عمان الثقافي

العدد.. والنغم

24 أغسطس 2022
24 أغسطس 2022

ربما يجدر بنا لاستكشاف العلاقة بين الموسيقى ونواميس الكون، العودة إلى علاقة الفيزيس بالبويزيس لدى الإغريق، ومحاولة تأصيل المسألة منذ فجر التفكير. البويزيس (poiesis/ ποίησις) بوصفه كلّ صناعة إبداعية وهي تشمل كلّ الفنون، والفيزيس Physis) (ϕ́υσις)) كما حدّده الإغريق ضرب من معاينة ولادة الأشياء استنادًا إلى الجذر الإغريقي (ϕ́υεσθαι). تبدو هذه الملاحظة نشازًا بالمقارنة مع موضوع المقال. ولكن ما يمنحنا إياه هيدغر يمكن أن يكون جديرًا بالإنصات هنا. يقول في مقدمة الميتافيزيقا: «فالإغريق لم ينطلقوا من الظواهر الطبيعية لمعرفة ما يكونه البويزيس، بل بالعكس، ما أطلقوا عليه اسم «فيزيس» لم ينفتح لهم إلاّ على أساس تجربة أساسية للوجود».

إنّ اختبار الإغريق لنواميس الكون لم ينفتح لهم إلاّ في حضرة تجريب الفن. وأمّا العلاقة بين الموسيقى والكون فهي قديمة قدم الزمن الذي يفصلنا عن بيثاغوراس (Πυθαγόρας / Puthagóras). ولئن كانت هناك حدودًا فاصلة بين الكون والموسيقى، أي بين الكوسموس والبويزيس، إلا أنّ هذه الحدود كانت واصلة بقدر كبير، باعتبارها مكان احتكاك عالمين. وربما تكون ملاحظة هيدغر رشيقة بقدر هنا. «فليس الحدّ ما يتوقف عنده شيء ما. الحدّ، كما أدرك الإغريق، ما يبدأ منه شيء ما حضوره». عند هذا تحديدًا نعاين العلاقة بين الموسيقى ونواميس الكون. ليس الموسيقى بوصفها فنًا يستأثر بالإنصات إلى الكون لالتقاط الأصوات فحسب، بل هي تجربة مفكرة في قوانين الكون ذاتها. ضرب من الانسجام بين قانون الأوتار وأوتار الكون.

وإذا كانت النجوم العالقة في السماء هي ماضي النجوم باعتبارها كواكب قد أفلت منذ آلاف السنين، فإن أصوات الكواكب تلك لم تصلنا. وحجّتنا في ذلك بطء الصوت مقارنة بالضوء، واعتياد أجهزتنا العصبية فتحول الصوت إلى جزء من بداهة كينونتنا فلم نعد نتبيّن فحواه. وربما يكون الإغريق أفضل من منحنا مقاربات حول هذه المسألة، إذ ينتج احتكاك مدارات الكواكب ببعضها أصواتا متناغمة مادام أصل الكون يقوم على قانون التناغم شرطًا لصيرورته.

وربما تكون موسيقى نشيد الشمس لميزوماد (Μεσομήδης ὁ Κρής/ Mésomède) في جزيرة كريت اليونانية أفضل ما وصلنا حول هذه القضية. ما تقوم عليه هذه المقطوعة الموسيقية هو استنادها إلى نوتات كلّ نوتة متجانسة ومكتفية. أما بيثاغراس فقد منحنا نظرية حول ذلك. إذ في اعتقاده أن «الكون نغم وعدد». وفق هذه المقولة ينتقل بيثاغوراس من الموسيقى إلى العالم المجرد الرياضي ومن ثمّة إلى الكون.

ما يعنينا لدى بيتاغوراس معاينته للموسيقى بوصفها عدد. لقد عاد انطلاقًا من الرياضيات إلى دراسة المنطق التوافقي (الهارموني) (ἁρμονία) للموسيقى. ثمّة ما يسميه بالوسط الرياضي بين النوتات الموسيقية وهو ما أدلت به أميرة حلمي مطر. يشير الإغريق إلى أن الهارموني هي التقدير الدقيق الذي لا يطلب لذاته. عكس التوازن الذي لا يسعى سوى إلى تحييد القوى المتعارضة فيما يشتغل التقدير على ذلك من أجل غاية مفارقة. وهو ما يطرحه هيرقليطس في ترجمة سيمون وايل (Simone Weil). إذ ما يتعارض يتعاضد في حقيقة الأمر نحو إنتاج هوية. وهذا ما أشار إليه فيلولواس (Philolaos/ Φιλόλαος ) تلميذ بيثاغوراس وأحد مؤسسي التقليد البيثاغوراسي في مفهوم العدد والنغم. ويعد التناغم واحدًا من بين الأربعة عناصر التي تقوم عليها الموسيقى وهو الإيقاع والطابع واللحن.أما الدراسات التي أولت الهارموني أهمية فهي تقف عند بنية صناعة التآلفات وكيفيات تسلسلها (Marcel Bitsch). وهذا ما نعبر عنه بدراسة التعارض بين الهيئة العمودية (الآلات المتزامنة) للموسيقى والبعد الأفقي للحن.

