No Image
عمان الثقافي

انهيار الدولة لا يعني انهيار الثقافة في لبنان

26 أبريل 2023
26 أبريل 2023

صحيح أنّ هناك أكثر من انهيار في لبنان على المستويات السياسية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية، لكن مصطلح «انهيار»، قد لا ينطبق عموماً على كل ما هو ثقافي، أو يرتبط به مضموناً أو تعبيراً، بل يمكن اعتبار أنّ الوضع الثقافي بات منذ أكثر من جيلين يسجّل تراجعا يتفاوت في حدّته بين نوع وآخر.

أولاً، لم تعد الثقافة كما كانت من قبل نوعاً من مقاومة ما يهدّدها من قمع، أو يهدّد حريّة التعبير في الإجمال. تراجعت إلى حد كبير، في نوع من العزلة الخاوية التي تعوضها وسائل اتصال اجتماعية وتكنولوجياتها وأدواتها التي تتصاعد تأثيراتها يوماً بعد يوم، لتصبح هي المرجعية الثقافية، وحتى السياسية، على حساب الكِتاب والمعرفة والقراءة، إلى درجة باتت فيه قراءة الكتب والصحافة، لا تتجاوز خمسة بالمئة: أغلقت صحف أساسيّة أبوابها، وما تبقّى منها يعاني أزمات أساسيّة على صعيد التوزيع وعلى صعيد القيم؛ فجرائد مثل «النهار» و»اللواء» و»الديار» و»لوجور»، لا تتجاوز عدد كل منها 12 صفحة، من دون ملاحق ثقافيّة أو اجتماعيّة.. وحتى من دون أيّ صفحة ثقافيّة. إضافة إلى توقف عدد من الصحف الكبرى العريقة عن الصدور، مثل «السفير» و»المستقبل»... وكلنا يعرف كم كان لهذه الصحف من تأثير إيجابي على الثقافة في صفحاتها أو ملاحقها؛ وتوقفت مجلّات أسبوعية مهّمة أو شهرية مثل «الآداب» التي أسّسها الراحل سهيل إدريس.

كما دخلت دور النشر في أزمات كبرى، ما أدّى أيضاً إلى توقف العشرات منها عن إصدار الكتب، ولم يتبق (بعدما كان عندنا في لبنان نحو مئتي دار نشر) سوى بضع دور نشر تعاني أيضاً من تراجع عدد قرائها وأسواقها العربية... بل تحولت بعض هذه الدور إلى مجرد مطابع تنشر كتباً يدفع مؤلفوها ثمن طبعها. وصار عندنا كتّاب وشعراء وروائيون لا يستطيعون نشر كتبهم.

حتى المستويات الثقافيّة، بل العقليّة، في الصفوف التعليمية الثانوية والجامعية، ومنها الأقسام العليا كالدكتوراة، تقهقرت هي الأخرى في العديد من المدارس والجامعات، وخصوصاً الجامعة اللبنانيّة، بعدما كانت هذه الأخيرة، خزّاناً للثقافة والأدب والفكر والعلوم؛ وتخرّج فيها كبار الشعراء والفنانين والروائيين والنقاد والمفكرين والتربويين،

هل أدّى ذلك كله إلى انهيار ثقافي؟

ربما أدّى إلى خواء على صعد التفكير، وربما تراجعت اللغة العربية تراجعا مخيفاً، ليس في وسائل الاتصال فقط، كالتلفزيون والمواقع الإلكترونية والإذاعات، بل لدى الشعراء والكتّاب والصحافيين الجدد الذين ينتمون إلى جيل التسعينيات من القرن الماضي، بل نجد أخطاء لغوية اليوم في دواوين شعرية وروايات ومؤلفات «لغوية» وفكرية. إنها الكارثة التي تهدّد لغتنا الجميلة، وتراثنا الأدبي، بعدما كان لبنان هو قلب اللغة العربية (كما قال الشاعر الكبير الراحل محمود درويش)، فبمَ نكتب إذا كانت وسيلة الكتابة صارت شائهة، وحتى معطلة؟!

