"الموت يضحك" لمحمد المخزنجي قنوطٌ مُفرط يتوارى خلف شخصياته الساخرة!
كتب الناقد المهم رجاء النقاش في مجلة "المصور"، عام ١٩٨٨، مقالا عن الكاتب المصري محمد المخزنجي، وذلك عندما أصدر مجموعته القصصية الثالثة "الموتُ يضحك"، قال فيه بأنّ المخزنجي: "يملكُ حسا شاعريا، شديد العمق والأصالة في تناوله للأحداث والشخصيات. عباراته قصيرة ومكثفة، ويمتلكُ قدرة على تأمل الواقع بمشاعره الخاصة وكأنّها نوع من الموسيقى يعزفها بحرارة وشجن".
لا يكتب المخزنجي القصص من مناظير عامّة، بل يقبض على القضايا الكبرى من عدسات ترقبُ دبيب الحياة والموت في صورٍ لانهائية الصغر.
فمن يقرأ هذه المجموعة، سيعثرُ على أولئك الناس الذين يحملون المعاناة في دواخلهم، إلا أنّ المفاجأة تكمنُ في أنّهم لا يدفعون الأذى عنهم، بل يتمرغون في قنوطهم، ويغمرهم شعور مُفرط باللاجدوى!
وكأنّ القصص تبدو مصداقا لقول سيوران: "كل فجر إضافي هو برهان على عبثية الاستمرار"، ولذا تسخرُ كائنات المخزنجي من فكرة الموت، تُقزمه، بل وتجعله شيئا تافها!
بيتٌ ينهار ونُكاتٌ تبرق:
كل شيء في هذه المجموعة القصصية -والتي أعيد نشرها مؤخراً في دار الشروق- يُجابه الموت حقيقة ومجازا، البشر والشجر والحيوان والبيوت والأفكار التي نعيشُ لأجلها. ورغم أنّ المخزنجي طبيب يتعامل مع الموت واقعيا بشكل مُكثف، إلا أنّه يُجرده في قصصه، يُعريه، يُعيد تأمله فنيا، يُجابه عبثيته بعبثية لا تقل ضراوة!
ففي شقة المساكن الشعبية المُتهاوية التي كانت تُثيرُ نكات ساكنيها وسخريتهم اللاذعة، لم يكن لشيء أن يتصدى للموت أكثر من السخرية. لا سيما عندما أيقن البطل في قصّة "الموت يضحك" أنّ البيت سينهار. رأى السواد الرمادي لليل الشتاء وهو يُطلُ بلا نجوم من سقف الحمام. كان هادئا، عاد بظهره نحو الصالة، فملأ الغبارُ البيت بمرح مُفاجيء. الغريب أنّ العائلة كانت في حراك وضحك وجلبة، يتبادلون السلام والتوديع ثمّ سمعوا طقطقة الجدران، رأوا تشرخ السقف، مربعات ومستطيلات واسعة يرسمها صدأ الحديد، آنذاك فكروا بنزول الشارع، فكروا في الملاذات والبطاطين، فكروا في البوتجاز والثلاجة والكتب والملابس على المشابك!
ثمّ كتموا ضحكاتهم!!
ما نخسره في انفجار تشرنوبيل:
أصرّ بطل قصّة "آخر تحية للورد" على البقاء في مدينة "كييف" القريبة جدا من مفاعل تشرنوبيل بعد الانفجار الذري المعروف والذي دفع معظم الأجانب للهرب من الآثار المُحتملة. لكن بطلنا قرر البقاء في "كييف" لإكمال بعثته التعليمية، بل أخذ يضحك، ليس لأنّه لا يُصدقُ وجود هذا الإشعاع، بل لمجرد الإحساس بأنّه لن يخسر شيئا، لقد طرح على نفسه عدّة سيناريوهات، فما هو أسوأ ما يمكن أن يحدث؟ هكذا يبدأ بشيء من اللامبالاة باستعراض سقف توقعاته: سيموت بالسرطان بعد ثلاث سنوات، جميل موت مبكر، أفضل من شر الأمرين: شيخوخة آتية مع فقر لا ريبة فيه. سيصابُ بالعُقم، حسنا، ولمَ ينجبُ أطفالا.. للفقر في بلاده التي لا يملكُ مجرد غرفة على سطح للسكن!
وكأنّ هذا الرجل يستعير جملة أبيقور الفلسفية: "الموت لا يعنينا، لأنّه ما دمنا موجودين، فالموت ليس حاضرًا، وإذا حضر الموت فنحن لم نعد موجودين". إضافة إلى ما تكشفه القصّة عن حياته المُتمرغة في الشقاء، حيثُ لا شقاء أشد وطأة منها، ولا حتى انفجار تشرنوبيل!
