No Image
عمان الثقافي

الفلاسفة والموسيقى

24 أغسطس 2022
24 أغسطس 2022

لا أحد منّا بوسعه التشكيك بأهمية الموسيقى في حياة الشعوب وصناعة المخيال وتهذيب النفوس وانسجامها مع نواميس الكون. ولقد ذهبت بعض الديانات إلى تقديسها، واعتبرها بعض الفلاسفة اللغة الكونية المطلقة أو هي روح العالم، وهالة الأمكنة وطقسها الخاصّ. لكلّ مكان موسيقاه الخاصّة: للجنائز تراتيلها وللكنائس أناشيدها وللجيوش إيقاعاتها العسكرية، وللشعوب موسيقى وأغنيات أودعوا فيها أحلامهم وأوهامهم وملاحمهم ومآسيهم أيضا. ولقد صنّفها الفلاسفة ضمن قائمة العلوم الأربعة الأساسية التي هي علم الفلك والهندسة والأريثميتيقا والموسيقى ودام هذا الاعتبار طيلة العصور القديمة والعصر الوسيط. أمّا عن سقراط أب الفلسفة اليونانية فلقد قضّى أيّامه الأخيرة وهو بصدد إنتاج الأغنيات وذلك بتحويل قصص إيزوب الكاتب اليوناني القديم (ق.7.ق.م)، الذي نسب إليه بكونه أوّل من اخترع فنّ القصص، إلى أغان وأناشيد. وكان يقول لأتباعه أنّه قد رأى حلما طُلب منه فيه إنتاج الموسيقى. أمّا أورفيوس الموسيقار اليوناني الأسطوري فلقد كانت صوت قيثارته يغوي أشدّ الحيوانات افتراسا ويروّضها، وتروي الأساطير اليونانية أيضا عن أنفيون ابن زوس والأخ التوأم لزيتوس، أنّه قد شيّد سور طيبة باستعماله للموسيقى التي كانت تحرّك الحجر. ويمكن الحديث أيضا عن ضرب من الطابع المقدّس للموسيقى بحيث قدّسها الهندوس، وجعلها القديس أغسطين الطريق نحو الله، ومثّلت بالنسبة للمتصوّفة مقاما للاتحاد بالذات الإلهية أيضا. ولقد اعتبرها أفلاطون وسيلة لتربية المواطن داخل المدينة العادلة، واعتبرها الفارابي لغة رمزية لنقل الأخيلة من عقل إلى آخر. أمّا شوبنهاور فيذهب إلى أنّ الموسيقى هي الوسيلة الوحيدة للتحرّر من عالم قائم على كونية الألم، وأنّها يمكنها أن تستمرّ حتى لو اندثر العالم. في حين يعتبر نيتشه أنّ «الحياة بلا موسيقى خطأ ومشقة ومنفى»..

في هذا المقال يتعلّق الأمر بالبحث في علاقة الفلاسفة بالموسيقى ويمكننا تبعا لذلك التمييز بين ثلاثة مقاربات كبرى: الأولى تربط بين الموسيقى والعلوم النظرية وخاصة الرياضيات، وتعتبر أنّ الموسيقى هي في علاقة بانسجام قوى النفس مع نواميس الكون. وهذه المقاربة قد سادت في الفلسفة منذ أفلاطون إلى حدود الفلسفة العربية التي استأنفت على نحو ما هذا البرادايم. أمّا المقاربة الثانية فتظهر خاصة منذ الرومانسية الألمانية وتجد صياغتها القصوى مع شوبنهاور ومع نيتشه على نحو مغاير. وهي تحرّر الموسيقى من قبضة العقل وتجعلها التعبيرة الأصلية عن الحقائق الباطنة واللغة المطلقة للفلسفة.. أمّا عن المقاربة الثالثة فنجدها خاصة عند فيلسوف مدرسة فرنكفورت ثيودور أدرنو الذي اشتغل على الموسيقى ضمن استطيقا القبح بحيث تحوّل الفنّ في المجتمعات الرأسمالية إلى بضاعة والموسيقى إلى لغة الوعي التعيس لعالم مغترب فقد فيه الفنّ مكانه البديهي. إنّ تاريخ العلاقة بين الفلسفة والموسيقى قد أنتج في الحقيقة ثلاثة براديغمات ابستمولوجية: الأوّل منذ أفلاطون إلى الفارابي وهو براديغم نظري وتربوي. والثاني منذ الرومانسية الألمانية وهو براديغم يقوم على مفهوم العبقرية وعلى الإعلاء من قيمة الفنّ من أجل تحريره من سلطة العقل بمنحه اللغة الكونية المطلقة. والثالث براديغم نقدي استطيقي يجد في الجماليات السالبة لأدرنو عبارته الأساسية ويهدف إلى نقد الموسيقى التي تجمّل المجتمعات الرأسمالية القائمة على الهيمنة والصناعة الثقافية، في أفق تحرير الفنّ من حضارة البضاعة المطلقة.

