عمان الثقافي

الموسيقى والمعاناة قراءة في مونودراما «الكونترباص» لباتريك زوسكيند ورواية «عازفة البيانو» لإلفريده يلينك

24 أغسطس 2022
24 أغسطس 2022

«لن يعزيها ينبوع الفن كله، بالرغم من أنهم يقولون عن الفن أشياء كثيرة، ويدّعون قدرته الفذة على تقديم العزاء. في بعض الأحيان لا تبدأ المعاناة إلا بالفن».

(إلفريده يلينك: «عازفة البيانو»)

ترتبط الموسيقى في مخيلتنا بالجمال والرقة والسمو وتهذيب المشاعر، ويخفق قلب المرء عندما يرى طفلا تداعب أنامله الكمان، أو طفلة تعزف على البيانو وتُنطقه أعذب الألحان. ومَن مِنا لم ينبهر بموتسارت، الطفل المعجزة، الذي تلقى أولى دورسه على البيانو من أبيه وهو في سن الرابعة، ثم بدأ في سن الثامنة يؤلف المقطوعات الموسيقية؟

هذه الرؤية الرومانسية للموسيقى وعازفيها تغيرت بالنسبة إليّ عندما شاهدت «الكونترباص» على خشبة أحد مسارح كولونيا في نهاية التسعينيات. وعندما ترجمت «عازفة البيانو» لإلفريده يلينك في عام 2004 أصبحت الموسيقى ترتبط في ذهني أولا وأخيرا بالمعاناة والعذاب. اللافت أن العملين صدرا في وقت واحد تقريبا، إذ كتب «زوسكيند» مسرحيته عام 1981، ونشرت يلينك روايتها بعده بعامين في 1983. وبالطبع هناك أبعاد كثيرة في كلا العملين، لكنني سأقتصر في كلامي هنا ع هذا البعد فحسب: الموسيقى كأداة تعذيب.

عازف «الكونترباص»

في مونودراما «الكونترباص» لزوسكيند (26/3/1949) يشاهد المتفرج عازفا، محدود الموهبة والقدرات، يجلس وحيدا في غرفة بجدران عازلة للصوت، تكاد تخلو من كل شيء إلا من آلة الكونترباص ضخمة الحجم، عميقة الصوت. في البداية نسمعه يفتخر بدورها في الأوركسترا، «فبدوننا لا تستطيع أي أوركسترا أن تعزف شيئا». (1) لكن هذا الاعتزاز الشديد بآلته الموسيقية، يقابله كره دفين لها، لأنها في نظره أصل كل بلاء في حياته. إنها هي التي تجعله يجلس وراءها في الصف السادس أو السابع من الأوركسترا، لا يكاد يشعر به أو بعزفه أحد. على العكس من الآلات الأصغر حجما، كالكمان مثلا، أو الأعلى صوتا، مثل الطبل الكبير. هذه الآلة تجبره على أن يعيش في الظل. يعلم العازف أنه لن يقف أبدا في دائرة الضوء عازفا منفردا، فلم يحدث أن ألف بيتهوفن، مثلا، أو موتسارت أو تشايكوفسكي مقطوعة منفردة للكونترباص. لذلك يجد العازف نفسه مجبرا على العمل مع الأوركسترا، جالسا في الخلف، ومن مكانه يصب جام غضبه وإحباطات حياته على كل الناس، ونحو كافة الاتجاهات: إنه يلعن المايسترو، والحفلات الموسيقية، والعازفين النجوم، وكبار المؤلفين الموسيقيين، لا سيما ريشارد فاجنر، الموسيقار الأثير لدى هتلر، ويسخر من موتسارت، الطفل المعجزة، ويتهم أباه بأن عذّّب ابنه:

«موتسارت كان موسيقارا عاديا تماما. بل أضيف وأقول: لأنه كان موهوبا وهو طفل، ولأنه بدأ التأليف الموسيقي وهو في الثامنة، فإن الرجل اقترب بسرعة شديدة من نهايته. المذنب الرئيسي في ذلك هو الأب، هذه هي الفضيحة. ابني، إذا رُزقت بابن، ولو كانت موهبته تفوق موهبة موتسارت عشر مرات، وهو أمر سهل أن يقوم طفل بالتلحين؛ كل طفل يلحن، إذا لقنته ذلك كالقرد، ليس هذا فنا عويصا، لكنه انتهاك وتعذيب للأطفال، وهو أمر ممنوع في أيامنا، وحسنا فعلوا، فالطفل له الحق في الحرية.»