هُوية الجثة التي ستأكلها الفئران
وأنت تقرأ قصّة "الفئران" تكادُ تبصرُ الجثة المحمولة فوق عربة مُرتكزة على عجلتين ذات إطارين سوداوين في الخلف وقدمين حديديتين في الأمام. تكاد تتعرفُ على العجوزين، الرجل والمرأة اللذان يُجرانها برفقة شهادة وفاة، تحت شجر البانسيانا وقد أزهر مظلات بهيجة الحُمرة وسط دُكنة أشجار الكارفور، تسمعُ الحديث الذي دار بينهما، حديثٌ عن الجثة عن الموت وأسبابه. لم يكن يعدو الأمر أن يكون نتف حكايات. لقد بذلا جهدا ليعرفا شيئا عن الجثة، اسمها، ملّتها، حكايتها. وهكذا تغدو الجثة الهامدة مصدر فضولنا جميعا. لكن الملاءة التي كانت تنحسر عن جسدها الشاحب، بينما يحاول العجوزان تغطيتها خوفا من أن تطالها أسنان الفئران المُختبئة في الفجوات والشقوق والظلمة، مسألة تدفعنا لاضطراب عارم، لتعاطف مجنون. هكذا يُحول المخزنجي انتباهنا من سؤال بدهي حول هوية الجثة إلى سؤال أكثر عبثية إن كانت الفئران ستجرؤ على قضمها!
يتركنا المخزنجي في لقطة سينمائية مُكثفة، وكلما أعدنا قراءة النصّ كلما تكشف لنا شيئا خفيا في التفاصيل.
في المرايا الأكثر شحوبا:
ولا يكتفي المخزنجي بذلك، بل يُعري مخاوفنا العارمة من خسارة الأمّ.
الأمّ التي كان يُسميها الطفل وتسميه "نن عيني" في قصّة "حيث الناس والبيوت". كان الابن يسمعُ الأنين المروع الذي تُطلقه الأمّ المتألمة، فيظن أنّ الموت طائر جارح أسود، خطافٌ بشع لا قلب له. الموت هنا لا ينعزلُ بالأمّ المريضة، بل نجده كآفة مُعدية يُصيبُ كل شيء من حوله، فنراه منعكسا في المرايا الأشد شحوبا، في ملمح السرير البائس الذي ترقد عليه، والنسوة اللواتي أحطن بها، ذيول جلابيبهن السوداء المُتسخة التي تظهر من تحت السرير. تتحركُ الجلابيب ببطء بينما يبكي الطفل بلا صوت حتى لا يُكتشف، "فالهدهدة الموشاة بالشقة تجرحه".
ظن الولدُ بأنّ الله سيأخذ أمّه منه بسبب الذنوب التي اقترفها، فقرر أن يُحبّ كل الطعام ولا يعاف منه شيئا، وعاهد الله ألا يصيد العصافير وأن يحمل اللُقم التي يجدها في الطريق، وألا يجري وراء القطط و يضربها، و ألا يشرد في وقفة صلاة يوم الجمعة. ثمّ أخذ يلومُ نفسه، فتمنى أن يعمي الله بصره أو أن يخسر طرفا من أطرافه، ثمّ قرر أن يعُذب نفسه بنفسه. أن يحبس أنفاسه مُنتظرا الطائر ليأتي ويصعد به عاليا، مُذكرا إيانا - مع اختلاف المغزى- بقصّة فاوست الذي وقّع عقدا مع الشيطان، أن يبيع روحه مقابل المعرفة أو اللذة، بينما يبيعها الفتى هنا مقابل ألا تغيب "نن عينه" عنه، إننا نشعرُ بمشقة الولد الذي تمنى الموت، وكأنّ معنى الحياة انحسر كاملا بغيابها. فالموت "يجعلنا نُدركُ هشاشتنا" كما يقول هايدغر.
دجاجٌ وكلبان وغزالة
وليس وحده الإنسان من يُكابد فداحة الموت، ففي قصّة "ما بال هذا الأنين" يتحدثُ عن كلبين مذبوحين، الجزء النازف من جسديهما المتصلين ممضوغا حتى البطن وأعلى الأفخاذ. دمهما يُلطخ الأرض وعتبة الباب والأجزاء السفلى من الحيطان. كانا يئنّان وجسداهما في ارتجاف متواصل، وقد تساقط اللحم المفري المُدمم بمجرد أن لمسهما، فتراجع بظهره مُقرفصا على أول درجات السلم.