إنّ الغرض من هذا المقال هو التأريخ للعلاقة بين الفلاسفة والموسيقى من خلال الإشكاليات التالية: كيف يمكن للموسيقى أن تربّي المواطن على قيم المدينة الفاضلة؟ وأيّ نوع من الموسيقى كفيل بإنقاذ جمهورية الفلاسفة من «أكاذيب» الفنّانين؟ أيّة قيمة للموسيقى في صناعة العبقرية الرومانسية؟ وهل بوسع الفلاسفة تحرير الموسيقى من ثقافة البضاعة اليوم؟

1) أفلاطون والموسيقى الجيّدة : هرميونيا الوجود

تكتسي الموسيقى لدى أفلاطون أهمية بيداغوجية أساسية داخل مشروعه التربوي والسياسي الذي أسّسته محاورة الجمهورية كأهمّ مشروع فلسفي طوباوي للمدينة العادلة. بحيث يتعلّق الأمر على امتداد عشرة كتب صغرى هي خطاطة الجمهورية، بتنضيد نظرية فلسفية حول كيفية تربية المواطن الفاضل من أجل مدينة فاضلة. ويكون السؤال: ما هي الفنون والمهارات والعلوم التي ينبغي تعليمها لحرّاس المدينة الفلسفية القائمة على تخييل فكري قوامه تهذيب النفوس وانسجامها بتربيتها على محبّة الحق والخير والجمال؟ للإجابة عن هذا السؤال يؤسس أفلاطون مشروعا متكاملا تطلّب انسجاما بين نظرية في المعرفة تجعل الرياضيات والفلسفة أسمى العلوم ونظرية في الوجود تدعو إلى تفضيل المعقول على المحسوس ونظرية في الفنون يفضّل فيها موسيقى أبولون على عربدة حشود ديونيسوس.

يتعلّق الأمر تحديدا بالكتاب الثالث من محاورة الجمهورية، حيث يعرض أفلاطون الملامح الأساسية لفلسفة الفنّ لديه، والتي تتمثّل في بسط موقفه من الشعراء التراجيديين ومن صنّاع القصص عامّة. وعلينا التنبيه هنا إلى أنّ عبارة mousiké اليونانية إنّما تشمل كلّ مجال الفنون ولا تقتصر على الموسيقى بالمعنى الحديث. وفي الحقيقة كلّ الحكاية تتعلق بمصير هوميروس وأتباعه داخل مشروع جمهورية الفلاسفة. والقرار كان واضحا منذ الكتاب الثالث: أي ضرورة «تطهير المدينة» من فنّ المحاكاة. وهنا يتمّ التمييز بين نوعين من الفنّ عموما: فنّ يقوم على البكائيات والتذمّر والاسترخاء وكسل الحواسّ، وهو ما يسلكه شعراء التراجيديا، وفنّ يحثّ على بساطة النفس وانسجامها وشجاعتها وهو الفنّ الصالح لتربية المواطن الفاضل داخل مشروع المدينة الفاضلة. وتبعا لذلك يتمّ افتراع مكانة للموسيقى داخل فلسفة الفنّ الأفلاطونية. وهو أمر يتمّ انطلاقا من التمييز بين موسيقى جيّدة وموسيقى رديئة. الأولى هي موسيقى «البساطة الحقيقية لروح ينسجم فيها الخير مع الجمال»، أمّا الرديئة وهي التي يقصيها أفلاطون، فهي تلك التي تنتج نفوسا رخوة وجبانة ودائمة التذمّر، أو نفوسا هاذية، منتشية، هائمة ومعربدة معا، فأفلاطون يستهجن أصوات البوق والمزمار وآلات النفخ، ولا يحبّ موسيقى إله الرعاة مارسياس مخترع الأناشيد الدينية، كما يستهجن موسيقى مواكب ديونيزوس الهاذية والمعربدة.. أمّا الموسيقى الجيّدة فهي موسيقى أبولون التي «تعبّر عن حياة منتظمة وشجاعة». والنتيجة هي ضرورة إقصاء موسيقى السفالة والوقاحة والجنون، وتربية المواطن اليوناني على الموسيقى التي تنسجم مع صفات النفس وتحثّها على التحرّر من عالم الشهوات الحسية والغواية. وينتهي بهذا إلى قرارين الأوّل هو أنّ «التربية الموسيقية هي في أنبل المقامات لأنّ الإيقاع والانسجام يملكان القدرة على الولوج إلى النفس والتأثير فيها على نحو عميق». والقرار الثاني: «الشعراء هم وحدهم من ينبغي مراقبتهم وإجبارهم على ألاّ ينتجوا غير صورة الصفات الخيّرة». وهذا القرار الأخير سيتحوّل في آخر محاورة الجمهورية إلى قرار أخطر هو طرد هوميروس وأتباعه من المدينة. بحيث يعلن أفلاطون: «.. ألاّ نقبل بأي حال الشعر القائم على المحاكاة..» وتبعا له يتمّ إنهاء دور هوميروس وتدمير ذاك الصنم الكبير الذي صمّم للإغريق دياناتهم ومخيّلتهم. يقول أفلاطون في ضرب من الأسف: «بالرغم من احترامي لهوميروس منذ الطفولة، فإنّه لا ينبغي أن نولي لشخص ما اهتماما أكثر من الحقيقة».

