No Image
عمان الثقافي

بحثاً عن معنى المكان في دواخل المنكسرين

26 أكتوبر 2022
26 أكتوبر 2022

من الوطن الأم إلى وطن مُتخيّل يحمل الآمال.. هو الاغتراب في لحظة.. أو ربما الهجرة في لحظة أخرى.. هو المنفى الإجباري عند البعض والاختياري عند آخرين.. لكنه ليس أكثر إيلاما من الغربة داخل الوطن.. كل ذلك وجع يتغلغل في نسيج الكتابة ويتوغل في أمشاج المنتج الإبداعي، ويتجلى لنا فيما تصوّره أفلام السينما في مختلف مشاهدها.. فيما يسرد آخر تجربته مع هذا الوجع نثرا ويعمد غيره إلى نظمها شعرا، وكلهم ينقل لنا المشهد عبر عدسته الإبداعية الخاصة... ويحاول بطريقته نقل وقائع الحزن والسعادة وما بينهما من متناقضات اللحظة.. ولكن هذا الهروب من واقع الغربة المرير ليس من شأنه أن يسلي هم المبدع المغترب عن وطنه وينأى به عن أن يعيش مرارة تلك اللحظات ويدفع به خارجها، وسواء كان المبدع يعيش داخل تلك اللحظة أو خارجها فهو في كلتا الحالتين يسمو بإبداعه الذي لا يتشكل إلا من خلال معاناته هذه؛ فهي وحدها التي تتكفل بتشكيل وعيه وتحلق به عاليا عبر حمم إبداعه التي يسكبها من بركان معاناته.

وأما البعض فيحمل وطنه في حقيبته ويجعل من وجعه نايا يعزف من خلاله لحنا يترجم فكرة الوطن الغائبة ويرسم ملامحها في الذهن ويعيد تعريفها من جديد.

حملنا هذا كله على شكل سؤال توجهنا به للمبدعين وقدمنا بين يدي استطلاعنا هذا التساؤلات.. كيف يؤثر ذلك الاغتراب في الحنين إلى الوطن.. وكيف تؤثر هجرات البعض في صناعة وتشكّل وعي الكاتب الإبداعي، وأين وكيف يحضر الوطن في المنتج الإبداعي؟

ساكنًا في العُزلة

قبل أن يحزم الوطن في حقيبته ويغادر، نسي ما سوف يعود إليه مرارا.. عجز في كل مرة عن حَمله معه.. كانَ يكبُرُ ويتعاظم حتى أطلق عليه تسمية تليق بالألم الذي يحفُره في قلبه، لم يكن غير» الحنين» هكذا يعبّر الأمجد بن أحمد إيلاهي «الشاعر والكاتب التونسي المقيم في سلطنة عمان» نظرته حول فكرة الوطن في الغربة.. يقول إيلاهي: إزاء هذا العجز المُذلّ وعدم قدرتي على قتل الحنين ودفنه دون رجعةٍ، قرّرتُ مُصادقته، وجعلتُ منهُ بطلاً حقيقيّا ومحرّكًا للكتابة، لا يبلى ولا يتعطّل، ولأنّ حاجتي للوطن فاقت حاجتهُ إليّ، أخرجتهُ معي فكرةً وتركتُ واقعُه لمن توافق معهُ في المصالح والخرائب، وأعدتُ تشكيلَ ما يخصّني في خيالي، حيث أنا الشعبُ الوحيدُ الحرّ بلا حكومةٍ وبلا صُراخ. وطنٌ مغلقٌ على الحرّية والمحبّة والسكينة.

أمضيتُ سنتينِ في الرّبع الخالي (صحراء ظفار) أينَ درّستُ الأطفال وتأمّلتُ في الرّمال ولم أرَ سوى طمأنينةُ نشدتُها فتحقّقت، ولم أسمع في هزيع الليل غير صدى الشّعر يقرأ عبر مئات السّنين تُرددهُ الرّيح للغرباء مثلي فيستحيلُ الحنين هدوءا وتصبِحُ الأشواقُ قصائد ورسائل وقوارب منجية من كل غرق.. آنذاك كتبتُ الشعرَ لأتواصل مع الأسلاف بلغتهم، وحيث إن جلّ ما كنتُ أشكو منهُ، كانَ إضاعتي لسنوات دون طائل، أعلي الصّوت دون مجيب، كتبتُ مجموعتي الشعرية الثالثة «لا وقت لي»، وكانت رابط صلةٍ بيني وبينَ صاحبتي الصحراء التي نقلت قصائدي في برودة الرمل أين ينامُ أهلي الشعراء.

