No Image
عمان الثقافي

السّحر الذّهبي في الفنّ التّشكيلي

29 مارس 2023
29 مارس 2023

من بين مواضيع الفن المنوّعة مترامية الأطراف، نجد الطبيعة تلمع كإبرة بين القش، هي الموضوع الفنيّ الأهم في عالم الفن التّشكيلي، فهي بيئة الفنان التي عُجن بها منذ طفولته، قبل أن يكوّن علاقات مع أماكن أخرى، وقبل أن يكون له رأي في مسائل حياتيّة.

أول ما يخطر ببال الطفل كموضوع للوحته (الطبيعة)، فنجد معظم رسوم الأطفال ( سهولا وجبالا، سماء، أنهارا، بحرا، وصحراء.... ) وذلك وفقا لما شاهده وعايشه وتدرّبت عينه على تصويره، ليحتفظ لاحقا بالمشاهد في أرشيف اللاوعي، ويستحضرها ما إن يسمع كلمة «طبيعة».

وهو كذلك موضوعٌ فنيٌّ مشترك بين الفنانين على اختلاف عصورهم ومشاربهم، فالفنانون قاموا برسم الطبيعة بتفاصيلها الدقيقة في محاولةٍ لحمل صورها المدهشة، والاحتفاظ بها ضمن مساحات مغلقة، في القصور والبيوت، في محاولة للاحتفاظ بالراحة النفسية التي تملأ من يتأمّل الطبيعة حين يتأمّل أعمالهم، إضافةً لكون هذه الأعمال مناسبة لتصبح أيقونةً جمالية بحد ذاتها بغض النظر عن مدى إتقان الفنان وحرفيته.

لوحات عصر النهضة خير مثال على حضور الطبيعة في الأعمال الفنية، فهي تنقل لنا طبيعة أوروبا الساحرة التي تتمثل بأجمات من الأشجار ودروبٍ ملتوية، وبحيرات واسعة، وقوارب صغيرة تطفو على سطحها بهدوء حتى لا تجفل الأسماك، الرسم ينفذ بواقعيّة مفرطة حتى تكاد تضاهي الصور الفوتوغرافية، لكن رسم الطبيعة بالطبع ليس حكرا على المدرسة الواقعية فهو كأي موضوعٍ آخر قابلٍ للتجسيد بأساليب مغايرة وتقنيات منوّعة، فحديقة مونيه في جيفرني التي أنتجت عدة لوحات تنتسب للمدرسة الانطباعية تعتبر من أجمل لوحات المناظر الطبيعية، شلالات خضراء تهطل من الأشجار وأزهار ملونة تملأ المحيط، بحيرة تحمل أزهار اللوتس على أكتافها، فتتأمل اللوحة بحثا عن ضفدع يقفز هناك، فالحياة تنبض في المكان؛ أما حقول فان كوغ الذهبية، وسماؤه المرصعة بالنجوم فهي الطبيعة بأسلوبٍ تعبيري صنعه فان كوغ بروحه قبل أنامله.

وقد لا تكون الطبيعة هي المحور الأساسي للوحة، ربما هي خلفية للعمل الفني فقط، البيئة الحاضنة للعناصر، كما في عدد من لوحات دافنشي كلوحة لييديا والبجعة، التي تحمل في مساحتها الخلفية سهولا وأشجارا تمنح العمل بيئته وهويته وتضفي عليه جوا من السكينة، بينما لوحة الصرخة لمونك التي تمثّل الرجل الذي يصرخ -وهو محور العمل-، بينما الطبيعة في الخلفية من سماء حمراء وأشجار خضراء ملتوية على بحيرةٍ زرقاء متدرجة الألوان، تمنح العمل الانطباع الذي يتركه من توتر وقلق، وكذلك يعطي العمق النفسي الملائم، بينما في المدرسة السريالية المتمثلة بسلفادور دالي نلاحظ أنه حمل الصحراء لتكون خلفية عددٍ كبير من أعماله، لما تملك من حيادية بتفاصيلها المختزلة وألوانها البسيطة مما يجعل التركيز محصورا بعناصر العمل، إضافةً للرهبة التي يمنحها هذا الفراغ الساكن، كخلفية لوحة «البناء الناعم مع الفاصوليا المسلوقة» وكذلك نجد الصحراء مجاورةً لمساحة مائية في خلفية لوحة «ثبات الذاكرة».

يقال إن الإنسان ابن بيئته وذلك لتبرير تصرفات شخصٍ ما، إذ إنه يكتسب من صفات بيئته الطبيعية لتتكون تضاريسه النفسية على صورتها؛ والفنان ابن بيئته أيضا نستطيع أن نستكشف أصوله من لوحاته بما يرسمه من بيئته بشكلٍ مباشر، أو ما يتسلل من روحها لأعماله من ألوان، عناصر، تكوينات....فالفنانون من أبناء السهول سيفرشون مساحات خضراء، ستتسلل الأزهار لأعمالهم في كلّ ربيع، بينما الصخور ستمتطي ظهر لوحاتٍ أخرى وتتركها ترزح تحت ثقلها، البحر يبتلع كلّ ما حوله يمتد مساحةً زرقاء تسرق لون السماء وتزبد بياضا يصنع لها الغيوم أيضا على سطح اللوحة، أما الفنانون من أبناء الصحراء، ستكون مساحات الذهب خيارهم الأول ليفردوها على اللوحة، وتكون مجموعتهم اللونية متقشفة والعناصر مختزلة، وهنا نجد الاستثناء، إذ إن أهم من رسم الصحراء -العربية- هم المستشرقون باعتبارها لصيقةً بالشرق الذي أحبوه.