بين زمنين وحالين

وإذا نظرنا إلى المسرح اللبناني اليوم، فلن نجد ما كان يلفت أنظارنا، ويثير إعجابنا في جيل السبعينيات من القرن الماضي، فلا الجامعة اللبنانية بات لها دور في «مختبرات المسرح»، ولا الفِرق الماضية، ولا كبار المخرجين والممثلين والمؤلفين.

لبنان الذي كان جزءاً أساسياً في النهضة المسرحيّة العربية (أي منذ جيل أو أكثر) سجّل اليوم تراجعاً كبيراً؛ مع الإشارة إلى أنّ هناك استثناءات في الجيل الجديد في المسرح، وفي السينما، لكن لا يلقى، لا إنتاجاً لأعماله ولا كادرات، ولا ربما جمهوراً؛ فالجمهور انتقل إلى أمكنة أخرى. نقول أكثر: كان في كل قرية في لبنان دار سينما. أما اليوم، فلا نجد سينما واحدة، حتى في شارع الحمرا، ولا من المسارح سوى واحد، هو مسرح المدينة، بل كانت بيروت تعجّ بالمكتبات، ونجد أنه لم يتبق سوى مكتبات بعدد أصابع اليد الواحدة. في الماضي (أي في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي) كان ينتج في لبنان نحو ثلاثين مسرحية. أما اليوم، فالمسرحيات في فصولها لا تتعدى أصابع اليد، وجلّها من ممثل واحد أو ممثلين... مصنوعة للمهرجانات.

ولكن ألا تشكّل هذه التراجعات انهياراً يعادل الانهيار الاقتصادي والسياسي؟ نكرّر بالنفي لأسباب عدة:

أولاً، هناك يأس كامل عند الناس من الوضع، يأس يوازي الهجرات الجديدة للشباب اللبناني (بمئات الألوف) بحثاً عن التعلّم أو العمل.

ثانياً، ليس هناك علاقة حتميّة بين الإبداع والانهيار السياسي بأشكاله المختلفة.

ثالثاً، ما زال بعض من جيل الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي (أو من تبقّى منه) ينتج شعراً ورواية وفناً طليعياً، يوازي ما يصدر في أرجاء العالم العربي. إنه جيل شارك في صناعة «النهضة» الثانية في لبنان، وقادر بالتالي على مواصلة خطّ إبداعه السابق بإبداعه اللاحق وبتفوّق ملحوظ، يؤكده نيل أفراد منه جوائز في الشعر والرواية والبحث والترجمة.

لكن هذه التحوّلات والأحداث (حرب العام 1975) والحروب الطائفيّة بسجالاتها وجنونها وجاهليتها وتدميرها المؤسّسات التعليمية والتربوية، ودور الجامعة الوطنية، وكل توق إلى المعرفة عند شبابها ـ شكّلت كلّها قطيعة بين جيلي الستينيات والسبعينيات، وبين الجيل الجديد. كأنما بعضه بلا ذاكرة، وبلا أحلام، وبلا توق إلى المجهول والثقافة؛ إذ أنه ضحية كاملة الأوصاف. فجيل الستينيات والسبعينيات عاش في بيئة شكّلت ملاذاً لكل المثقفين العرب، وشهد بيروت في عزّها وفي عزّ دورها الطليعي؛ بينما هذا الجيل – الضحية، هو جيل عاش أزمات كبرى وانقسامات كبرى وانحطاطاً غبر مسبوق في تاريخ هذا البلد، حتى أن هذا الجيل لا يعرف عاصمة له؛ فبيروت دمرت في حروب 1975، وحتى شارع الحمرا اليوم، لم يعد رمزاً لثقافة الانفتاح والإبداع والطليعية بعدما كان جوهرة العرب.. بات هذا الشارع اليوم مجرد سوق لبضائع مستعملة (بالات) وشحاذين وفقراء. وعلى رغم ذلك كله، فنحن عندما نتحدث عن هذا الواقع الثقافي المتقهقر اليوم، لا نحس باليأس الذي نكابده عند الحديث عن الوضع المنهار، والأكثر من منهار في بلدنا. فإذا كان ثمة أمل ما، فلن نجده عند الذين دمّروا لبنان على امتداد خمسين عاماً، ولا عند الذين يبشّرون بالانزواء، ولا عند الذين نهبوا البلاد، ولا عند أي سياسي، بل عند هذا الجيل، على رغم كل ما يعانيه، وما يفتقده من عناية واحتضان؛ فهذا الجيل الثقافي هو الذي سيقاوم هذه الحالات التدميرية، بما تبقّى من شعره ومسرحه وروايته ومعرفته وحسّه بالانتماء إلى حضن المعرفة والثقافة والأحلام التي افتقدها.