لقد عدنا إلى بيثاغوراس، لأن ما قدّمه يعد راهنا إلى اليوم. وربما تشكل النسبة الذهبية أهم ما ميز تلك الحقبة. نفهم النسبة الذهبية (1.61803398875) كضرب من التوازن المثالي وهو ما نعثر عليه في أعمال ليونار دي فنشي وميكايل أنجلو وغيرهما. غير أن ما هو مثير هنا أن هذه النسبة شهدت ولادتها من رحم الهندسة لتنتقل إلى الموسيقى. وهذا في حقيقة الأمر ما يمنحنا أحقية المجازفة في تعريف الموسيقى كضرب من الهندسة الصوتية، وبعبارة أخرى أن الموسيقى هي تشكيل لفضاء الصوت وشكله. وأن شكل الصوت يخضع إلى تقديرات في الجبر وهو ما نسميه النسبة الذهبية. لذلك ليس صحيحا أن نعاين الموسيقى كفن زمني باستمرار. وهذا ما نعثر عليه في مقال طريف لأستاذ العلوم الفيزيائية ألان بوداي (Alain Boudet ) بعنوان «الأصوات مبدعة أشكال». ما يعنينا في هذه المسألة هو معاينة الصوت استنادا إلى العدد والرياضيات بعامة وتحويله إلى شكل: تقدير الأشكال الصوتية حسب الأرقام.

يمكن أن تكون تجربة الصور الصوتية (E. Chladni) لشلادني نموذجذية. ربّ تجربة دشّنها غاليلي (Galilée) وطوّرها (R.Hooke)، غير أن شلادني هو من ثبتها في كتاب علمي بعنوان اكتشافات في نظريات الصوت..

يمكن اختصار هذه التجربة في وضع الطحين على صفائح ثم وصل هذه الصفائح بذبذبات لنلحظ أنه وفق تغير الترددات تتغير الأشكال. ولكن هذه الأشكال لا تأتي على نحو فوضوي بل هي تخضع إلى تناظر وتوازن عجيب. وهذا هو في حقيقة الأمر السر الأول في التقاء الموسيقى بنواميس الكون. أي تقاطعهما عند حدود النسبة الذهبية. وهذا ما نعثر عليه لدى بيثاغوراس. فهو أول من دشّن الحديث حول التناغم الموسيقي للكون. فنواميس الكون هي نواميس عددية تخضع بدورها إلى النسبة الذهبية. وليس من قبيل الصدفة أن الجذر اللغوي للكوسموس (κόσμος) بالإغريقية هو النظام وحسن التقدير، وهو ما نعثر عليه في القرآن «وقدّرنا كلّ شيء بحسبان». التقدير والحساب. يقول أفلاطون: «يشير الحكماء أنّ الصداقة والنظام والعقل والعدالة تشدّ مجتمعة الأرض بالسماء كما تشدّ الآلهة بالإنسان، وهذا تحديدا ما دعاهم إلى تسمية هذا الكلّ بالكوسموس، أي النظام الحسن».

يتعارض هذا الأمر مع الكاووس (Χάος/ Chaos/) بوصفه الفضاء السابق لوجود الأشياء، أي بما هو انقصافا. تشكل ملاحظة بيثاغوراس وأفلاطون خطوة أساسية في دفع الحدود وتفتيحها بين الميتافيزيقا والإستيطيقا والإيتيقا.

ولأن البيثاغوريين دأبوا على الرياضيات فقد كان هناك اعتقاد سائد أنّ الهارموني تخضع إلى العدد، وأنّ الأعداد ليست اعتباطية بل تحمل دلالات عميقة. لذلك فإن معرفة الأعداد والعلاقات التي تجمع بينها هو ما سيمكننا من اكتشاف قانون الكون. ولعل هذا تحديدا ما أدى ببثاغوراس إلى رسم فرضية هارموني الأفلاك. تقوم هذه الفرضية أساسًا على أن الأفلاك منتجة موسيقى. غير أن هذه الموسيقى لا تأتي في حقيقة الأمر إلاّ استنادا إلى نظرية الأضداد التي شرحتها أميرة حلمي مطر في كتابها فلسفة الجمال على نحو من التفصيل. «ولعل فكرة الائتلاف - أو التوافق فكرة مترتبة على نظرية الفيثاغوريين في الأضداد، فقد كانت الفيثاغورية فلسفة تفرق في الوجود بين مستويين: مستوى الوجود المعقول، ومستوى الوجود المحسوس. (...) وكان صراع الأضداد عند فيثاغوراس يهدف إلى حدوث وحدة أو ائتلاف مرده وجود وسط رياضي بين النقيضين، واعتمد فيثاغور في البرهنة على هذه النظرية بدراسته لأوتار القيثارة وما يرتبط بها من أنغام».

