عمان الثقافي

السير في الصحراء عن القراءة وأحوالها

28 ديسمبر 2022
28 ديسمبر 2022

(1)

القراءة تركيبٌ وتشكيلٌ

لا تكون القراءة فعلاً ثانوياً منقطعاً بين أفعالنا، إنها فعلٌ جوهري كالجنس والولادة والموت، فعل هو معدن الحياة وصُلبها. ولأن الحياة بلا نظرية، تكون القراءة بلا نظرية أيضاً، ليست الحياة خطاً مستقيماً أو منحرفاً، وليست القراءة كذلك، خطاً مستقيماً أو منحرفاً، إنهما الخطوط في حالاتها كلها.

(2)

الرغبة في القراءة

تشير (فرجينيا وولف) إلى «إن الرغبة في القراءة، مثل جميع الأشواق التي تحيّر أرواحنا، قادرةٌ على التحليل»، وفي مثل هذا الشغف سعى (البرتو مانغويل) في كتابه (تاريخ القراءة) لاكتشاف رغبة القراءة وتحليلها والوقوف على مغاليقها، بما يفيد في النهاية، بتأمل هذا النشاط المؤثر عن قرب، ويعمل على إضاءة العلاقة بين الإنسان والكتاب في زمن تعالت فيه دعوات الدخول إلى منعطف القراءة الرقمية، لتغدو صلتنا بالكتاب الورقي نوعاً من الأنشطة المتحفية الغابرة وقد غيبتها طبقات من تحولات القراءة وتغيرات سبلها، فهل يمكن لمثل هذه التصورات أن تتحقق بالفعل، وهل يمكن لمستجدات القراءة الإلكترونية أن تزيح أشواقنا إلى الكتاب الورقي إلى الأبد؟

تُعدّ القراءة تاريخاً شخصياً لكلِّ قارئ، فهي، بتصوّر مانغويل، بدايةٌ عمليةٌ لاندماج الإنسان في المجتمع، تعلّمها يهيئ السبيل للقارئ للتواصل مع عوالم بعيدة ولانهائية، واقعية ومتخيلة، وهي الخصيصة التي حافظت على دورها في تواصل القراءة في أشدّ ظروف القهر والاستلاب على امتداد التاريخ، مثلما منحت الإنسان فرصة مؤثرة للحياة مع الأفكار، فالمرء يقرأ من أجل أن يطرح الأسئلة، كما يقول (كافكا)، لتتسع مجالات القراءة وتنفتح عوالمها عابرةً حدوداً مجازيةً وأخرى واقعية يُستعاد معها سؤال (دينيس ديدرو) الذي طرحه في نهايات القرن الثامن عشر حول مَنْ سيكون السيد، في فاعلية القراءة، الكاتب أم القارئ؟ ليغدو التاريخ الحقيقي للقراءة تاريخاً لكلِّ قارئ وكلّ كاتب على السواء، بما يكشف، ضمناً، عن أدوارنا، نحن القراء المجهولين، في تدوين هذا التاريخ وإضاءة وقائعه، فهو المجرى الذي لا يشكل التسلسل الزمني بالنسبة له الأهمية نفسها التي يشكلها للتاريخ السياسي، فالكاتب السومري الذي عُدّت القراءة امتيازاً من بين امتيازاته، كان يدرك مسؤوليته أكثر بكثير مما يفعله القارئ الحالي نظراً لأن كلَّ مادة من المواد القانونية وكلَّ عملية حسابية كانت تعتمد تفسيرات القارئ السومري، فالقارئ، بمثل هذا النشاط، يمثل مركزاً من مراكز الحياة السومرية، لكن الوقوف الفعلي على تاريخ القراءة بمعناه الشامل يتطلّب وقوفاً عند كلٍّ من القارئين، القارئ السومري والقارئ الحالي، بما يقدّمه كلٌّ منهما من أنموذج زمني بمتطلبات حضارية خاصة، فلا يعيّن كلٌّ منهما شكلاً من أشكال القراءة فحسب، بل يكشف قدرة القراءة على الإشارة إلى وظيفتها وهي تتحرّك في تاريخ المعرفة الإنسانية.