من هنا أقول، إن الثقافة اليوم، هي بين زمنين وعصرين وحالين: بين جيل جديد متروك يحاول أن يتلمّس طريقاً له، وبين جيل سابق أعطى ما أعطى، وكان بعضه درعاً في وجه التخلّف والتجهيل والخواء. وبكل الأحوال، سأظل أخاف من لحظة تاريخية قد تأتي، وتتزعزع خلالها في كل من الجيلين، بوصلة الوعي والإبداع.

هكذا فانهيار الدولة ومؤسساتها، ليس هو تحديداً مسؤولاً عن الأحوال الثقافية؛ فالدولة اللبنانية لم يكن لها دور فاعل في الثقافة، كما هو الحال في بعض البلدان العربية. وكلنا يعرف أن إنشاء وزارة للثقافة منذ نحو عقدين، لم يقدم أو يؤخر في مجريات الثقافة. بقيت الثقافة منذ زمن طويل من إنتاجات فردية خاصة؛ فالحركة المسرحية موّلت نفسها بنفسها، وكذلك دور النشر والسينما. فلم يكن عند الدولة، لا دور نشر رسمية تُصدر كتباً، كما هو شأن الحال في سوريا ومصر وتونس، وليس عندنا حتى مسرح وطني، كما هو شأن الحال أيضاً في مصر (عندها نحو 15 مسرحاً وطنياً) وقطر وتونس والمغرب.... فالثقافة في لبنان كانت على الدوام نشاطاً خاصاً، لا علاقة لوزارة الثقافة به، لا من قريب، ولا من بعيد؛ ويكفي أن نعرف أن معظم وزراء الثقافة الذين عيّنوا في لبنان، لا علاقة لهم بالثقافة.. مثلاً، عرفنا وزراء ثقافة، كان أحدهم يملك محطات للوقود، وآخر كان صاحب مصنع للنبيذ، وآخر كان طبيب جراحة عامة.

إذن علينا أن نفصل إلى حد كبير بين انهيار الدولة بمؤسساتها، وبين الوضع الثقافي.

من هنا يمكن القول إن القطاع الثقافي في لبنان يعاني ما يعاني، لكن، كونه قائماً على المبادرات الفردية، ومتحرراً من كل ما يربطه بالدولة، فهو قادر بالتالي على استرجاع دور ما له. ونجد هذا الوضع ينعكس حقيقة في أعمال مسرحية وسينمائية ومنشورات (خاصة) تتمتع بمستويات جيدة. واللافت أن معظم الأعمال المسرحية التي تقدّم اليوم، على قلتها، تشهد اكتظاظاً في إقبال الجمهور عليها.

قد تطول أزمة انهيار البلد سنوات، ولكن الثقافة في لبنان التي واجهت كلّ الحروب الماضية، وأشكال الدمار على أنواعها، قادرة اليوم على الالتحاق، وإن بخطى متواضعة، بدورها الإبداعي الحر.

بول شاوول شاعر وصحفي لبناني