No Image
عمان الثقافي

الصحافة الثقافية في عُمان

26 أبريل 2023
26 أبريل 2023

حين نتأمل المشهد الثقافي الراهن في عُمان، لاسيما الأدبي، وأبرز الأسماء فيه، تلك التي حققت لنفسها مكانةً منظورةً، على الساحتين الداخلية والخارجية، وتلك التي لا تزال تُعبدُّ طريق النضج والتحقق، سنجد أن بدايات كثير منها، إن لم يكن جميعها، تشكلتْ في حاضنة الصحافة الثقافية المحلية، أو لنقل إن الصحافة الثقافية مهدت لها الطريق، ووفرت المختبر الذي جرّبت فيه محاولاتها الأولى، واختبرت وطورت فيه أدواتها، وتعرفت من خلاله إلى صوتها وإلى أصوات أخرى، عُمانية وغير عُمانية، كما إلى تجارب أخرى، عُمانية وغير عُمانية.

يُمكن القول، إن الصحافة الثقافية المحلية، لم تُسهم فقط في صناعة وعي اجتماعي مواكب للتحولات التي شهدتها عُمان والعالم خلال العقود الماضية، إنما أسهمت في تمكين الفاعلين من لعب الدور المفترض في الحياتين الاجتماعية والثقافية، بما في ذلك الاهتمام بالشأن العام وإثارة أسئلة الحياة اليومية، من خلال الكتابة؛ النص الأدبي والثقافي، وأيضا عبر محاولات، واعية أو غير واعية، لصياغة خطاب ثقافي نقدي ومسائل للتحولات الاجتماعية. بعض ما نشرته الملاحق والصفحات الثقافية المحلية خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي من مقالات تَساجلَ فيها كتابٌ ومثقفون، عُمانيون وعرب مقيمون في عُمان، أسهم، بدرجة ما، في صياغة ذلك الوعي وذلك الخطاب، وبعض كتاب الأعمدة من محرري الملاحق والصفحات الثقافية، حركوا مياهًا كانت راكدة وألقوا الحجارة باتجاه الزجاج المعتم، ورغم أن بعضهم دفع ثمن ذلك، إلا أن الحصاد كان أكبر.

اليوم، ونحن نقرأ بعض الأعمال الأدبية العُمانية، روايةً وقصةً وشعرا، لكاتبات وكتّاب، ونقرأ ما تضمنته نصوصهم من حساسية (فنية في المقام الأول) ولكن أيضا سياسية واجتماعية تجاه الماضي والراهن السياسيين للبلاد، ونتذكر أن هؤلاء الكتاب والكاتبات، نشروا أول ما نشروا في الصفحات والملاحق الثقافية، وغامروا أول ما غامروا في هذه الملاحق والصفحات، وحلموا بالنجاح والمجد الأدبي أول ما حلموا، في هذه الملاحق والصفحات، نعلم أي قيمة للصحافة الثقافية، في الماضي والحاضر والمستقبل، وأي أهمية في الحفاظ عليها ورعايتها وتوفير الدعم اللازم لها.

لكن الأسماء التي كان للملاحق والصفحات الثقافية دورٌ فيما بلغته وما حققته، لها هي أيضا دورٌ في استمرار وتطور هذه الملاحق والصفحات.

هذه الأسماء كثيرة، ويصعب تعدادها في هذا المقال، وكاتب المقال من بين تلك الأسماء، لكنه - لحسن حظه من جهة ولسوئه من جهة ثانية - كان بين من عملوا في الصحافة الثقافية، وفي وقت مبكر من الحياة المهنية، فسهلّ له ذلك التعرف عن قرب على الأسماء العُمانية التي بدأت الكتابة في حقبة السبعينيات ومطلع الثمانينيات، والأسماء التي بدأت منتصف الثمانينيات والتسعينيات وما تلى ذلك، بالقدر الذي جعله معنيا بمتابعة كل جديد يصدر محليا وعربيا، وقريبا من المؤسسات الثقافية وبرامجها المختلفة، إنما في المقابل، كان الخوف والتردد في النشر بين مثالب عمل كاتب في الصحافة الثقافية، لأن من غير المناسب والأخلاقي، بالمعني المهني، أن ينشر لنفسه، فيما دوره النشر للآخرين (هنا أتحدث عن الأدب وليس عن المقال والعمود الصحفي الذي هو جزء من طبيعة عمل المحرر الصحفي).

عندما أعود إلى الماضي، وإلى ما يوصف بـ«سنوات التكوين» الأولى، فمن المؤكد، بالنسبة لي، أن الكتاب سبق الصحيفة والمجلة، وكان مفتاح الولوج إلى عالم القراءة، ثم غواية الأدب، لكن الصحيفة والمجلة لم تتأخرا كثيرا في دخول «غرفة القراءة والأحلام»، فجعلا من القراءة متعة أقل صعوبةً مما هي في كتب الأدب والتاريخ، ومن فكرة الكتابة أكثر إغراءً، وأقل رهبةً. كان الراديو حاضرا أيضا، والإذاعات ضمن مفاتيح المعرفة الأولى.