وإذا تأملنا الدور المؤثر الذي حققته القراءة في تأكيد حرية الإنسان، وفهمه لهذه الحرية والإحساس بها، يمكننا أن نثق بدور القراءة وهي تنتقل من عصر إلى آخر، من دون أن تغيب أو تتراجع أو تنقطع أمام دعاوى الجهل ومواجهات الظلام، فالكتب بتعبير فولتير «تشتت الجهل هذا الحارس الأمين والضامن الحريص للدول ذوات الأنظمة البوليسية»، إنها بذلك تصنع أقدارها في تاريخ طويل من المواجهات، علماً بأن تاريخ القراءة حاشد بالتجارب العظيمة للقرّاء الاستثنائيين، أصحاب الحكمة ورموزها في كلِّ عصر، وهي التجارب التي تقف مضيئةً أمام لحظات الارتكاس التي طالما مثّلتها تجارب حرق الكتب، من اللفائف الأولى حتى اليوم، وهذه التقابلات تكشف أهمية ما تؤديه القراءة من أدوار ومهمات.

(3)

قراءة الصحراء

للقراءة جسم، تدرِّبنا كلُّ قراءةٍ على التسلل إليه والتوغل فيه، أبعد فأبعد..

ولكلٍ منّا، نحن القراء، تقنياته في التسلل والتوغل، لنكتشف، أخيراً، أن للقراءة طابعاً كونياً مثل السير في الصحراء، كلُّ خطوةٍ من خطى السائر في الصحراء هي توغّل في قلب الرمال ومركزها. ليس للصحراء هامش، من الضروري أن أثبت هذه الجملة، الصحراء متن يعادله متن القراءة الفارغ الممتلئ..

(4)

نهر القراءة دائم الجريان

تتأتى فرادة القارئ من سعيه الفريد لالتقاط كلِّ معنى، والإصغاء لكلِّ همسٍ خفي من معنى المعنى..

كلما توحّدنا مستغرقين في القراءة ازددنا اندماجاً مع جموع القرّاء الغفيرة من كلِّ العصور، وذوباناً في نهر القراءة دائم الجريان..

(5)

الآلام والأوهام

في كتاب عن الجسور، يضع الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير شذرات من سيرته العائلية، عن ماريا، جدته الرشيقة النشيطة، يتحدث ذاكراً زواجها من أوغسطين، القوي الكسول، الذي هو جده بالفعل، عن حياتيهما معاً تشعُّ الشذرة بالآلام والأوهام، فقد أقعد شلل نصفي الأولى، أما الثاني، هكذا يذكرهما بالتراتب كمن يعدُّ خرافاً، فقد أمضى عشرين سنة شاقة وهو يرفع زوجته من الفراش إلى الكرسي المتحرّك، ومن الكرسي إلى الفراش، بقية الوقت يقضيه في قيلولات عديدة متقطعة، بينما الجدة التي كانت غير متعلمة شأن أفراد العائلة، تزجي وقتها الطويل بالتدرّب على القراءة، حتى تركت لحفيدها خزانة نورماندية مليئة بحيوات القديسين وذكرى أوجاعهم.

كبر الحفيد وصار فيلسوفاً طالما وجد نفسه مشدوداً للوحات القراءة التي تلعب فيها السيدات العجائز أدوار قارئات مثاليات، حتى لو كن لا يُحسنَّ القراءة. في وجه كلِّ قارئة من وجوه اللوحات، يبحث عن ملامح الجدة التي لم تقدّر له رؤيتها، لكنه لمح وجهها ذات يوم مرتسماً على إحدى الصفحات.

لم تكن الجدة قديسة، ولم تنجح في أن تكون قارئة فريدة، لكنها استطاعت أن تترك ملامحها في كتاب.

(6)

في قلب كلِّ قراءة

عند جرف صخري حيث تجلس منقطعاً عما حولك متوغلاً في أرض القراءة، يحدث أن تلتقي قارئاً من أبناء القرون الخوالي، وقد جلس على جرف صخري ذات يوم، وتوغل مثلك في الأرض المترامية الأطراف، إنه صنوك على جرف القراءة، متوحد مثلك، ومندمج، ومصغٍ، لن يكون بينكما قبل ولا بعد، كلُّ قراءة هي قبل وبعد مطلقان..

ستسمع، في قلب القراءة، همساً تحسبه لصنوك ومثيلك:

ـ لن تسبق في القراءة أحداً، ولن تلحق أحداً، كونية القراءة تُسقط عنها التراتب، وتجعلها فعل تواصل مستمر.

لؤي حمزة عبّاس قاص عراقي