ويضيف الأمجد بن أحمد: حينَ أردتُ امرأة تشاركني عزلتي الجميلة واستحال الطلبُ، صنعتُها. وكتبتُ لكارلا رسائلي ونشرتُها كتابًا يُحدث النّاس عن الفكرة، فكرة السكنِ في العزلة وتأثيث وطن من الخيال أين يمكنُ أن أعيش، وبعدَ صدور الكتابِ مباشرةً انتقلتُ إلى الشمال (شمال سلطنة عمان) وهناك أي هُنا، داهمني حنينٌ آخر، ظالمٌ من الذين لم أصادفهم في حياتي مطلقًا رغم كثرتهم وتكاثرهم فيها، بُليتُ بفقدٍ لن تعوّضهُ السنون ولا الدهور ولا حتى الكتابة، وما زالت إلى اليوم أصرخُ في وجه الموت اللئيم: «أعد إليّ أبي..»

أصبحت غربة، وقد كنتُ لا أؤمن بها بسبب مبدأ أسير وفقهُ يقولُ بأن كل الأماكن متشابهة وأن الناس سواسية ولا فضل لأحد على أحد، حيث علمني المتنبي أن «شرّ البلاد مكانٌ لا صديق بهِ وشرّ ما يكسبُ الإنسان ما يصمُ».. لكنها (الغربة) تملّكت كل كياني وزعزعت وطن الواقع وكادت تأتي على الذي أسستهُ في خيالاتي لولا شاطئ الخابورة المُهيب.. هناك حيث كنتُ أجلسُ على كرسي لساعات طوال أفكّرُ في ذكرياتي مع صاحبي وأبي وأكتبُ للطيور المهاجرة مثلي آملا في لقائهِ ولو في الأحلام، وهكذا مرّة أخرى يكون الحنين القاتلُ محرّكًا للكتابة فيصدر كتابي «كرسيّ على الشاطئ» وأقيمُ جدارَ وطني الخيالي وقد حسبتُ الحنين هادمهُ لا محالة.

ويضيف الأمجد إيلاهي: أعيشُ هنا مُحافظا على أهم مكسبٍ في الوجود ألا وهو حرّيّتي. تعلّمت كيف أتّقي مُنغّصات الدّنيا من البشر، فالحرّية حيثُ لا يعرفكَ أحد ولا يعرفون عنكَ سوى ما تعلنهُ أنت للعالم، تعلّمتُ من كل الرحيل حكمة واحدة تقول بأن مهمّة الناس الأولى والوحيدة هي تضييقُ العيشِ على بعضهم البعض، فاعتزلتهم وأمنتُ. العزلة تمنحني الوقت الثمين لأتمعّن في كوامني وأعيد النظر في مسائل روحية ونفسيّة، وتعطيني حرّية التّفرّس في الملامح أينَ وضع الزمانُ يدهُ لينحت على الوجوهِ ما لا تدركهُ العقول وتعجز عن ذكره الألسن، فالغربة ليست عدوّتي إذ هي تساعدني لأتحوّل من مجرّد جسم ضئيل في كون فسيح إلى كلمات تتوالدُ من بعضها لتُصبح أفكارًا تُكتبُ فلا أزولُ ولا تزولُ.

هل لي أن أسمّي المكانَ الذي أستطيع فيهِ كتابة هواجسي والعيش دون نصائح سمجة وملاحظات هابطة «غربة»؟ تقفزُ الإجابة لا.. الوطنُ بالنسبة لي ليس النّاس وإنّما الأمكنة، فالنّاس يتغيّرون ويموتون ويولدون ولا أحد يثبُتُ على حال وأنَا لا أبني حياتي على ما يزولُ. أمّا الأماكنُ فهي ثابتة تحمِلُ تاريخها وجمالياتها وتمنح رؤاي العيش الفسيح.

ويختتم الأمجد بن أحمد إيلاهي حديثه بالقول: أعيشُ داخل رأسي، وفي عزلتي الاختيارية أقيم، وفي كلّ مرّة يداهمني فيها الحنين أحوّلهُ بخفة ساحر إلى فكرة جديدة، وأصنعُ منهُ النّصّ الذي أريد، أمّا الآن وقد تمكّنني، وجثم على قلبي، مُعطلا تفكيري، يحثّني على العودة إلى البلاد البعيدة فإني جعلتهُ يتحرك وفقًا لإرادتي لا إرادته هو، وها أنا والحنين نكتبُ روايتنا الجديدة «الطريق إلى البيت»، هكذا أسافرُ وهكذا أقيم ولا شكل لي خارج خيالاتي.