هذا عن الموسيقى عموما. لكن عازف «الكونترباص» لديه مشاكل خاصة مع الآلة التي يعزف عليه، فهي «عائق أكثر منها آلة»، ويضيف:

«إنك لا تستطيع أن تحمله. لابد أن تجره جرا. وإذا وقع، انكسر. لا يمكن أن تدخله السيارة إلا إذا طويت المقعد الأمامي الأيمن. عندئذ تكون السيارة قد امتلأت عن آخرها. في الشقة لا بد أن تتجنبه دائما. إنه يقف هكذا ... ببلاهة هكذا في طريقك. أتعرفون، ليس كالبيانو مثلا. البيانو قطعة أثاث. يمكنك أن تغلق البيانو وتتركه. أما هذا فلا. إنه يقف هكذا مثل... كان لي خال، دائما مريض، ودائما يشتكي أن لا أحد يعتني به. هكذا هو الكونترباص».

أضحت هذه الآلة كاللعنة التي لا تفارقه حتى عندما ينفرد بعشيقة. عزف الكونترباص هو نوع من القدر الذي يرضخ العازف له وينحني أمامه. يقول بطل المسرحية:

«لا، لا يولد المرء عازفا للكونترباص، بالفعل لا. الطريق إلى ذلك يمر بتعاريج ومصادفات وإحباطات. أستطيع أن أؤكد لكم أن من بين ثمانية عازفين للكونترباص في أوركسترا الدولة، ليس هناك عازف واحد لم يشرب الذل، ليس هناك واحد إلا وآثار لكمات القدر ظاهرة على وجهه».

يرى عازف الكونترباص نفسه ضحية العائلة والظروف والمجتمع. ومع تنامي شعوره بالتفاهة – في الحياة كما في الأوركسترا – يقع فريسة لجنون الاضطهاد، ويتخيل أن العالم كله يترصده. لا يتبقى له إلا الحلم بتحقيق شيء هائل لافت للأنظار، ليقف ولو مرة واحدة في دائرة الضوء – فماذا سيفعل؟

«عازفة البيانو»

يُصدم قارئ «عازفة البيانو» لحجم التشوهات التي يمكن أن تلحقها الموسيقى في نفس العازف، أو بالأحرى عندما يتعلمها في سن صغيرة؛ عندما تتحول الموسيقى إلى أداة تعذيب تسرق طفولة الأطفال، وتجبرهم على التدريب اليومي الشاق الذي لا يفسح أي مجال للهو الحر الذي لا يبتغي أي هدف نافع. في هذه الرواية تقدم إلفريده يلينك نموذجا صارخا وشاذا لامتهان طفل عبر تعليمه الموسيقى. وهي تعرف عما تتحدث، فهي في الغالب تتحدث عن نفسها.

كانت الموسيقى الكلاسيكية، أو بالأحرى طموح الأم الموسيقي هو النقمة التي حلت بالطفلة إلفريده (20/10/1946) في مدينة فيينا، المدينة التي عاش فيها هايدن وموتسارت وبيتهوفن ويوهان شتراوس. في سن السادسة قررت الأم المسيطرة أن تتلقى ابنتها دروساً في البيانو. في الحادية عشرة نجحت الفتاة في اجتياز اختبار القبول في كونسرفتوار فيينا الذي يتقدم إليه الآلاف من كافة أنحاء العالم. كانت أصغر طالبة في المعهد العريق، ولذكائها وموهبتها لفتت على الفور أنظار أساتذتها. في تلك الفترة لم تكن لدى الفتاة ساعة واحدة شاغرة. كانت تذهب إلى المدرسة لتتلقى دروسها، ثم تنهمك في التمرين على آلات موسيقية عدة مثل البيانو والأرغن والكمان والجيتار. كانت تتمرن، بينما أقرانها يحيون. هذه الفترة بكل تفاصيلها المدمرة للطفولة يطالعها القارئ في روايتها شبه السيرة «عازفة البيانو». وربما كانت حياة إلفريده يلينك ستسير كما سارت حياة بطلتها إريكا كوهوت في الرواية المشهورة (وهي قالت يوما: إريكا هي الفتاة التي كنتُها) وكان الأمر سينتهي بها مدرسة للبيانو أو عازفة من الدرجة الثانية في أحد المعاهد الموسيقية – لولا الأزمة النفسية التي أصابتها ووصلت إلى ذروتها عام 1968.