صفوة القول إنّ الموسيقى عند أفلاطون بقيت في مستوى الوظيفة التربوية والنفسية، وانحصرت ضمن دائرة رقابة الفيلسوف ووصايته على الشعراء وصنّاع التخييل عامّة. وتبعا لذلك تمّ تأسيس منزلة الموسيقى تحت رقابة تشريع النموذج النظري الذي أسّس له فيثاغورس كأوّل من اعتبر أنّ الموسيقى هي ضرب من التناغم بين الأعداد والنفوس والأفلاك معا. وهو نموذج سيتمّ استئنافه من طرف الفلسفة العربية مع الكندي الذي ربط الموسيقى بالهندسة والحساب، والفارابي الذي قسّم الأثر النفسي للموسيقى إلى «لذيذ وانفعالي وتخييلي»، وابن سينا الذي اعتبر أنّ «الأثر النفسي هو النظام» وأنّ «الموسيقى هي التأليف والإيقاعات». لكن تحرير الموسيقى من هذه المقاربات التقليدية للفلسفة التي اعتقدت طويلا بقدرتها على الوصاية على مجال التشريع لأنظمة التخييل، لن يدرك عبارته الأساسية إلاّ انطلاقا من الرومانسية الألمانية ومن شوبنهاور ونيتشه بخاصّة.