قصصا منتزعة من الواقع

ملاحقا بالوطن أينما كان يرى الروائي العراقي أحمد سعداوي (المقيم في تركيا) أن الوطن ليس «الدولة» أو الجغرافيا، وإنما تلك العلاقة المتداخلة والمتفاعلة ما بين المجتمع والأرض والتاريخ والجغرافيا، من جهة، ومن جهة أخرى المخزون العاطفي الشخصي للعلاقة مع الناس والطبيعة والأماكن والمنتجات الثقافية، من أغانٍ وصور ونصوص وغير ذلك.. لذلك يميل الأفراد، في الغربة، إلى تكوين أوطان منفى، فنرى الجاليات المتوزّعة حول العالم تنجذب إلى بعضها تلقائياً، لتكوين ما يشبه الصورة المصغّرة عن الوطن البعيد.

ويضيف سعداوي: أما في الكتابة، فالكاتب يكتب عمّا عايشه وخبره وما مرّ به من تجارب، ويكتب عن أناس يعرفهم، أكثر من غيرهم، ثم أنه يبحث غالباً عن صورة ما يكتب لدى قرّاء من وطنه، بالدرجة الأساس. لذلك نرى الكتّاب، أينما كانوا، يكتبون قصصاً منتزعةً من واقع أوطانهم، ويهتمون للانطباع الذي يحصل عن كتبهم داخل أوطانهم. وفي بعض الحالات، يتغيّر الجمهور، فتتغير اهتمامات الكاتب أو طبيعة المادة الاجتماعية التي يتناولها في كتبه، كما حصل مثلاً مع نابوكوف وميلان كونديرا، حيث انتقلا إلى الكتابة بلغة أخرى غير اللغة الأم، وصار لهما جمهور آخر غير الجمهور الوطني الأصلي.

وبالحديث عن «الغربة»، فأنا أفصّلها إلى نوعين: الأول الغربة الجغرافية، وهذه اليوم تغيّر وزنها وثقلها مع الثورة المعلوماتية وتقنيات التواصل الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي، فأينما كان الإنسان يستطيع أن يدخل في الفضاء الافتراضي لوطنه، ويتحدث مع مواطنيه بالوزن والكفاءة «الافتراضية» نفسها التي تتيحها هذه المواقع لمستخدميها، فلا معنى للجغرافيا هنا. كذلك الأمر مع متابعته للقنوات الفضائية والاذاعية، فهو يستطيع أن يخلق في منزله الفضاء نفسه الذي يعيشه أبناء بلده الأم.

أما النوع الثاني، فهو للغربة بمعناها الوجودي والنفسي، وأكاد أزعم بأن الكثير من الساكنين في أوطانهم يعيشون هذه الغربة، فهناك من لا يخرج أو يختلط كثيراً، لأنه يشعر بحاجز ما بينه والمجتمع، أو لأنه يحمل مواقف وتصورات تجعله معزولاً ومقصياً و«غريباً». إضافة الى الفاصل الذي يصنعه الوعي المفارق عن المحيط، والذي يُدخل صاحبه في غربة عميقة، بل إن الإنسان المنشغل بصناعة الكتابة وتعاطي المعرفة يعيش على الدوام شكلاً من أشكال الاغتراب هذه، وعليه أن يتعايش معها، بل ربما هي ما تجعله يتميز ويتفرّد بما ينتج ويكتب.

غربة واغتراب

يرى الروائي والباحث الأردني المقيم في بريطانيا يحيى القيسي أن المبدعين العرب يعانون عموماً من اغتراب نفسي في أوطانهم، وقلة منهم يتمكنون من مغادرة الجغرافيا الضيقة للانطلاق في غربة نحو أرض الله الواسعة عبر العمل أو الهجرة أو الدراسة، وبعضهم يقع تحت وطأة الاغتراب النفسي والغربة الجغرافية معاً فيكون التأثير على تجربته كبيراً، وقد يتمظهر هذا في ما يكتب من نصوص أو ما يتجلى من إبداعات أخرى، والذي أراه أنّ الوطن العربي المضطرب في معظم أقطاره، والذي يعاني من كوارث كثيرة ليست من أولوياته الإبداع الأدبي والعناية به فإنّ الكاتب يجد نفسه أحياناً في موضع يحلم فيه بالمدينة الفاضلة التي تتحقق فيها أحلامه، وبالتالي يبدأ بالتفكير بمغادرة وطنه متسلحاً بالحنين إلى الماضي وتفاصيله، وهذا ما يظهر في النتاج الأدبي له غالباً، ولعل الكثير من الأدباء العرب الذين يعيشون اليوم في بلدان غير بلدانهم وخصوصاً في الغرب ينكفئون إلى ذواتهم، وينشغلون بالتواصل مع بني جلدتهم، ونادراً ما تجدهم ينغمسون في ثقافات البلدان التي يعيشون بها أو حتى يتقنون لغتها.

