No Image
عمان الثقافي

المدينة ستتبعك: الكتابة رحلة وتخلٍ

29 يونيو 2022
29 يونيو 2022

الكتابة بين الرحيل والاستقرار:

إن أول ما أفقده عند المرور بنوبة هلع (Panic attacks) هو الإحساس بوجود الواقع، قد يفسر هذا حالة التفجع التي تصيبني، والأسئلة التي أبدأ بطرحها على من يكون حولي، هل هنالك عالم بالفعل؟ هل أنا بشرية؟ ما الذي يتطلبه ذلك؟ أن أتحرك؟ أن أوجد في مكان ما؟ أين أنا إذن؟

لطالما عنت لي الكتابة، إذن، نقيض الذعر، إنها حالة من الوصول المستمر للأشياء، ما تقوله سيلفيا بلاث عن كتابة الرواية مثلاً، إنها تستطيع أن تلمس بها فرشاة الأسنان الخاصة بها. إن هذا هو ما يخلّد الحياة ويبعثها في الأيام العادية، إن هذا الاضطراب الذي يشبه «الذهاب/الغياب» يصفه الطبيب وعالم النفس رادولف إم نيس بأنه جرس تعوّد أن ينبهنا في الغابة باقتراب مصدر للخطر، مما يجعل فرصنا لإتمام الحياة أكثر منها بدونه.

يمكن أن أقول إن الكتابة بالنسبة لي هي النظر في العالم لا مجرد الشعور بانعكاسه عليّ.

بدوره يكتب سعد الصويان عن الكتابة منذ هوميروس الذي اعتبر أن الكلمات مجنحة؛ لأنها تطير في الهواء حال التلفظ بها، فيما الكتابة جاءت لتقص أجنحة الكلمات ومنعها من الطيران، وهنا بدأ الإنسان لأول مرة بربط اللغة مع ظهور الكتابة بحاسة البصر لا السمع. وأظن بأن هذا شكل من الثبات الذي تمنحني إياه الكتابة، إنها مُستقر.

وعلى الرغم من أنها كذلك إلا أن أكثر ما تُعنى به هو الرحيل، إن هذا يجعلها ألوهية على نحو ما، يذكر دولوز وكلير بارني في محاوراتهما «الموضوع الأكثر سموًا للأدب حسب لورانس هو الرحيل، الرحيل، والهروب، اختراق الأفق والدخول في حياة أخرى.. هكذا وجد ميلفيل نفسه وسط المحيط الهادئ، لقد تخطى بالفعل خط الأفق». ولا يعني الهروب هنا التخاذل والتخلي عن المسؤوليات أو الخروج من العالم «سواء كان صوفيًا أو فنيًا» أو السفر ولا حتى التحرك بل هو تهريب لنسق وصناعة لخريطة أكبر تكتشف العالم «كل شيء في هذا الأدب انطلاقة وصيرورة ومرور وقفز وقوة خارجة وعلاقة مع الخارج». يذكران في المحاورات عن تويتبي: «الرحّل بالمعنى الدقيق وبالمعنى الجغرافي ليسوا بمهاجرين ولا بمسافرين، وإنما هم على العكس من ذلك أولئك الذين لا يتحركون، أولئك الذين يتشبثون بالسهب، اللامتحركون ذوو الخطى الكبيرة، السائرون فوق خط هروبي ملازم للمكان الواحد، هم المبتكرون للأسلحة الجديدة.»

يكتب جو فاسلر عن كتابة الأدب: «الكتابة وسيلة لقطع مؤقت في الروابط التي تجعلنا جزءًا من أنظمة الإنتاج الاستنزافية المزعجة». يمكنني أن أقول إنها إذن فضاء وقد كتب كريستيان دوبورتزاك قائلاً إن الناس نسوا الفضاء مع انشغالهم بالنهم، إذ إن فهم الفضاء يتطلب إدراكا للفراغ.

