No Image
عمان الثقافي

«باب اليمن» يطير في السماء

28 ديسمبر 2022
28 ديسمبر 2022

ترك رحيل الشاعر والناقد عبد العزيز المقالح فراغًا كبيرًا في الساحة الثقافية اليمنية المتناثرة (في الداخل والخارج على السواء) في خضمّ حرب تراوح عامها الثامن، صار الحديث فيها عن الثقافة بوصفها فائضًا وترفًا في مقابل شتات ومآس ونزوح ومجاعات وتشظيات هي العناوين الأبرز في المدونة اليمنية الراهنة.

فراغ كبير تركه رحيل المقالح في قلوب محبيه ومرتاديه وقرائه والنخبة الثقافية في البلاد إذ كان مرجعيةً يحجّون إليها، ينهلون من معارفه ويأخذون بنصائحه وملاحظاته حول أعمالهم وجديد إصداراتهم وما يعكفون عليه من اشتغالات في الهمّ اليومي الإبداعي والكتابي.

وترك رحيله في المقابل فراغًا في مشهدية الإبداع العربي الذي ـ برحيل المقالح ومن قبله بأشهر قليلة محمد علي شمس الدين ـ يفقد نجومه الكبار واحدًا تلو الآخر، ليكون العام 2022 هو عام الأحزان الشعرية العربية بامتياز.

على مدى 5 عقود، انطبع اسم عبد العزيز المقالح في الأذهان واحداً من رموز الحداثة العربية عبر منجز شعري تميز ببصمة خاصة، كما كان له حضور ـ فضلا عن اشتغاله النقدي وتنوع مشروعه الثقافي ـ يتماهى مع قضايا الأمة عبر مثاقفات ومقالات انتظمت في الصحافة اليمنية والعربية. ومع أنه عاش في عزلته اليمنية في العقود الأخيرة من حياته لا يغادر صنعاء المدينة التي أحبها حد العشق، إلا أنه ظلّ صوتًا متناغمًا مع الهمّ العربيّ لا سيما القضية الفلسطينية التي لم تكن غائبة في كتاباته.

يمنيًا، فتح المقالح مكتبه ومنزله للقاءات يومية ودورية مع مثقفي البلاد وأدبائها وشعرائها، بدءًا من مكتبه إذ كان رئيسًا لجامعة صنعاء وترحيبه بعدد كبير من -الذين خاصمهتم ولاحقتهم أنظمة بلدانهم ـ الأدباء والكتاب العرب للعمل في الجامعة وعدة جامعات أخرى، ومن موقعه الإداري في مركز الدراسات والبحوث اليمني في صنعاء الذي ظل رئيسًا له حتى وفاته، بقي مكتبه هناك مفتوحًا أمام الأدباء والفنانين والمثقفين اليمنيين من ناحية وأولئك الذين دفعت بهم المصادفات لزيارة اليمن للمشاركة في فعاليات ثقافية وأدبية.

ومثلما كان بوابةً تنفتح على المشهد الثقافي العربي إذ إن كل مبدع عربي تطأ قدماه اليمن، كان لزامًا عليه أن يبدأ رحلته من بوابة عبد العزيز المقالح، حتى أن شاعرًا عربيًا كتب -على هامش خبر رحيل المقالح ـ أن أي مبدع عربي تسنّت له فرصة زيارة اليمن كان يذهب مباشرة للقاء المقالح وبعدها ينطلق في مشاركاته الثقافية. وللأدباء الشبان في اليمن حكاية مع الرجل، الذي كان أكثر من يحتويهم ويعقد صداقات معهم تبدأ من تقديمه لإصداراتهم وتنتهي بعقد صداقات دائمة معهم يترددون عليه فيملؤون مجلسه الأسبوعي أكثر مما يكون عليه حضور أدباء وكتاب من أجيال سابقة.

وشاء القدر أن يغادر عبد العزيز المقالح قبل أسابيع قليلة من نهاية العام 2022، العام الذي يتوج ثمانية أعوام من الشتات والعزلة اليمنية في أتون الحرب وانعكاساتها على كل شيء بما في ذلك أهل الثقافة والإبداع الذين نالهم البؤس وتمكن منهم الخذلان حتى أن الحديث عن الأدب والفن، بالنسبة لهم، يغدو شيئًا من الترف، عندما عجزت الكلمة والريشة أمام مفردة الموت القاسية وحضرت البندقية بجنونها لتتسيد مشهدًا عبثيًا يمضي إلى الغموض والفداحات ولتكتب تاريخًا مكلومًا كلما ازداد أمد ضياعاته انكسرت نجمة جديدة في أفقه المعبأ برايات الهزيمة.