في المماثلة المكتملة بين نظام الموسيقى والنظام الموسيقي للأفلاك، يشير الإغريق إلى أنّ السلم الموسيقي يحتوي على سبع نوتات موسيقية (Note) توافق الكواكب السبعة، إذ يصدر كلّ كوكب نوتة. نعثر على هذه المقاربة بأكثر وضوح في ما قدّمه بوياس (Boèce)،إذ تتناسب ré مع القمر، أما Do فهي عطارد وتتوافق si مع فينوس. أما La فهي تعادل الشمس، في حين أن Sol تمثل المريخ، أما المشتري فهي Fa، في حين أنّ mi تناسب زحل.

غير أن هذه المسألة لم تشهد تطورًا حقيقيًا إلا مع جوهانز كيݒلار (Kepler) في كتابه (Astronomia Nova) الذي سيكون منطلقًا لإسحاق نيوتن في تحديد قانون الجاذبية الكونية. ورغم أنّه حاول استكمال المنحى البيثاغوري إلا أنه اصطدم بحدود الطرح، فانعرج للبحث في صلب مفهوم الجاذبية الكونية (Gravitation universelle)، ولكنه لم يتنازل عن محاولاته المتعددة في ضبط مقاييس المنظومة الشمسية، والكشف عن العلاقة بين هارموني الكون والموسيقى.

لقد منحنا كيبلار تصورًا حول ارتباط الموسيقى بسرعة الكوكب على مداره. إذ استند إلى التردد بماهو عدد الذبذبات المنتظمة في الثانية الواحدة وهي التي تحدد الطبقة الصوتية للنغمة» (قاموس أكاديمية اللغة العربية/القاهرة). وفق هذا المنحى حاول كيبلار أن يمنح لكل كوكب في مداره ووفق سرعته التردد المناسب له وهذا ما نلحظه في نموذجه. وفي حقيقة الأمر أن هذا التصور أتى كتطوير للخيال الإغريقي حول التماثل بين قانون الموسيقى ونواميس الكون. وهذا في حقيقة الأمر ما أدى به إلى اكتشاف القانون الثالث وهو أنّ «مربع الفترة المدارية لكوكب يتناسب مع مكعب نصف المحور الرئيسي لمداره».

غير أن هذه النظرية، نظرية هارموني الكون ورغم طرافتها وجمالها إلا أنها لم تلقَ وفق يال نازي (Yaël Nazé) وجاهتها. فالاعتراض العلمي يقوم على أن الفضاء الفارغ يمنع بثّ الصوت وانتشاره، ومن ثمة سيكون كيببلار خاتم البيثاغوريين. أما ليبنيتز فقد عاين إنصات الموسيقى كتمرين حسابي لا واع. لقد أجرى مقارنة بين نظام العالم ونظام الموسيقى. وإذا كان العالم الأول يحتوي على الشر فإن العالم الثاني يحتوي على النشاز، ومن ثمة فإن هارموني الموسيقى هي الاستعارة الخفية لهارمونى العالم. تنتمي نظرية ليبنيتز إلى الموسيقى الحسابية التي تجد جذورها العميقة لدى بيثاغوراس.

سنشهد مع عصر الأنوار أفول هذه المقاربة. لتعاود الظهور مع المدرسة الرومنطيقية. يقول جان ݒول (1763/ 1825) في كتابه Hesperus :« قلة هي الأرواح التي تدرك إلى أيّ حد تتوافق هارموني الطبيعة الخارجية مع طبيعتنان وأنّ الكلّ العظيم ليس سوى قيثار هوائي بأوتار غير متساوية». ورغم الانزياح من الكوسموس إلى الطبيعة، فإن قوانين الطبيعة عوضت قوانين العدد. أما أمادوس هوفمان (Amadeus Hoffmann (1776- 1822)) فقد أشار أنّ غرض الموسيقى هو الحفر في اللانهائي كمملكة غريبة، وهو ما أشار إليه هيجل بأننا نتحسس هارموني الكون استنادًا إلى هارموني الموسيقى. ليس الموسيقى بوصفها فنا تمثيليا بل بوصفها المعول الذي يحفر في أغوار الكون. ثمة تحول لا بد من الإشارة إليه فعوض المماهاة بين نواميس الكون وقانون الموسيقى، تحولنا مع المدرسة الرومنطيقية إلى اكتشاف نظام العالم عن طريق الموسيقى كأداة عارفة وهذا في حقيقة الأمر ما أجرى انزياحًا طريفا من البعد الكوسمولوجي للموسيقى إلى ميتافيزيقا الموسيقى، وهو ما نعثر عليه خاصة في سيمفونيات بيتهوفن. الموسيقى بوصفها هنا تفكيرًا متعاليًا.