2) نيتشه وروح الموسيقى: في بهجة التراجيديا

انطلاقا من القرن الثامن عشر، يظهر براديغم جديد للموسيقى سمّي بالموسيقى الرومنسية باعتباره تعبيرا عن المشاعر والأحاسيس بعيدا عن لغة العقل وقواعده. وتجلى ذلك في الموسيقى السمفونية مع موزارت وبيتهوفن... وهذا النوع الرومنسي من الموسيقى قد جعل من الفلاسفة الرومنسيين يعيدون إلى الموسيقى نبلها ورفعتها ويجعلونها بمثابة اللغة التي تتجاوز مفاهيم العقل بوصفها التعبيرة القصوى عن الذات الباطنة وعن روح العالم. ويأتي هذا التمجيد للفنّ في سياق ما يسمّيه هيغل «ميثولوجيا العقل» أو «ديانة الفنّ» حيث يكون الفنّ وفق عبارة لشيلنغ هو «الأرغانون الحقيقي والوحيد للفلسفة». وفي هذا الأفق الرومنسي يواصل شوبنهاور التنظير للفنّ بوصفه الوسيلة الوحيدة للخلاص من عالم كلّه ألم وضجر. أمّا عن الموسيقى فتبدو هي الفنّ النموذجي لتحريرنا من عالم الشرور، فهي «لغة الكون المطلقة» وهي تقول حقيقة الأشياء أكثر ممّا تقوله الكلمات، وأكثر من ذلك تبدو الموسيقى عند شوبنهاور هي الفلسفة ذاتها. غير أنّ عيب شوبنهاور هو عدميّته التي جعلته يدافع عن شكل محدّد من الموسيقى هي الموسيقى الدينية أو موسيقى التصوّف، وذلك تبعا لتشاؤميتة العميقة التي ترى أن لا خير في إرادة الحياة، ما دامت الحياة مليئة بالمعاناة والبؤس. ضدّ تشاؤمية شوبنهاور، يقترح نيتشه إذا «البهجة التراجيدية» التي تجعل الإنسان قادرا على التصالح مع آلامه وإثبات الحياة كما هي ومحبّة القدر. وهنا حقيق بنا الانطلاق من كتابه الأوّل الذي كتبه من أجل «ولادة التراجيديا في روح الموسيقى» وهو كتاب مولد التراجيديا بتارخ 1872، كأوّل كتبه التي وقّع فيها فلسفة جمالية مغايرة للاستطيقا الحديثة. وتقوم هذه الفلسفة على تعويض الثنائي: ذات -موضوع بثنائية أبولون- ديونيزوس، وعلى جعل «الفنّ هو المهمّة العليا والنشاط الميتافيزيقي الحقيقي للحياة» وعلى اعتبار «العالم ظاهرة استطيقية». في هذا السياق يتمّ تنضيد مكانة مهمّة للموسيقى لأنّ «الحياة بلا موسيقى هي بكلّ بساطة خطأ ومشقّة ومنفى». وهنا نشير إلى تمييز فلسفي جوهري يجريه نيتشه بين الإنسان النظري والإنسان التراجيدي. الأوّل نموذجه سقراط الذي أقام في تأويل نيتشه عداوة بين العقل والحياة بإعلائه من قيمة المعقول وتحقيره للمحسوس. والثاني نموذجه هيرقليطس في الفلسفة وديونيزوس في الموسيقى. يقول نيتشه رافضا فلسفة سقراط المضادة لغرائز الإغريق: «أجهد نفسي كي أفهم منبع حماقة المعادلة السقراطية: عقل = حقيقة = سعادة، فأجد أنّها أغرب معادلة جمّعت ضدّها كلّ غرائز الإغريق القدامى».

وتبعا لذلك فإنّ فلسفة نيتشه تقلب الأفلاطونية وتعيد إلى ديونيزوس مكانته داخل العالم، وتعيد الشعراء إلى المدينة. لقد كان نيتشه نفسه موسيقارا، ولقد أحبّ الموسيقى إلى الحدّ الذي يقرّ فيه ما يلي: «إنّي أقرأ المفكّرين وأغنّي بعدهم أغنياتهم، وأنا أعلم أنّ وراء تلك الكلمات الباردة ثمّة روح ورغبة.. وإنّي لأسمع تلك الروح تغنّي». تبعا لذلك اعتبر نيتشه ضدّ أفلاطون أنّ ديونيزوس هو نموذج الموسيقى التي تمنح الجسد أقصى لحظات اقتداره وتصالحه مع الحياة وإثبات القوى النشيطة والخلاّقة في العالم. إنّ أهمّ شعار لفلسفة الموسيقى عند نيتشه هو «أنّ الحياة غير ممكنة إلاّ بفضل أوهام الفنّ» وأنّنا نحتاج إلى أكاذيب الفنّ كي نتحمّل «الحقيقة القاتلة». هكذا تمّ الإعلاء من قيمة الوهم والكذب وتمّت التضحية بقدرة الفنّ على قول الحقيقة وهذا هو المنعرج الذي اشتغلت على إرسائه ضد نيتشه فلسفة الموسيقى للفيلسوف الألماني ثيودور أدرنو.