كان يوم الاثنين 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 يومًا للحزن والفاجعة اليمنية: عمّ الحزن أرجاء البلاد، في مشهد ودائعيّ يضاعف بكائية الروح المفجوعة في رحيل بوابة اليمن الثقافية الكبرى، عبد العزيز المقالح.

**

لمرّتين فقط، قرأت شعرًا في مجلس المقالح الأدبي (مقيل الثلاثاء)، وبمجرد الانتهاء من القراءة، يعلق الدكتور بكلمتين، ثم يكررهما: الشعر لغة.. الشعر لغة.

بعد صدور مجموعتي الشعرية الأولى «صوب نخّالة المطر» في أواخر العام 2010، ذهبت إلى مركز الدراسات والبحوث في صنعاء حاملًا كتابي مسبوقاً بإهداء شاعريّ إلى دكتور، اِحتفى به متأملًا غلافه الرئيس ولوحة الإيطالي مايكل أنجلو، كانت أصبوحة ثلاثاء. كتبًا كثيرة تتراصّ فوق بعضها تملأ المكان. همس لي صديق من الشعراء: أرأيت كل تلك الكتب ما أكثرها؟، وفي الأثناء، كان أدباء ومؤلفون يضعون كتبهم الصادرة حديثًا بين يدي الدكتور... عُدت أدراجي إلى مدينتي «المحويت/ شمال غربيّ صنعاء»، جاء الثلاثاء التالي موعد المقال الأسبوعي للدكتور في الصفحة الأخيرة من صحيفة الثورة وهي المقالة التي تُخصِّصُ فقرةً في نهايتها للإشارة إلى كتابٍ جديد رأى النور، وفيها: «أهداني الشاعر صدام الزيدي كتابه الشعري الأول الذي حمل عنوان (صوب نخّالة المطر)، وأثار إعجابي ما يتمتع به الشاعر من قدرات في التقاط مفردات الطبيعة في صورة شعرية بالغة الرهافة»، ثم تابع مشيرًا إلى محافظة المحويت (التي أنتمي إليها) بوصفها مكانًا ملهمًا للكتابة والإبداع.

**

أخبرنا الدكتور، ذات مرة، أنه قرأ رواية «قواعد العشق الأربعون» للتركية إلف شفق في ثلاثة أيام، ومجيبًا عن سؤالنا له عن وقته المفضل للكتابة، أفاد أنه يجد في ساعات الفجر الأولى موعدًا ثمينًا للقراءة والكتابة: «أستيقظ قبل الفجر بساعتين»، يقول الدكتور. أنجزت أسئلة حوار مع الدكتور في ذروة يوميات الحرب، وحينما عدت إليه لم أجد إفادةً عنها ثم دفعت بالأسئلة ثانيةً لتضيع أسئلتي، لربما كان المرض الذي تضاعفت آلامه في جسد الدكتور سببًا لعدم الانتباه للأسئلة، عدت يومًا إلى مجلسه الأسبوعي رفقة الصديقين الشاعرين يحيى الحمادي وزين العابدين الضبيبي، استمعنا لأغنية ظلت عالقةً في روحي: يا غائبًا لا يغيبُ/ أنت البعيدُ القريبُ، لميّادة الحنّاوي، بينما الانزلاق الغضروفيّ في العمود الفقري للدكتور، كان قد تمادى أكثر، مما عَزَله عنّا في غرفة مجاورة. تزامن ذلك مع احترازات فرضتها جائحة كورونا. يومها حملت معي عدد مجلة «نزوى» التي احتفت بالثقافة والإبداع في اليمن: «يوميّات الانكسار الكبير»، في ظل غياب المجلات والدوريات الثقافية العربية التي ظلت طريقها إلى اليمن منذ انطلاقة الحرب المشؤومة وحتى الآن

**

حزننا لا نهاية له..

الشمس لم تعد (تتناول القهوة في صنعاء القديمة)

كما كانت تفعل

صوت عبد العزيز المقالح -تلك الموسيقا الهادئة ـ يزورني ليلًا.

الجبال تنظر إليّ معاتبةً والبرد يقصف كل شبر في البلاد

الشلالات الطالعة من حنجرته توقفت

من سيحنو علينا بكلمته وسؤاله؟

الغبار يجتاح المدينة،

الأرض بارود وعصابات ومقابر.

أي قصيدة يكتبها الآن؟

أي جبل يصعده وحيدًا؟

صدام الزيدي شاعر وصحفي يمني