آنذاك لزمت يلينك المنزل، واكتشفت الكتابة طريقاً للتحرر من مخاوفها. تخلصت الفتاة من قوالب التمرين الجامدة ووجدت لذة في الكتابة الحرة.ثم أرسلت نصوصاً شعرية ونثرية إلى مسابقة للكتّاب الشبان، وفازت بجائزتين عن النثر والشعر معا. في عمر الثانية والعشرين نشرت يلينك أولى رواياتها «ما نحن إلا طُعم يا حبيبي!» التي أثارت اهتمام النقاد وهجوم المحافظين في آن واحد (وهو أمر سيلازمها طيلة حياتها الأدبية). ويجد النقاد في باكورة أعمالها السمات الرئيسية في أدبها: تراجع الحدث إلى الخلفية، الاهتمام الشديد بالتفاصيل، استخدام الاقتباسات والعبارات الشائعة ثم تحويرها أو السخرية من خواء مضمونها. ما قرأته يلينك يتداخل مع ما سمعته وعايشته وما تؤلفه. نص إلفريده يلينك كالكونشرتو: آلة منفردة تحاور أوركسترا من عشرات الآلات الموسيقية المختلفة. أما دافعها إلى الكتابة فهو – كما قالت فيما بعد - الكراهية، «الكراهية العميقة المتجذرة، كراهية عامة تشمل كافة القضايا الاجتماعية وكل ما أعاني منه. إني أحاول نقلَ كل ما أعانيه في حياتي الخاصة إلى مستوى عام».

في «عازفة البيانو» تقول يلينك وهي تصف الفتاة إريكا كوهوت: «تعيش المُراهِقة في محمية طبيعية يُحرّم فيها الصيد طوال العام. تُحمَى من التأثيرات الخارجية، وتُبعَد عن الإغراءات. لا تتمتع بالحماية في أوقات العمل، بل في أوقات المتعة فقط». وتضيف: «بأربطة التزاماتها اليومية ملفوفةٌ هي مثل مومياء مصرية». حتى أبسط الرغبات تُقرِنها الأم بإجادة العزف:

«طوال ثلاث سنوات وهي تعلن بمثابرة عن أمنيتها في الحصول على حذاء عالي الكعب لأول مرة في حياتها. لا تتخلى بالنسيان عما تريده أبدا. هي بحاجة إلى المثابرة كي تحقق أمنيتها. وهي تستطيع المثابرة. ستحصل على الحذاء الذي ستلبسه عند عزف سوناتات باخ المنفردة. هكذا اشترطت الأم الخبيثة إجادتها للسوناتات كي تحصل على الحذاء. لن تحصل أبدا على هذا الحذاء. تستطيع أن تشتريه بنفسها، عندما تكسب من عرق جبينها. تحرك الأم الحذاء كأنه جزرة أمام عينيها. بهذه الجزرة تُرغِّبها الأم في عزف مقطوعة أخرى، ثم مقطوعة أخرى لباول هيندميت، لهذا تحب الأم الطفلة التي لم تستطع الحصول على الحذاء أبداً».

على الفتاة ألا تفعل أي شيء سوى العزف: «الصقر ماما، والنسر تيتة تمنعان الطفلة المعهود أمرها إليهما من مغادرة الوكر. تستأصلان من جسدها الحياة، وتقطعان منه شرائح سميكة، بينما الجارات يشاركن بجهد مشكور في عملية تقطيع شرفية. كل شريحة تنبض فيها الحياة، تُستبعد على الفور باعتبارها تالفة عفنة. التمشية والفرجة على المحلات، تعيقان الدراسة وتضران بالعازفات.» تضحي الطفلة إذن بكل وقت فراغها من أجل الموسيقى، لكن ذلك يجعلها هدفا لسخرية الجميع فحسب. تشعر الفتاة بالأصفاد التي تقيد حركتها، وعندما يزور البيت أحد أقاربها من الشبان، تود أن تفك أصفادها، لكن مخالب الأم الممسكة بها أقوى من إرادتها:

«يلفظ البيانو آخر أنغامه، وتتلاشى في الجو. تسترخي أربطة يديها ويرن المنبه الذي ضبطته الأم بنفسها لتحديد وقت البروفة. تقفز إريكا في منتصف النغمة وتعدو بمشاعر شبابية ملتبسة حتى تحضر البقية الباقية من الغناء والرقص. تُستقَبل ابنة العمة في الهواء الطلق الاستقبال اللائق بها. أكان عليك، مرة أخرى، أن تقضي كل هذا الوقت في التمرين؟ على الأم أن تتركها في حالها، فنحن في إجازة. لكن الأم لا تسمح بأي تأثير سيء على طفلتها».

ويتواصل قمع رغبات الأطفال العازفين عندما تصبح إريكا نفسها معلمة، وتأمر تلاميذها بحضور الحفلات التي تعزف فيها، والويل لم يغيب: «إذا غابوا عن الحضور إلى هنا سيحصلون في مادة البيانو على درجة سيئة. الموت وحده سيكون عذرا مقبولا للإقلاع عن الفن. الأسباب الأخرى لا يقبلها على الإطلاق عاشق الفن المحترف.»

ولعل المقطع التالي عن ترويض حيوانات الغابة كي تصبح حيوانات سيرك، يلخص لنا مأساة إريكا كوهوت، ومأساة –على الأقل بعض- عازفي الموسيقى:

«هل يحب الوحش البري سابقاً، وحيوانُ السيرك حالياً، مروّضَه؟ ربما، لكن ليس بالضرورة. (...) في بعض الأحيان يسهلون الأمر على الحيوان، ويضعون أمامه الطعام ممضوغا من قبل، أو مُقطّعا. وبذلك لا يعود بحاجة إلى البحث المضني عن الطعام، ومعه المغامرة في الأدغال. هناك، ما زال النمر المرقط يعرف كيف يقتنص ما يراه صالحا، سواء كان ظبيا، أو صياداً أبيض متهورا. يحيا الحيوان الآن حياة سهلة واضحة خلال النهار، يستجمع فيها قواه لألعابه البهلوانية التي سيعرضها في المساء. إنه يقفز عندئذ من خلال أطر مشتعلة، أو يصعد على الكراسي، أو يدير أعناق الجعارين بدون أن يدهسها، أو يرقص مع إيقاع الموسيقى، وحده أو بالاشتراك مع حيوانات أخرى، مع حيوانات كان سيمزقها إرباً لو قابلها في الغابة، أو سيهرب من أمامها إذا استطاع. يرتدي الحيوان ملابس مضحكة على الرأس والظهر. بعض هذه الحيوانات يراها الإنسان تركب جيادا ترتدي كسوة جلدية واقية! وسيده، المروض، يفرقع بالسوط في الهواء! حسب الأحوال يَمتدح، أو يعاقِب. حسب ما يستحقه الحيوان. ولكن أمهر المروضين وأحذقهم لم يفكر يوماً في أن يكلف نمراً أو لبؤة بحمل آلة كمان. الدب فوق الدراجة – هذا أقصى ما تفتقت عنه مخيلة الإنسان». أعترف أن كل هذه الأفكار أصبحت تدور في ذهني عندما أحضر حفلا موسيقيا، وعندما أرى بالخصوص طفلا يعزف على آلة موسيقية. لقد ولت براءة النظرة الرومانسية للموسيقى، هذه الهبة الربانية، منذ أن شاهدت «الكونترباص»، ومنذ أن ترجمت «عازفة البيانو». وربما تكون هذه هي جناية الأدب على الموسيقى.

سمير جريس مترجم مصري.

كافة الاقتباسات الواردة في هذه المقالة من ترجمتي، وهي مأخوذة من:

أ ـ «الكونترباص»، باتريك زوسكيند، الطبعة الثانية، دار المدى، بغداد 2021

ب ـ «عازفة البيانو»، إلفريده يلينك، دار ميريت، القاهرة 2005