ويضيف القيسي: العيش بعيداً عن الوطن سواء كان ذلك مؤقتاً أو دائماً سيكون له أثره الواضح على إبداعات الكاتب بدرجة أو بأخرى، وهذا يعتمد كما أسلفت على درجة انغماس الكاتب بالثقافات الأخرى الجديدة التي يعيش فيها، ومؤخراً فإن عدد الكتاب العرب المهاجرين قد تضاعف وخصوصاً من الأدباء السوريين والفلسطينيين في بلدان أوروبا والعالم، وتأخذ ألمانيا منهم الحصة الأكبر إضافة بالطبع إلى تركيا، كما أن حضور الكتاب العراقيين يبدو واضحاً في بريطانيا وخصوصاً لندن حيث الملتقيات والأندية الثقافية والمعارض الفنية الخاصة بهم، ومن المؤكد أن هذه الهجرات ستظهر نتائجها بعد حين، ولكن لا توجد إلى الآن جهة أو منصة خاصة تجمع شتات هؤلاء جميعا أو تقوم بدراسة التأثير الخاص بهذه الهجرات على إبداعاتهم، وهذا أمر متروك بالدرجة الأولى إلى الدراسات الأكاديمية المتخصصة وإلى الباحثين والإعلاميين.

الرؤيا من عمق اللحظة

لا يشك المخرج فجر يعقوب الروائي والسينمائي الفلسطيني المقيم في السويد أن المرء يمكن أن يعيش غربة داخل وطنه نفسه، وكلما زاد وعيه، زادت غربته ويقول: ذلك أمر يكاد يكون مفروغاُ منه.. وفي الوقت نفسه يمكن لهذه الغربة أن تعطي شكلاً للوطن، مختلفاً عما هو عليه الحال، في الشكل، والأبعاد، والمسافات والروائح والأصوات، عن غربة خارجية اضطرارية، تحدث ضمنياً لأسباب مختلفة، وكل ما يمكن أن ينتجه الوطن في لحظات القسر، يمكن أن يصبح عنواناً أدبياً للكثير من المفارقات التي يمكن أن تحدث بسبب هذه الغربة، وأحياناً يمكن للغربة نفسها أن تلعب دوراً مهماً في المظهر الخارجي للإنسان الذي يعاني منها، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه مجازاً الشكل الأقرب للحنين، وللحنين في الأوصاف الأدبية واللغوية والسينمائية أشكال كثيرة يمكن أن تفرد لها مئات الصفحات، أما في الشكل الأعلى للحنين، فإنه يجب اختراق الروح من الداخل للنظر إليه، وإعادة تعريفه بدقة، وهذا أمر معقد، وبالغ التوصيف.

وانطلاقاً من هذا التعريف تلعب الهجرة إلى الداخل أو إلى الخارج أدواراً بارزة في زيادة وعي الكاتب، ففي الأولى هي تزيد حدة الرؤيا من داخل اللحظة، وفي الثانية تزيدها من خارج اللحظة، وإن لم يكن الأمر متفقا عليه بطبيعة الحال، لكن الهجرة تعصف بالروح القلقة للمبدع، وتزيدها مضاءً، لأن الإبداع هنا مسافة أمان يلجأ إليها (المبدع) عندما تشتد العواصف والأنواء من حوله، ويصير الإبداع هنا نقطة ارتكاز، يمكن أن نطلق عليها اسم الوطن. والوطن بالضرورة يحضر على شاكلة طبقات أصوات وروائح ومفردات ولغة في المنفى الكثيف الذي يعيش المبدع بين طبقاته، وكل طبقة هنا يمكن أن تشكل وطناً مفرداً بحاله.