وبعد محاولات متواضعة في النشر في مجلة النهضة، قادني الحظ للعمل محررا صحفيا فيها. يومها لم تكن الحدود واضحة، بين الصحافة والصحافة الثقافية. لعل مصطلح «الصحافة الثقافية» لم يكن حينذاك بالوضوح الذي صار عليه فيما بعد، فكنّا نحن الصحفيون الشباب، الذين كانت عدتهم الصحفية حماسة الشباب، مضاف إليها معرفة ببعض فنون وأدوات الكتابة، ومع كثير من الأخطاء التي كان علينا – بأنفسنا – اكتشافها وتصحيحها يوما بعد يوم، كنا نعمل ونكتب في كل شيء تقريبا، نقوم بالتحقيقات الصحفية ونجري المقابلات، نكتب عن ضعف الخدمات وعن جودتها، ونغطي مباريات كرة القدم (ما زلت أحتفظ ببطاقة دخول ملاعب كرة القدم التي صدرت عن الاتحاد العماني لكرة القدم في الثمانينيات). أتحدث هنا عن تجربتي المتواضعة، وتجربتي زميلي تلك المرحلة، الراحل مبارك العامري، والصديق إبراهيم العمري، وكلاهما كان في مجلة «العقيدة».

كانت غواية الأدب تكبر مثل الجرثومة في الدم. في مجلة النهضة، في تلك الفترة من منتصف الثمانينيات، اقترحتُ تخصيص صفحات ثقافية، أشبه بملف ثقافي، أسوة بما كان يقوم الزميل والصديق الراحل مبارك العامري في العقيدة، وسعيا للتنافس معه، ولكن أيضا مع الصفحات الثقافية لصحيفة عُمان، وذلك كان طموحا طفوليا، إذْ يصعب أن تنافس مجلةٌ أسبوعية صحيفةً يومية! وسعيتُ، عبر تلك الصفحات، إلى دعوة واستقطاب بعض الأسماء التي كانت تنشر في مجلة العقيدة وصحيفتي عُمان والوطن، بعضها استجاب وبعضها لم يستجب.

لكن صفحات مجلة النهضة الثقافية تلك لفتت أنظار بعض الكتاب والمثقفين، خصوصا الملف الذي تواصل على مدى أشهر، وأسميته «الركود الثقافي في عُمان» وحاورت فيه عددا كبيرا منهم.

لا يمكنني الادعاء أن تلك الصفحات الثقافية في مجلة النهضة في أواسط الثمانينيات أسهمت في بناء وعي مجتمعي أو حساسية جديدة تجاه قضايا المجتمع والثقافة والأدب، أقله لم يكن يومها من وسيلة لقياس ذلك. لا يعود الأمر إلى جودة ما كان يُنشر ويُثار من أسئلة وقضايا من عدم جودته، إنما إلى محدودية توزيع المجلة وضيق دائرة انتشارها داخل البلاد، وتلك كانت – ولعلها لا تزال – من الأزمات المزمنة للمجلات في عُمان. لكن تلك الصفحات قدمت إلى ساحة الكتابة أسماءً جديدةً، بعضها أكمل مشروعه في الكتابة والنشر وبعضها لم يكمل وتوقف تماما.

لم يكن لصحفي شاب في مجلة أسبوعية أن يحلم بأكثر من العمل في أكبر الصحف اليومية في البلاد، ولقد تحقق ذلك الحلم الذي لم أسع إلى تحقيقه. ذلك الجهد المتواضع في الصفحات الثقافية لمجلة النهضة، قادني لأن أجد نفسي في الصحيفة التي أردت منافسة صفحاتها الثقافية.

في يوم الثلاثاء الخامس من يناير عام ألف وتسعمائة وثمانية وثمانين، بدأت العمل محررا ثقافيا في صحيفة عُمان. كان ملحق عُمان الثقافي قد بدأ في الظهور قبل ذلك بنحو عام أو أكثر، وكان يصدر يوم الخميس، وكانت هناك صفحة ثقافية تصدر يوم الثلاثاء (اليوم الذي سيصادف بدء عملي في الصحيفة)، وصفحة للأدب الشعبي، وكان هناك ما يعرف بالصفحة المفتوحة، وغالبا تُنشر فيها مواد ثقافية، وعلمية وأدبية (أشبه بالصفحة الاحتياط في حال تعذر توفر مادة صحفية يومية).

كان المحرر المسؤول عن الملحق الثقافي قد غادر صحيفة عُمان إلى جهة عمل أخرى (محمد الصليبي وهو معلم لغة عربية أردني عاش وتوفي في عُمان) فبحثتْ الصحيفة عن محرر ثقافي، وكان حسن الحظ أيضا إلى جانبي.