كان دوبورتزاك قد عثر على مفهوم الفراغ في «الطاو للاوتسو» الذي قال: «منزلي ليس هو الأرض ليس هو الجدران ليس هو السقف، هو الفراغ بين الأشياء، هنا أسكن» إنه فراغ على حسب تعبير المعماري الآخر فرانسوا جوليان لا يوجد فيه شيء من العدم. كان ذلك في سياق حديث دوبورتزاك وجوليان عن العمارة، لكن ألم يقل الشاعر الفلسطيني حسين البرغوثي عن العمارة بأنها موسيقى متجمدة. إنها كتابة مقصوصة الأجنحة إذن ما دمنا قادرين على النظر فيها طويلاً وإدراكها. إنه الفراغ نفسه الذي قصدته هيرتا مولر في الملك ينحني ليقتل «ربما تشبه الكتابة التكلم من الخارج، أما من الداخل، فإن للكتابة علاقة بالوحدانية. فالجمل المكتوبة تتصرف بالنسبة للقضايا المعيشة مثلما يتصرف الصمت حيال الكلام على الأغلب. فحين أضع شيئا مُعيشا في الجمل التي أكتبها فإنني أبدأ انتقالا وهميًا، إذ تتغلف أحشاء الواقع بكلمات وتتعلم كيف تمشي ثم تنسحب أثناء انتقالها إلى مكان كان حتى تلك اللحظة مجهولاً، ولكن نبقى في صورة الانتقال، فإن وضعي في حالة الكتابة يشبه حالة انتقال السرير إلى غابة والكرسي إلى تفاحة ومشي الشارع إلى إصبع. ولكننا نستطيع عكس الحالة أيضًا، كأن تصبح محفظة الكتف أكبر من المدينة وبياض العين أكبر من الحائط وساعة اليد أكبر من القمر. وحين تشهد شيئًا يصير فإنك تشهد أمكنة، سماءً مفتوحة أو مغلقة فوق رأسك والأرض، أسفلتاً أو أرضية غرفة تحت قدميك.» فلنلاحظ أننا مازلنا نتحدث عن الكتابة بوصفها الترحال والانتقال إلا أنها تستقر في مكان ما، حتى بين الأصابع للمس «النبيذ المرقرق» هناك على حد تعبير الشاعر العراقي سعدي يوسف في قصيدة له بعنوان امرأة، يصف فيها اللقاء بها بعد عشرين عامًا وملامسة ما بين أصابعها تحديدًا.

في ذلك الترحال ننفتح على التخلي، تقول مارجريت دوراس في كتابها «عن الكتابة»: الكتابة والمكتوب، هما دائمًا باب مفتوح صوب التخلّي» التخلي الذي يسميه بعض الكتاب عجز اللغة، والذي يوقع الكتاب في ورطة الابتذال، أو هذا ما يسميه الكاتب أحمد الحقيل الطريقة التي يحدث بها الأدب الرديء، الثقة بالانطباعات الشفهية أكثر من اللازم، فتحويل مشاعر الانسان ورؤاه لوسيط آخر كصفحة الكتابة قد تظهرها مختلفة. العواطف في كل مكان ولا تصنع أدباً عظيماً ما يجعله كذلك هو السياق الذي تضع فيه تلك العواطف. «فأنت لا تقرأ لكنك تعيش، أنت لا تفكر بل تُحس» أنها تجربة البدو الرحل كما كتبت عنهم أولغا توكارتشوك الحاصلة على نوبل للأدب في عملها الأثير «رحالة»: «إن الشعوب المقيمة، المزارعين، يفضلون مباهج الزمن الدائري، الذي فيه كل غرض وحدث يجب أن يعود إلى مبتدأه، يلتف ثانية على نفسه بصورة جنينية ويكرر عملية البلوغ والموت. لكن البدو والتجار، عندما كانوا ينطلقون في رحلاتهم، كانوا بحاجة إلى ابتداع زمن يلائمهم، زمن يستجيب على نحو أفضل لاحتياجات أسفارهم. ذلك الزمن هو زمن خطي، عمليّ أكثر لأنه قادر على قياس التقدم صوب هدف أو وجهة، يزداد بنسب مئوية. كل لحظة متفردة؛ لا يمكن لأي لحظة أن تتكرر أبدا. هذه الفكرة تفضل المجازفة، عيش الحياة إلى أقصاها، اقتناص اليوم. مع ذلك فهو ابتكار مریر: عندما يكون التغير عبر الزمن غير قابل للانعكاس، يصبح الفقد والحزن أمورًا يومية. لهذا السبب لن تسمعهم قط ينطقون بكلمة «عقیم» أو «فارغ».