3) أدرنو والموسيقى الجديدة: الألحان ضد التشيؤ

من أجل فهم هذه المقاربة الثالثة للموسيقى بوصفها أهمّ المقاربات الفلسفية علينا الإشارة بدءا إلى أنّ أدرنو هو أكثر فيلسوف كتب عن الموسيقى وخصّص أكثر من نصف أعماله للأعمال الموسيقية ماهلر وفاغنار وبيتهوفن وسرافينسكي وشونبارغ... وذلك أنّ فيلسوف فرنكفورت هو موسيقار وقضى حياته كما يقول «بين الموسيقى والفلسفة باحثا عن شيء مشترك وواحد». وتتنزّل نظرياته في الموسيقى من جهة ضمن مجال النظرية النقدية بوصفها مشروعا فلسفيا جمعه بروّاد مدرسة فرنكفورت منذ عشرينيات القرن الماضي خاصة هوركايمر ولوكاتش.. ومن جهة أخرى لا يمكن فهم هذه الفلسفة حول الموسيقى دون النظرية الجمالية التي تركها كآخر انتصار لبراديغم الإستطيقا في القرن العشرين. يتعلّق الأمر بالجماليات السالبة أو النقدية التي تمنح الفنّ القدرة على قول الحقيقة وذلك ضدّ كل النظريات الفلسفية الجمالية منذ أفلاطون إلى نيتشه باستثناء هيغل. أدرنو أدرك جيّدا أنّ قيمة الفنّ تكمن في انفتاحه على المجتمع والتجربة التاريخية للبشر ورفضه لكلّ أشكال الهيمنة على الأفراد وسلبهم الحق في الحرية. وطبقا لذلك يتمّ تأسيس مقاربة نقدية للفنّ عموما وللموسيقى رأسا بوصفها الوسيلة لالتقاط ما يحدث في المجتمع وفضح كلّ آليات سلعنة العالم وتشيئة الحياة وتحويل الثقافة إلى سلعة. مع أدرنو ثمّة ضرب من الثورة التأويلية التي يتمّ إنجازها في مجال فلسفة الموسيقى. وذلك في المعاني الآتية: أوّلا: القطيعة مع التصور التقليدي الذي يجعل الاشتغال التأويلي بالموسيقى حكرا على العارفين بها، وفتح مجال علم الموسيقى على الفلسفة، والإعلان عن فلسفة الموسيقى. ثانيا: ضرورة انفتاح الموسيقى وبقية الفنون على علم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ السياسي، فالموسيقى ليست من أجل الترفيه وأوقات الفراغ والمتعة الجمالية. ثالثا: إنّ الموسيقى تتضمّن انهماما عميقا بالحقيقة وليست صناعة للوهم وهروبا من عالم الألم والتعاسة. وبالتالي فإنّ مهمّة فلسفة الموسيقى هي تحديدا الاشتغال على شبكة المعاني التي تعتمل في كلّ عمل موسيقي، وتحويل هذه الأعمال إلى محاولات لقول ما يحدث في العالم. وفي هذا السياق ينبّهنا الفيلسوف إلى خطورة الموسيقى الرومنسية تحديدا والتي تمّ استعمالها من طرف النازية تحت إيديولوجيا مفهوم «روح الشعب الألماني» وهي عبارة عرقية. رابعا: أنّ المهمّة النقدية للموسيقى تكمن في ضرورة الاشتغال على علاقة الموسيقى بما حدث في الأزمنة الحديثة أي من جهة في علاقة بالرأسمالية كنظام هيمنة على الأفراد وسلعنة للثقافة، ومن جهة أخرى في علاقة بتطوّر تكنولوجيات الصوت والتسجيل. وهذا الأمر قد أحدث أزمنة في مفهوم الموسيقى ومفهوم الفنّ عموما، وهو ما جعل الفنّ يفقد مكانته وما جعل الموسيقى تفقد قيمتها النقدية في قول حقيقة ما يحدث، وذلك في أفق تحرّري شامل. إنّ أهمّ ما نخرج به من هذه المقاربة الفلسفية النقدية للموسيقى بخاصة وللفنّ عموما هو أنّه بالرغم من الطابع النقدي الجذري لجماليات القبح عند أدرنو يبقى الفنّ عنده خلاصا رغم نبرة التشاؤم النظري، وفق عبارة نعثر عليها في كتاب النظرية الجمالية (1970) يقول: «إنّ الفنّ هو وعد بالسعادة حتى وإن كان ذاك الوعد قد تمّت خيانته سلفا».

د. أمّ الزين بنشيخة المسكيني باحثة تونسية مشتغلة بالفلسفة