في العام الذي توليتُ فيه الإشراف على تحرير الملحق الثقافي لصحيفة عُمان (1988)، كانت الحياة الثقافية في عُمان تشهد زخما غير مسبوق. جامعة السلطان قابوس (أول جامعة في البلاد) دخلت عامها الثاني، فانفتح الملحق الثقافي، أول ما انفتح على الجامعة، على أساتذة الأدب بهدف التأسيس لحركة نقدية تفتقدها الساحة المحلية، وعلى المواهب من طلاب الجامعة، شعراء وكتاب قصة قصيرة، لا سيما وأن جماعة الخليل بن أحمد الفراهيدي للأدب العربي بدأت في تقديم بعض الوجوه الشابة، ومنها اليوم روائيون وكتاب قصة وشعراء مهمون.

لكن الملحق الثقافي، وعلى مدى السنوات العشر التالية، لم يكتف باكتشاف وتقديم أسماء أدبية جديدة، ولا بنشر مقالات ودراسات ومراجعات في النقد والأدب والفن والسينما، إنما سعى إلى إعطاء مساحة لما كان بدأ في التشكل، وما يمكن وصفه بـتيار الحداثة في الأدب العماني، وتمثيل أصواتها، في صفحات الملحق، إلى جانب أصوات التيار التقليدي.

ليست مهمة الصحافة الثقافية، الملحق وغيره من الصفحات، الانحياز إلى تيار ضد آخر، إنما عدم الانحياز لتيار ضد آخر، غير أنه لم يكن من السهل كسر ذائقة التلقي التقليدية التي كانت سائدة، ولا خلق حساسية وفهم جديدين للأدب ومسألة الحداثة، لهذا السبب نظر بعض أقطاب الأدب التقليدي إلى الملحق الثقافي يومها وكأنه انحاز إلى الطرف الآخر، فحورب، وجرت محاولات لاستعادته ممن وصفوا بمجموعة «الحداثيين».

السجالات، وبعضها بلغ مرحلة الصراع، بين ممثلي التيار التقليدي وأصوات التيار الحداثي، التي شهدتها صفحات الملحق الثقافي في صحيفة عمان، والصفحات والملاحق الثقافية في الصحف الأخرى، ولاسيما صحيفة الوطن، أسهمت في خلق وعي مجتمعي، وطريقة نظر وأسئلة جديدة، ليس تجاه الأدب والكتابة فحسب، ولكن تجاه ما كانت تشهده البلاد من تحولات اجتماعية، وبروز جيل جديد يحمل بذور التجديد والحداثة في التفكير وفي مقاربة المسائل الاجتماعية والسياسية ( وهو ما ستتضح صوره على نحو جلي في نقاشات منتديات الإنترنت أواخر التسعينيات وخلال العقد الأول من سنوات الألفية الجديدة، عندما لم يجد الجيل الجديد من الكتاب والمثقفين وسواهم من الفاعلين المساحة الكافية للتعبير عن أفكاره وهواجسه وأسئلته في الصحافة).

غادرتُ الصحافة المحلية عام 2000، وخلال السنوات الثلاث والعشرين الماضية، تغيّر وجه الصحافة كثيرا، خصوصا الصحافة المطبوعة؛ تغيرت طريقة إنتاج وتلقي الخبر، الذي هو ركن الصحافة الأساس. لم تعد الصفحة الأولى و«المانشيت» الرئيس مهما لأحد، غير أن الصحافة الثقافية، غير اليومية وغير الخبرية، لم تتغير كثيرا، فقد بقيت، نخبوية من جهة، ومن جهة أخرى، وفية لسؤال الحداثة والتجديد، رغم التحديات. بالطبع، طريقة تلقي الصحافة الثقافية لم يعد كما كان. لم يعد الكتاب والمثقفون ينتظرون عدد الصحيفة الذي يحمل الملحق الثقافي عند منافذ التوزيع وفي المكتبات، كما كان الحال عليه قبل احتلال شبكة الإنترنت حياتنا، واتصالاتنا، وعلاقتنا بالعالم، والآخرين. صار الملحق الثقافي يُقرأ إلكترونيا ليلة صدروه، لكنه بقي مُنتظرا بما يحمله من نصوص ومقالات جديدة، وبما تتولد عن نصوصه ومقالاته من أسئلة وعي جديدة.

عندما أُعلن عن توقف الملحق الثقافي لصحيفة عُمان عن الصدور، شعرتُ وكأن جزءا حميما من الذاكرة قد جفّ ومات، فسنوات عملي في الملحق هي أجمل وأمتع سنوات حياتي المهنية، ولولاها لربما كان الطريق مختلفا، وعلى الأرجح أكثر مللا، وعندما أعلن عن عودة صدوره عادت الحياة إلى ذلك الجزء الحميم من الذاكرة.

إنما، وحتى لا تبدو هذه الكلمات تعبيرا عن «نوستالجيا» إلى ماض جميل، جميل لأنه شخصي أيضا، فإن الدور الذي قامت به الصحافة الثقافية على مدى الأربعين عاما الماضية، ما كان ليتحقق، على النحو الذي تحقق به، أو بالسرعة التي تحقق بها، لولا البُنية المعرفية الكامنة والصلبة للمجتمع، والروح الإيجابية التواقة للتفاعل، بما فيها روح بعض أصحاب القرار، وما توفر من مساحة حرية تمتعت بها الصحافة الثقافية في تلك المرحلة.

محمد اليحيائي صحفي وروائي عماني