هل نحب البلاد عندما نكتب؟

بعد نوبة الذعر تلك كنتُ أنتظر الترام الذي سيوصلني إلى المحطة الرئيسية لأستقل القطار السريع إلى برلين، خططتُ لهذه الرحلة سريعاً، لأنني شعرتُ برغبة في أن أكون فاعلة. أن تفعل شيئًا ما لكي يلهيك فقط، عندما أكون في مسقط عادة ما أخرج في سيارتي وأقودها في الشارع السريع دون وجهة محددة باتجاه الباطنة، ودعتُ نوف عند منضدة الانتظار، لكنها عادت بعد أربع دقائق وهي تحمل نسخة من كتاب رسالة إلى الوالد بالألمانية، في طبعة صغيرة مذهلة، تحتوي في الغلاف الداخلي على صورة من كتابة كافكا بخط يده ورغم أنها بالألمانية ألا أننا فورًا استعدنا النبرة نفسها التي غمرتنا عندما قرأنا العمل مترجمًا للعربية. قررتُ بعدها أن أعدل عن الذهاب إلى برلين، وأن أكتفي بارتياد مقهى في وسط المدينة.

اخطط لزيارة براغ هذا الصيف خصوصًا بعد قراءة سيرة السنوات الأولى عن كافكا التي كتبها راينر شتاخ، إذ وصف المدينة وصراعاتها التاريخية والتفاعلات التي حدثت فيها وإسهامها فيما كتبه كافكا. حاول كافكا بحسب شتاخ التعامل أدبيًا مع عواقب تربيته، التي كان لها أضرار غير قابلة للإصلاح في حياته ثم ببساطة فقد اهتمامه بذلك. إلا أن القراء اعتبروا رسالة إلى الوالد المصدر الأهم لسيرته الذاتية.

عانى كافكا مع اللغة الألمانية إذ بدا له أنها عاجزة عن التعبير عن كينونة الأم اليهودية والأب اليهودي خلافًا للغة اليهودية. إنها دائمًا تؤدي لتصورات خاطئة كما آمن. أما عن أسلوبه الذي خلص له راينر شتاخ فهو أنه اهتم بكتابة يومياته لأنه أدرك أنها تعلمه شيئا سيؤدي للأدب وكان فيها «أكثر مرحًا، لا يصف الأشياء بأسلوب لاه على السطح ولا يقدم تفاصيل لا حصر لها. الاهتمام الدافئ بالبشر شرط لا غنى عنه ولكنه لا يعني بالضرورة جني القبول» وكانت هذه الخطوة مطلوبة بالفعل «لأن الاستعارات المحورية التي ستقوم عليها أعماله الكبرى، كانت تبلورت أمامه، ولكنه لم ينجح بعد في تشكيلها أدبيًا دون «أسمع نداء في أذني، ياليتك تأتين أيتها الحكمة الخفية.» كانت شخصياته الأولى التي يرسمها باهتة ذلك أنها هوائية لم تستقر في الحياة بسبب أب حيوي أو سلطوي مثلًا، كانت تحضر في رأسه كصور لكنه لا يستطيع تجسيدها أدبيًا ولهذا علاقة على نحو ما بعلاقة كافكا نفسه بأبيه.

أليس ذلك ساحرًا؟ أعني أن أسلوب الكتابة هو معطى لا أريد أن أقول إنه نهائي لحياتنا الشخصية. لا موضوع الكتابة فحسب بل أسلوبها أيضًا. أتذكر الآن إيمان مرسال في لقاء لها مع بلال فضل في برنامج عصير الكتب عندما قالت: «لا أملك قصة» شعرتُ بأنه قُبض عليّ في تلك اللحظة، إذ أنه ورغم علاقتي بالأدب والكتابة، إلا أنني أيضًا لا أشعر بقدرتي على أن أكتب قصةً محكمةً، هذا ما يجعلني مثلاً أميل حتى الآن للكتابة العابرة للأنواع. طالبة من الزمن أن يهديني تلك الحكمة الخفية لتحويل الصور التي أراها لقصص تبدأ وتنتهي عند نقاط معينة وواضحة.