أما على مستوى الممارسة فإنّ ما قدمه ميزوماد (Μεσομήδης ὁ Κρής/ Mésomède ) في نشيد الشمس (Μεσομήδης ὁ Κρής/ Mésomède ) لا يزال يلقى وجاهته. هذه الوجاهة التي نتحسسها في استكمال الموسيقى الحفر في علم الكونيات، أو في محاولة إيجاد مسار متوازٍ بين العالمين. ولعل ما منحه غوستاف هولست (Gustav Holst) في السمفونيات السبعة التي عنونها بكواكب (Planets/1914-1917 ) تعد نموذجية، إذ حاول أن يمنح كل كوكب ما يناسبه من تشكيل موسيقى، وهي مقاربة تتقاطع مع مقترح بوياس (Boèce) التي أشرنا إليها سابقًا. وإن استند بوياس إلى ابتعاد الكواكب عن الشمس ودرجة ترددها، فإن هولست حاول منح الكواكب خصائص وميزات. فإذا كان فينوس يجلب السلام فإن المريخ هو الحرب.

أما نظرية الأوتار الفائقة ربما تكون نظرية واعدة بحق تلك التي يمكن لها شرح العلاقة بين الموسيقى ونواميس الكون، هذه النظرية التي أنشأها غابريال فينيزيانو (Gabriele Veneziano) في سنة 1968. تتمحور الفكرة الأساسية لهذه النظرية على أن هناك تعدد أكوان، وأن الكون عبارة عن أوتار واهتزازات شبيهة بآلة الكمان، وأن طول الوترهو أصغر من قطر الذرة ببليون بليون مرة. ما يعنينا في هذه المقاربة أن ما منحه بيثاغوراس ورغم أنه من وحي خياله وليس هناك إثباتات علمية حول ذلك سينتظر، واستنادًا إلى نظرية الأوتار الفائقة بحوثا علمية كثيرة. ذلك أن هناك ترجيح أن الكون له عشرة أبعاد، وأن لا وجود لأي جسيمات أولية، بل ما هنالك سوى أوتار مهتزة تصل بعضها ببعض، وهي عبارة عن سمفونية كونية.

آخر هذه التجارب المهمة ما قدمه دومنيك بروست في كندا في 2011 في عرض أتى بعنوان (Voix, Orgue et cosmos) لتشفع بمحاضرة موسيقى المجرات. ما يجب الإشارة إليه هنا أن دومنيك بروست ليس موسيقيا فحسب، بل إنّ أصل تكوينه هي الفيزياء الفلكية. هذا التقاطع بين البويزيس والفيزيس هو ما منحنا إياه دومنيك بروست ضمن ضرب من الاستئناف الذي نلحظ ملامحه ابتداء من بيثاغوراس والكوسمولوجيا الإغريقية مرورا بالثورة الكوبرنيكية إلى حدود الاكتشافات المعاصرة. ضمن ضرب من البحث الذي استند إلى آخر الاكتشافات بأن الأرض تنشد وفق قانونها، كما تفعل الكواكب بأسرها. لذلك «فالموسيقى والكون إنما يتبادلان صدى بعضهما» كما أشارت مونا مواليك (Mona Moalic).

ما هو مثير أيضا هي الصور التي نشرتها وكالة الفضاء الأمريكية التي كانت مشفوعة بفيديوهات صوتية: تحويل الصور المرئية إلى صور سمعية، وهو ما يتوافق مع نظرية «الكون نغم وعدد» التي دشنها بيثاغوراس وطورها فيلولواس (Philolaos/ Φιλόλαος ). ها هنا تماما سننتظر العديد من البحوث العلمية في نظرية الأوتار الفائقة أو في الصور التي تعود إلى مليارات السنوات كي نتحقق من العلاقة الأنطولوجية بين نظرية الأكوان ونظريات الموسيقى. فهل ينهض بيثاغوراس من رماده مجدّدا؟

د. عمر علوي أكاديمي تونسي متخصص في الجماليات ومؤلف كتاب «التفكير والحدود».