الوطن والهجرة والبدائل

عن ألمه يرى الدكتور محمد مخلوف الباحث السوري في قصايا الثقافة والتنوبر والمقيم في باريس أن المهم في جميع الحالات مهما تعددت الدوافع والرغبات وتنوعت من البقاء في ربوع الأوطان إلى الهجرة مهما كان واقع القسر وراءها هو ـ أي المهم ـ بلوغ نوع من «التوازن» بين ما كان... وما هو كائن، وبالتأكيد مؤلم هو الابتعاد «قسرا» عن شطان وعوالم عرفتها ملاعب الطفولة وأحلامها «البسيطة»، ومؤلم أيضا غياب الاندماج «الحقيقي» بين المنظومات الاجتماعية لـ «الأوطان» الأصلية و«الأوطان» البديلة، إنها دائما حكاية الغراب الذي أراد أن يقلد «مشية الحجل» بالنسبة لأولئك الذين «يزعمون» بلوغ قمة هرم «الاندماج»، فالمسألة أبعد من «الانتقال من بلاد الفاقة والبؤس إلى بلدان الرفاهية والثروة»، وأبعد من تجاوز امتحانات إجادة لغة «الأوطان الجديدة» إلى تبني منظومات «قيمها المزمنة» المجتمعية، فالمهاجر يعيش بالضرورة حالة من «الفراق» و«الحنين المزمن»، هو الآخر، إلى الماضي الذي «مضى» ولن يعود.

ويضيف الباحث السوري الدكتور محمد مخلوف: لا شك أن الهجرة هي أحد أقدم ظواهر التاريخ الإنساني، ولا شك أيضاً أن الثورة الصناعية الكبرى جعلت من العالم الغربي، والأوروبي خاصة، وجهة الآلاف من الباحثين على مدى أجيال كاملة، عن سبل العيش وتحسين أوضاعهم الاقتصادية، لكن بقي الصراع قائماً بين التوق إلى تعزيز الهوية «الأصلية» والهوية «البديلة» لدى المهاجرين، وما يعكس في واقع اليوم، التباين السياسي والفكري الحاد مفهوم مكانة هؤلاء المهاجرين في النسيج الاجتماعي للبلدان التي استقبلتهم.

فكرة الوطن والمنفى

من جانبه يقول الشاعر العراقي عدنان الصائغ الذي يعيش ترحالا مستمرا بين المنافي والمهاجر: كيف رأى المنفيون الاوائل فكرة الوطن والمنفى، وكيف نراها نحن المنفيين المعاصرين وقد أصبحت كرتنا الأرضية المترامية الألم والأمل، مجرد قرية، والآن يمكنني- أنا الشاعر - أن أختصرها في كتاب أو غيمة أو خيمة، وهنا تتجلى ثيمة الوطن في أكثر من معنى: الحرية، الكتاب، المرأة، الفكرة، الخبز، الخمر، الشِعر، وإلخ. ومن هنا أيضاً اختلف وعي الكتابة لدى شاعر المنفى ليصبح أكثر اتساعاً وحواراً وتساؤلاً وحيرةً والخ، والخ.. وبهذا يظهر ويحضر الوطن في نصوصهم بشكلٍ مختلفٍ وربما أعمق مما لو مكثوا فيه، فلكي تعرف وطنك أو حبيبك أو قصيدتك أو صديقك أكثرَ وأعمق، ابتعد عنه قليلاً. وهذا الابتعاد قد يأتي قسرياً أو يكون اختياراً: حياتياً أو فنياً.

الوطن والغربة

يقول المخرج قاسم حول السينمائي والكاتب العراقي المقيم في هولندا نحن هجرنا الوطن مذ كنا يافعين في أوج أحلامنا، وكنا ننعش الثقافة بأفلامنا ومؤلفاتنا القصصية وكتاباتنا الصحفية، ننعش الثقافة وثقافة الصورة حين داهمتنا قوى شريرة عبثت بالوطن وجففت مياه أهواره وأحرقوا فيلمي عن الأهوار حتى لا يبقى شاهداً على تجفيف مياه الأهوار .. في البلدان التي تنقلت فيها وفي بلاد المهجر الأخير هولندا، أشعر بأنني مثل شجيرة في سندان وليست شجرة أو نخلة مزروعة في تراب الأرض التي أقيم فيها.. ممكن أن أوضع مرة في شرفة المنزل ومرة يتم نقلي بين شجيرات وورود نابتة في أرضها.. وأنني غريب بينها.

بالنسبة له يقول «حول»: هل أستطيع أن أخرج فيلما روائيا تدور أحداثه في الأهوار العراقية، وأبني الأهوار التاريخية المغمورة بالمياه والطيور والبردي والقصب في ديكورات بهولندا؟ بالتأكيد لا.. فالثقافة لا تنتعش سوى بأوطانها، أما الذين تغربوا في التاريخ المعاصر، وأبدعوا في أعمالهم الأدبية والفنية والأكاديمية فإنها حالات استثنائية وليست ظاهرة، وعرفت أعمالهم أيضا بالحنين إلى أوطانهم، واستقوا أ فكارهم الأساسية من مفردات حياة أهلهم وأوطانهم.