ربما يكون هذا هو المكان المناسب للكتابة عن العلاقة بين المدينة والكتابة، براغ شكلت كافكا، كما صنعت برلين فالتر بينامين ونيو آراك فيليب روث، لقد كانوا محكومين بهذه العلاقة، أما قسطنطين كفافيس فيقول في قصيدته التي أحبها كثيرًا «آلمدينة» بترجمة رفعت سلام، وهي طبعة يصعب الحصول عليها اليوم للأسف:

«لن تجد أماكن أخرى وبحاراً أخرى

فالمدينة ستتبعك.

وستمشي في نفس الشوارع وفي نفس المناطق تشيخ

وفي نفس هذه البيوت ترقب نفسك وأنت تشيب.

وستنتهي دائمًا إلى هذه المدينة

فلا تتطلع إلى شيء في مكان آخر:

لا سفينة لك، لا طريق.

فطالما خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير،

فقد دمرتها في كل مكان من العالم»

هذا حقيقي بصورة مؤلمة، أعني هذه العلاقة المتلبسة بالمكان، حتى أولئك الذين يمقتون أماكنهم يبقون سجناء لها مهما ابتعدوا. ليس أبلغ من ذلك أن نطالع الأدب العماني ونقرأ حضور القرية فيه، أو الصورة المشوشة والمرتبكة التي تظهر بها مسقط وقد كتبت عن هذا في وقت سابق. فلنتأمل هذا المثال إذن، قرأتُ رواية بالفارسية هذا العام هي «إشراقة شجرة البرقوق الخضراء» للإيرانية شكوفة آذر، ورغم أنها تتغنى في فصول الكتاب المختلفة بواحد من أهم شعراء الفارسية سهراب سبهري، وتحاول إثراء النص بالخصوصية الثقافية القادمة من إيران إبّان الثورة وبعدها، إلا أنها تقع في كل مرة أسيرة كراهيتها لهذا المكان، لأنها تفكر فيما يريده أن يقرؤه الأجنبي عن بلادها، فهي تبذل جهدًا كبيرًا في انتقاء ما هو جميل، لكن بلادنا ليست ما هو لافت للاهتمام ولامع، بل ما هو مطمور، إن بلادنا التي نحب هي بلادنا التي نكره أيضًا. كم كاتب سيتعلم هذا الدرس القاسي بصعوبة؟

ليس أبلغ من ذلك اعتبار سيرة مدينة التي كتبها عبدالرحمن منيف، رغم اعترافه أنها شخصية وذاتية جداً، سرداً عن عَمّان يمكن النظر في قيمته التاريخية، تماماً مثلما لا يمكن تجاهل كتابته لمدن الملح على نهر السين، إذ أن هذا يعني شيئاً ما أليس كذلك؟ انتزعت من منيف جنسيته، لكن من نقرأ لنتجادل عن تاريخ شبه الجزيرة العربية مع اكتشاف النفط؟ أظن بأن بعض الكتاب يفهمون هذا بطريقة ساذجة، أعني إلزام أن يكون لهم علاقة بالمكان الذي نشأوا فيه، يقول غالب هلسا في مقدمة ترجمته لكتاب «جماليات المكان» لجاستون باشلار، إن الأدب العالمي ينطلق من الأدب الخاص جدًا. إنه أدب عن مكان معين أو قبيلة معينة أو إثنية معينة أو دين معين مثلاً، إلا أنه قادر على التقاطع مع فؤاد أي إنسان في أي مكان من العالم. لكن هذا كله مضادٌ للانتقاء، فالانتقاء ظلامية هنا، إنه إعتام على جوهر الشيء، تناقضاته وسحره الخاص.

الكتابة إذن حتى وهي فعل اختفاء وتلاش لا فعل ظهور وفعالية فهي تشبه بالضبط ما يفعله المرء عندما يقرر الهرب عن جماعته لكيلا يصير محور حديثهم، مما يجعل اهتمامه بهذا الهرب مثارًا للفت انتباههم ولظهوره بينهم. إنه يجذبهم بهذه الطريقة. الكتابة مهما بدت مجردة وبعيدة إلا أنها ليست بابًا واسعًا للتأويل فحسب بلا مساحة خلاء تطل على الفضيحة بشكل مباشر ودون حاجة لارتداء نظارات، يكفي أن تنظر وتصغي للهمس الموجود في الفراغ بين كل كلمة وأخرى. إنها تاريخي وعائلتي ومدينتي وحتى ما فاتني من هذه الأشياء.

أمل السعيدي كاتبة عمانية