني بعد فترة العامين تلك، والتي أظنني احتجتها وقتها، عدتُ لي، وللكتابة».

تكتب صباح لأنها ترغب في القص والحكي عن أشياء لم تحدث، واحتمالات مرتقبة، تكتب لرغبتها في الغوص هناك في البعيد، إلى أقصى بُقعة تخص الآدمي منَّا، والأشياء كذلك، تكتب لتسأل، لتمسك بيد شخصٍ ما لا تعرفه. تعلق: «أذكر أن أحدهم سألني من قبل: كيف ولجتِ إلى عالم الكتابة؟ من أين كان مدخلك؟ فأجبته بصدق: «التحديق». لا أعرف حقيقة الدوافع ما خفي منها وما بطن، ما أعلمه ولا أشك فيه، أنني مولعة بالتخليق، لو كنت أعرف كيف أبني جبالاً من الرمل على الشاطئ لفعلت. لو عاد الزمان إلى ذلك الفناء المدرسي حيث كنت أقصّ الحكايا، أو إن عاد إلى «العزلة»، لاخترت أن أكتب، سأختار ذلك ما حييت ألف مرة، كمخلوق ملعون يكتسي بجلد جديد كلما احترق الذي قبله، أو احترق قلبه».

أمر لا يحدث فجأة

عندما بدأت الكاتبة السورية غنوة فضة الكتابة لم يتعلق الأمر بما ستصبح عليه، بمعنى أنها لم تبدأ من وعي يتمحور حول ذاتها: «أعتقد أننا نستطيع الحديث عما يدفعنا إلى الكتابة، وهو أمرٌ لا يحدث فجأة، ولا يأتي على شكل صاعقة، بل لا يمكن للطريق الذي يجعلنا كتّابا ليفضي إلا نحو الكتابة ذاتها. ثمة وجود كان قد اكتمل، وثمة أفكار تراكمت ووجدت سبيلها للتجسد، لأحبَّ الكتابة أكثر من كوني كاتبة، وليعنيني النص أكثر مما ستحيطني به صناعته».

من شجعكِ على الاستمرار؟ تجيب: «عندما نشرت كتابي الأول، سواء نجحت أم أخفقت، كنت أدرك أن من يمتهن الكتابة عليه أن يوليها وقته، وأن يرتهن لعملٍ مجهول المرامي. قد تأخذ الكتابة كل لحظة في حياة الكاتب، وتتركه وتمضي. هذا الرهان، أن نقف إلى جانب جوقة القصص والأصوات التي تحتدم، هو ما يدفعُ للاستمرار. أن نحيي عوالم مستترة، ليس قولها فقط، بل إعادة تركيبها وطرحها بإخلاص، وهو أمر لا يمنحني اليوم إمكانية التوقف. وما أرجوهُ أن تبقى الأفكار على ازدحامها واتقادها، إنها وقود لا بأس به».

بدلة سوبرمان

الكاتب المصري حسام فخر منذ تعلم فك طلاسم الحروف في سن مبكرة للغاية، أصبحت القراءة متعته الكبرى وهوايته الوحيدة. بين حكايات قبل النوم التي كانت تحكيها له جدته، وقصص سلسلة «أولادنا» و«المكتبة الخضراء» التي كان يلتهمها بشغف كبير، اكتشف أنه يحب الحكي، بل يعشقه. كان خياله جامحا، والحكايات التي يخترعها عصية على التصديق. كانت أسعد لحظات حياته هي أن يجمع زملاءه، على طريقة الروائي العراقي عائد خصباك، في حوش مدرسته الابتدائية ويحكي لهم حكايات عن النمر المخطط الذي يسكن في دولابه، وزياراته الليلية لقصر الفيلة الصغيرة السحري الموجود في حديقة منزله، بل وعن بدلة سوبرمان التي حصل عيها من جنية طيبة وساعدته على الطيران لينقذ الأرض من نيزك على وشك الاصطدام بها وتدميرها. كانت دهشته كبيرة عندما وجد الزملاء الصغار يصدقون حكاياته ويستمتعون بها بل ويطالبونه بتكرارها. عادةً كان ينساها ويغيّر تفاصيلها وهو يحكيها للمرة الثانية أو الثالثة، وكان ذلك يبعث على ضيق جمهوره الصغير واستنكاره.

يحكي: «اقترحت عليَّ جدتي أن أسجل حكاياتي كتابةً حتى لا تخونني الذاكرة وأنسى ما سبق أن رويته. وقررتْ أن تشتري مني كل قصة أكتبها بخمسة قروش بكاملها. وكان ذلك المبلغ ثروة صغيرة بمقاييس الستينيات في طفولتي. بهذا يمكنني القول: إن جدتي أمينة حسن هي أول من شجعني على خوض مغامرة الكتابة. وجاء بعدها أستاذي العظيم صلاح جاهين، ثم أصدقاء الشباب بهاء جاهين وعمرو حسني وبعدهما بفترة قصيرة أمين حداد. كلهم شجعوني، رغم صرامة انتقاداتهم، ودفعوني إلى الاستمرار. وطبعاً كل الكتاب العظام الذين قرأت لهم وانبهرت بأعمالهم ووددت أن أقترب ولو قليلا من الجمال الذي يملأون العالم به، وعلى رأسهم محمد المخزنجي».

حياة وبهجة وجمال

دخل الكاتب العراقي سلام إبراهيم الوسط الثقافي في وقتٍ مبكر وأول محاولة قصصية حملها إلى أقرب الأصدقاء علي الشباني (1946 - 2011) شاعر مجدد بالقصيدة العامية العراقية من جيل ما بعد مظفر النواب، فأحبطه إحباطا شديدا وخلص إلى أن سلام إبراهيم لا يستطيع الكتابة. كان ذلك 1972، وكان من الممكن أن يقتل مشروع الكاتب لديه، لكن جيشانه الداخلي وعدم قناعاته بكل ما قاله الشباني، كما يحكي، جعله يعرض القصة على الشاعر كزار حنتوش (1946 - 2005) الذي أخبره بأن لديه ملكة قصصية ونصحه بدراسة النصوص العالمية والعربية والعراقية مع الكتابة المستمرة وكان سببا جوهريا في تشديد ثقته بنفسه، فدخل مرحلة إعداد طويلة في عراق مضطرب أثمرت أول مجموعة قصصية له هي «رؤيا اليقين» ثم توالت كتبه التي جاوزت العشرة.

يختم حديثه قائلا: «لا أتخيل حياتي دون كتابة أبدا، أشعر كأنني خلقت لها، لكن لم تشغلني تماما، فأنا محب للحياة والبهجة والجمال».