وهنا تحضرني حركة «أخوان الصفا وخلان الوفا» التي نشأت في القرن الثالث الهجري والعاشر الميلادي في مدينة البصرة والذين وضعوا منهج الحياة الحرة والإنسانية في رسائلهم التي طبعت في أربعة مجلدات توضح العلاقة الجدلية بين الدين والفلسفة، وبكل الحب والوله في بناء الإنسان الطيب، أخفوا أسماءهم ورحلوا عن الحياة وحتى الآن لا تعرف أسماؤهم، لأنهم كانوا يشعرون بالغربة والشعور بالغربة مصدره الخوف. كانوا يخافون وهم يكتبون الحب والصلاح والإصلاح وتحليل الواقع والمنطق، وبقيت ما تسمى رسائل أخوان الصفا وخلان الوفا» ومفهوم الرسالة هي أكبر من المنهج.. ولكن الذين كتبوا تلك الديباجة الخالدة لملحمة منهجية علمية وأكاديمية لا أحد يعرف أسماء مؤلفيها الأوفياء للوطن.. أتمنى أن تتكرر تلك الظاهرة الأدبية العلمية والثقافية، في رسم لوحة المحبة للحياة ولكن بأسماء كتابها في العلن، وعناوين كتابها، حين يكونون مبعث ثقة ومبعث الإبداع في رسم منهج الحياة على الصعد العلمية والسياسية والثقافية والروحية.. ترى متى تحصل الهجرة العكسية، وهل تستوعب الأوطان ما هجرت من الأبناء، أم يرحل المهجرون ويتركون أبناءً لا يتحدثون العربية، واللغة العربية إحدى أجمل سمات الأوطان العربية والإسلامية، وصراحة إن كان ثمة ما يجعلني فخوراً بعروبتي هي اللغة العربية التي لم يعرف كل أبناء المهاجرين جمالها وموسيقاها، وإن تحدثوا ففي حديثهم لكنة تخدش السمع وتدمع العيون.. قبلوا العَلم الذي يرفرف في سماوات أوطانكم، وانشدوا الشعر في حبه، ولتزدهر الثقافة حتى لا يهرب الجيل الآتي في زوارق المهربين ويصبحون طعاما لسمك القرش وحيتان البحار.. ليكن التعليم ولتكن الثقافة والعلوم أركان التوجه في بناء الوطن، فعندما تسقط السياسة يسقط النظام وعندما تسقط الثقافة يسقط الوطن.

الموطن والوطن

«أن تولد لاجئاً في مخيّم يكاد يكون مهملاً على حافّةِ الأرض، بعد ما يقرب من عقدين على حرب مدمّرة شنّها مهاجرون غرباء مدربّون على القتل على مكانك وزمانك الخصوصيّين، فإنّك لن تعثر على الوطن، المفقود أصلاً، إلا بوصفه عالماً متخيّلاً في تلك المسافة بين ذاكرة السلالة ومقدرتك الخصوصيّة على خلقه بالكلام» بهذه العبارة يفتتح الشاعر والأكاديمي الفلسطيني المقيم في موسكو عبدالله عيسى حديثه ويضيف الوطن في وعينا ظلّ مرتبطاً بالحلم، وتحديداً حلم العودة، حتى أصبح الحلم نفسه، أقصد الوطن، بعد سيل نكبات ونكسات ومجازر وانهيارات عوالم فينا وحولنا، لكننا خسرنا هذا الحلم، كمن خسر قدميه في الطريق إليه، مذ أمهلنا نحن المحتلّ أن يبقى على أسرّتنا باتفاقات أبرمت معه، صارت صكّاً لدخول مكاننا وزماننا مخدع الأعداء، تماماً كما أرادوا حين شاءوا أن يدخلوا التاريخ برمّته الحظيرة، قد يكون الحنين إلى الوطن ذاك، آنذاك، أشبه بالإقامة في ذاكرة شيبان السلالة، أو بالعودة إليه معهم في لحظة شوق جارف، لكن هذا الحنين كان دوماً مطارداً بالحبّ. الحبّ للوطن، وإن كان من كلام، وبالكلام الأشدّ إيلاماً وبقاء في ذاكرة الحياة، ولم يكن الحنين ترفاً وجودياً، أو ضرباً شعرياً، بالقدر الذي كان أشبه بالتسكع بين ماض مؤلم ومستقبل غامض بغية خلق حالة توازن للذات مع مصيرها في عالم لا مستقر فيه لفكرتك عن الوطن، وطنك المفقود حال عودته.