في قصّة "دم الغزال"، تظهرُ غزالةٌ تشبه صورة حلمية، غزالة تطير أو ربما تسبحُ فوق سطح من رمال حريرية متماوجة. تتضامُ قوائمها في نقطة واحدة، يتقوس أعلى جسمها، فتغدو قوسا ساحرة مشدودة، كمن يصوبُ كتلة جسده نحو السماء. تلطمُ الغزالة جسد الصياد، تلطمه بطرفي قائمتيها، مُرتجفة من موت مُحتم. يغدو الصياد في توق لأن ينظر في عينيها وهي مغلوبة وأسيرة، لكنها تفضلُ أن تحشر نفسها في فوهة لم تحسب حساب سعار ذئابها. كان أول ما رأته الغزالة وميض العيون الذئبية في العتمة وبياض الأنياب المُتحفزة. ينْشدُ وينتفضُ جسد الغزالة تبعا لتأجج السعار أو خفوته. لم يعرف الصياد ما حدث هنالك إلا عندما تسللت دماء الغزالة على أرضية الكهف.
ويموت الدجاج أيضا بصورة مرعبة في قصة "هذه المزرعة". رغم أنّه يأكلُ بشهية خُرافية، ولا ينام لأسابيع إذ تُبقيها المصابيح الحارة التي لا تنطفئ ووخز حراب الرجال الأقزام يقظة طوال الوقت، تمدُّ رقابها باتجاه خطوط العلف. تنقر تنقر ثم تعطش، تعطش فتشرب، ثمّ ترفع رؤوسها لكي يعشيها الضوء، فتعود تُطأطئ وتنقر بلا توقف ولا إبطاء حتى في لحظات لفظها للزَرَق.
لكن المفاجأة عندما فتح أحدهم باب القفص، فتح قفص اثنين ثلاثة، لكن لم تقفز دجاجة خارجة من قفصها.
فالحيوانات الثلاثة بين من اتخذ موقف المقاومة أو التراخي والاستسلام، ذهبوا جميعا إلى نهاية واحدة.. موجعة!
اللحظة التي تسبقُ الإجهاش بالبكاء
يأخذ الموت أبعادا أخرى في قصّة "الأسوار" والتي تحكي عن قصة خمسة أبطال، تُحكى عنهم حكايات بلغت حد الخرافة. تكثفت حولهم الهالة بأنّهم كائنات أعلى مرتبة من البشر العاديين. ولكن بعد مدة من الزمن لم تعد تلوح أي بارقة أمل في خروجهم من السجن. كان الناس يأتون جماعات من أجل الأبطال الخمسة ويفشل عساكر السور في ردهم أو تخويفهم، لكن طول الجرح يُغري بالنسيان. أخذت الوفود الآتية لرؤية الخمسة تقلُ رويدا رويدا ولم يأتي زائرٌ واحد، وكلما مرّت الشهور يتحول الواحد من الخمسة إلى مجرد مسجون، وتتحول القضية الكبرى التي سُجنوا من أجلها إلى مجرد ذكرى! وهذا أشد أنواع الموت والخسارات!
فتظهر على الخمسة سمات الحزن، لكنهم يستعيدون وهجهم لحظة مرور الأطفال في جماعة كبيرة مُتقاربة، فعندما تلتقي أعين الأطفال يتنادون مُخبرين بعضهم: "ناس مسجونين" ثم يسكتون. فيتأمل السجناء الخمسة رقة الإشفاق الطفولي.
يريد الأطفال معرفة من سيُنزل يده أولا فيخسر، ولذا يستمرون في التلويح، لكن المسجونين الخمسة لا يُنزلون أياديهم بل يستمرون في التلويح حتى يخلو المكان منهم، فيغدو موحشا كاللحظة التي تسبقُ الاجهاش بالبكاء، ومع ذلك كان الخمسة يصعدون جميعا درجات السلم عند الظهيرة وينتظرون الأطفال في صمت. وعندما يأتي المأمور ويأمرهم بأن يهبطوا إلى العنبر، يتكلئون وكأنّهم ينتزعون أقدامهم الملتصقة انتزاعا يُؤلم.
ولعلنا لا نجد موتا بيولوجيا هنا، لكن موت قضية الخمسة، موت الذكرى، لا يقل إيلاما، إلا أنّ معجزة رؤية الصغار تجعلهم يستعيدون المعنى.
رؤية فلسفية تضجُّ بالحزن
كل نصّ من نصوص المجموعة هو معمارٌ مُكثف، لقطة سينمائية لعين مُدربة تُدركُ مآربها جيدا. خفةُ الكائنات العذبة التي تُخفي في مياهها الباطنية ثقل المقصد والتأويل. ذلك الذي لا يتكشفُ من قراءة أولى. فهذه المجموعة من ذلك النوع الذي وصفه موبسان: "تتركُ في القارئ انطباعًا عميقًا، حتى وإن لم نعرف السبب".
ولعلّي استحضر هنا أيضا وصف النقاش له: "يمتلكُ صوتا مليئا بالشاعرية والحزن والرؤية الفلسفية والإنسانية البعيدة كل البعد عن السطحية، كما أنّه لا يُكرر أو يُقلد، بل يُحاول أن تكون أعماله الفنية صورة حية صادقة بإحساسه الخاص وتجاربه المستقلة".
•هدى حمد روائية عمانية