وفي الشتات أيضاً، في مخيّم ما، أيّ مخيّم، تتعدّد أشكال الحنين، ومزاياه. ومن الجائز أن يكون الكلام، بلهجتك ذاتها، الّذي خلق الوطن فكرةً وجسداً متخيّلاً شرطاً لتجسيد هويّتك الخصوصيّة، طالما أنّك قد خصّك قدرك بوطن خصوصي، وأنّ لهجتك الخصوصيّة الّتي ينبغي الحفاظ عليها خشية ذوبان ثقافتك في ثقافات الشتات، وبهذا تصبح أنت، بلهجتك وفكرتك وملامحك، الوطن ذاته، ذاك المفقود ذاته، أو المحتلّ ذاته، فيما تعثر في المنفى على الوطن، وكذا الحنين إليه، كمن يعثر فجأة على وشوم في القلب، أو مرايا مهشمة في الروح، وكأنك استعدت ذاكرتك على حين غرة بعد سقوط مدوّ، جارح هذا الوطن، وكذا الحنين إليه، ويكاد يلتبس عليك في كل شيء فيما مضى وما سوف يمضي في حريّتك بأن تفكّر أو تتذكّر، فحريّتك بأن تخلق وطناً باللّغة، حريّتك أن تجعل من جسدك وطناً لك معادلاً للوطن المفقود تلك حرّيتي، حرّيتي فكرتي، فكرتي وطني، وطني جسدي، جسدي في المرايا أجمل من قاتلي، ولسوف تكتشف في أي أرض أنت فيها أن الوطن لا يمكن خلقه باللغة إلا إذا كان حيّاً فيك بسمائه ومائه وهوائه وأسمائه وأشيائه كلها، فهذه العناصر مفردات لعمليّة الخلق بالكلام، والمدهش حقاً أن تكتشف خلسة خديعتك الكبرى لذاتك ولغتك، لفكرتك وجسدك، باختلاط الأمر عليك: الحنين إلى الموطن في الشتات، حيث ولدت وكبر الوطن والحلم بالعودة إليه معك، في المخيم، أو الحنين إلى وطن مفقود خلقته بالكلام في روايات شيبان السلالة وكلاهما: الموطن والوطن فَقْدٌ ما وجدتَ إليهما سبيلاً بعد هاوية من النكبات والانتكاسات وخيبات الأمل والمطاردات الخ.. ما الّذي يتبقّى من الوطن فينا بعد هذا كلّه؟ ما تبقى منّا فقط .!

خطوات في سماء بعيدة

يرى الدكتور محمد عبدالرضا شياع الكاتب والأكاديمي العراقي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية أن مفهوم الوطن ظلّ قلقاً من حيث التحديد لغةً واصطلاحاً؛ دينياً واجتماعياً، فلسفياً وثقافياً، ولكنه يرى أن هذا المفهوم يتشكّل متبلوراً بعلاقة الإنسان الروحية في المكان الذي عانق صرخته الأولى، ثم انهمرت دموع طفولته على ثراه مثل دموع الزهور التي تعانق فجر أحلامها، فتغدو العلاقة بينهما علاقة مشيمية بعد انقطاع الحبل السري بين الوالدة ومولودها، حتى وإن كان هذا المولود لم يغادر حجر أمه بعد، إذ تغذّي الأم ولدها بدفء المكان مثل ما يغذّي الشاعر قصيدته بحرارة الأرض، فحضن الأم وفناء البيت وفضاء الحياة تنطوي على معنى الوطن، ٍهنا بدأت أولى مفردات القول، وهنا بدأت مكابدات الوعي، فيضحى ارتباط الإنسان بوطنه ارتباط الصوفي بعقيدته.

يقول شياع: يتعرض الإنسان لهزات تخلخل العلاقة بين المكان والمتمكّن، بين الوطن والمواطن، فيضطر إلى الرحيل، والسؤال هنا: هل يتمكّن هذا الظرف القاهر من تشييد قطيعة بين الإنسان وبيت الطفولة؟ لا أظن الأمر يحدث بشكل مطلق، فالنسبية حاضرة في سلوك الأفراد والجماعات، حيث تتفتق أسرار المكان في الروح وفي الذاكرة.

يهاجر الإنسان فتبدأ أسئلة الداخل والخارج تتصارع، صراع الأنا والسوى في جدوى الوجود، وإن كانت في دواخل الذات الواحدة، هناك مَن تتشكّل في ذهنه رؤى جديدة، وأحلام يقظة تسافر به إلى آفاق المستقبل، وهناك مَن تتحفّز الذاكرة فيعيش في قلق وجودي، ترحل به أحلامه الليلية إلى الماضي، تتناسل الصور مثل أمواج البحر، أو مثل الغيوم التي تجرفها الرياح إلى مديات لا يدركها النظر. إذا تأمّلنا حياة الكتّاب في الغربة نجدها قد أسهمت إسهاماً كبيراً في ابتناء الوعي، يضحى المكان في ضوئها نصّاً يسهم في إنجاز موضوع الكتابة وإنتاج معناها، حتى إن الحالة النفسية للكاتب نراها متجلّية مثل هُوية تعبّر عن تفاصيل وجوده، نقرأ فيها صور الغربة انساقا ثقافية تمهر نص الكاتب بميسمها وشماً دالاً على المعاناة، فيتجسّد الحنين كلماتٍ وقصائد، أو دموعاً تلوّن بها الشمسُ أفق المغيب.

قد تستحيل الغربة اغتراباً وجودياً، وهذه أصعب الحالات النفسية التي يتعرض لها المغترب، فالغربة تعني في أقرب مدياتها المفاهيمية الابتعاد عن مكان الألفة، لكن الاغتراب يرتبط لا شعورياً بما هو نفسي خالص، يمسي في ظلّه المكان الأليف معادياً، وهنا قد يشتد بالمغترب الحنين، ويشعر ذاته منفياً في داخله، وربما تحدث مثل هذا الحالة داخل الوطن، لكنّها أشد ضراوة في المنافي والمغتربات، فتتصاعد نار الحنين لهيباً لا يهدأ أواره.. يصل المغترب مرحلة الصراع بين الداخل والخارج، فيبدأ ببناء وطن المنفى ذهنياً، هناك تتدافع الصور، وهنا تندلق الكلمات على جرح الأرض، ذاك الذي نقرأه في كتابات المغتربين طقوساً تحطّم أسوار غربتهم، يحجّ الخيال في حركة نحو الخارج دائماً، تكون هذه الحركة انتشارية أو دائرية سيان، بين ضفافها ينبني الوطن، ولغة حلم لعلّها لغة جديدة في ضوئها يتشكّل وعي آخر.

الوطن منفى

في فكرة «عندما يصبح الوطن منفى ويتحول المنفى وطنا» يدور رأي كمال بوعجيلة الشاعر والكاتب التونسي المقيم في باريس حيث يقول: أين هو الوطن وأين نحن منه هذا الذي يبعث أولاده جماعات وأفرادا لأمواج المتوسط دون رحمة ولا حتى مجرد تأنيب لضمير غادر منذ زمن بعيد...!!!! أين هو الوطن حتى يسعفنا حظنا المتعثر بالحديث عنه.. لقد غادرنا قبل أن نفكر في مغادرته!

ونحن في طريقنا إلى المجهول كنا نعد خطانا ونلهو بعد أصابعنا وكأننا نحصي الهدايا كي لا يتعكر مزاجنا حين نتفطن أن الألم عميق ومتأصل ولا يمكن التستر على مأساتنا ببعض الأهازيج والأغاني والشعارات التي لن تسكت رضيعا عن الصياح حين يفتقد في ليلة باردة ثدي أم التهمتها الفاجعة... نحن أيتام الأرض حين أنكرنا الأهل والأقرباء واقتسموا ما ينبغي أن يكون متاعنا الفاني لم نجد سبيلا للنجاة غير الفرار لأرض أخرى. ولتكن منفى أو وطنا ما جدوى تحديد الصفة والعنوان حين يفقد الصواب معانيه... وطننا منفى ومنفانا وطن...هل يوجعكم ذلك ...ربما لم يكن خيارنا ولكن بوصلة لا تتحمل وقع الحقيقة زائفة... وليس أسهل على الغافلين من صنع الوهم وتصديق الأكاذيب المريحة... لا شيء أوجع من الحقيقة...والخيال أصدق من الواقع كما يراه النائمون!! والغربة الأشد فضاضة ووجعا هي الغربة في الأوطان.. تجعل الكلمات جارحة والكتابة نوعا من تصفية الحساب مع الآخر ومع الذات أيضا... لماذا نغادر؟ ربما لأن الأمكنة تضيق وتقسو ولا مناص من البحث عن أرض تتسع على الأقل لبعض أمانينا!

فيصل بن سعيد العلوي محرر صحفي بجريدة «عمان».