نلاحظ أن حضور الصحراء في أعمال الفنانين المستشرقين واضحٌ للغاية، فقد وقعوا تحت سحر تلك المساحة الذهبية وحبّاتها الناعمة، فسيطرت عليهم وكانت محور أعمال العديدين منهم، فالصحراء هي قلب الشرق الذي انطلق منه سحر الشعر ونسجت حولها القصص والروايات، وهي الروح التي تسير في جسد العربي، لذا إن كان هناك احتفالٌ بالشرق وطقوسه فلا يجب أن تغيب الصحراء عن المشهد باعتبارها شريكة حواضر الشرق، لذا كان تصويرها ورسم مشاهد للحياة فيها، طريقة المستشرق لحمل ما رآه من جمال وعظمة لبلاده وتوثيقا للمكان والزمان في بقعةٍ معينة.

وخير من نبدأ به هو المستشرق الفرنسي أوجين فورمنتان، الذي أسرته صحراء الجزائر فرسمها بلوحات كثيرة بعد أن زار البلاد أكثر من مرة، وبقيت صحراؤها حاضرةً في روحه وخياله، فكتب عنها بالإضافة لرسمها، من أبرز أعماله لوحاتٌ عن واحة الأغواط، يصوّر فيها الواحة بنخيلها ومائها وكأنها تجسّد الأمل بالحياة، ويصوّر المسافرين من الخيّالة وهم يرتاحون هناك ليكملوا رحلتهم بعدها بشفاهٍ رطبة، وحناجر مرتويّة وبطونٍ ممتلئة.

لم يرسم أوجين الصحراء فقط كمنظرٍ طبيعيّ، بل كانت بالنسبة له حاضنا ثقافيا للكثير من القيم والطقوس والعادات، فمشاهد «الصيد» التي رسمها ميزته في رؤيته للشرق واختياره لمواضيع مختلفة، فلوحة (صيد الصقور) تمثّل مشهدا مرتبطا بفرسان الصحراء الذين يتوزّعون في العمل على أربع مستويات فنجد المستوى الأول شديد الوضوح والتفاصيل حاضرة (ثياب الفرسان، شعر الخيول وعضلاتها، الوضعيات المتخذة...) وتقلّ شيئا فشيئا حتى التلاشي مع غبار الرمال والضياع في ضبابية المشهد، الفرسان يمتطون صهوات الجياد ليلاحقوا جوارح السماء بالقرب من المجاري المائية، هذا المشهد يملأ اللوحة بفكرةٍ عن روح أبناء الصحراء وشموخهم وقوتهم وشجاعتهم، هي وجهٌ من وجوه الصحراء غير النمطيّة.

غوستاف غيوميه أيضا رسم الصحراء الجزائرية، نجد أن لوحة «صلاة العشاء في الصحراء» تصوّر تضرّعا أثناء الدعاء من قبل الإمام، والمصلون ساجدون وخلفهم فرسان بالقرب من خيامهم وقطيعٌ من الخراف يتمدّد كغيمةٍ حطت على وجه الرمال، هذا العمل يوثّق زي قبائل الطوارق سكّان الصحراء، ويوثّق أيضا شعيرةً من شعائر الإسلام المرتبط أيضا بالشرق -الصلاة مع الدعاء- وكذلك نجد السكن مجسدا في عمل غوستاف بخيمة، والمهنة حاضرةٌ أيضا فهي رعي الخراف والإبل، الكثير مجموع في هذا العمل المليء بالتفاصيل الصحراويّة، لوحة «صلاة في الصحراء» لجان لوي جيروم تصوّر أيضا فارسا يقيم الصلاة في صحرائه وسلاحه معلقٌ على صدره، وراءه حصانه ينتظره، وفي الخلفية قافلة تجارة بعيدة تكمل طريقها.

وإذا ما قفزنا بالزمن لنتجاوز عصر الاستشراق، وبحثنا عن التفاصيل الصحراوية في لوحات معاصرة لفنانين عرب، نجد أن أعمالهم لا تأخذ جانب التوثيق فلا تكون اللوحة معدّةً لحفظ مشهد من الحياة الصحراويّة كما فعل المستشرقون، فهنا الصحراء أكثر حميميّة تحضر ببساطةٍ في العمل كجانب من جوانب روح الفنان وشخصيته، فعند رسمها يرغب الفنان بعرض جمالها على كلّ من يشاهد عمله كما فعل الفنان الكويتي عبد العزيز التميمي عندما رسم صحراء الكويت ومفرداتها الأخرى بحر، سفن... وقد أراد بذلك التعريف ببيئته وعرضها أمام المشاهد العربي، يدفعه لذلك انتماؤه لهذه التفاصيل وحبّها.

الفنان السعودي نادر العتيبي رسم الصحراء كذلك وركّز على الرموز المرتبطة بها لكن بأسلوبٍ مختلف، لتبدو لوحاته سرياليّة، فنجد الشماغ صار واسعا ليمتد كخيمة كبيرة وسكن، المنزل الطيني بزخارفه المحليّة مبنيّ على هيئة دلّة القهوة العربية فلشدة وجود القهوة في حياة أبناء الصحراء صارت هي البيت، وأن تسيل القهوة من فوهتها فذاك استمرار الحياة، بينما نجد فناجين القهوة تعبئ الرمال داخلها وتترامى في المكان من حوله منتظرةً محتسيها.

تظهر الصحراء أيضا كلوحة تزينيّة، تحمل الهويّة العربية من خلال عناصر محدّدة، فنجد النخل منتصبا أمام الواحات، والإبل ترمح في سباقاتها، الخيام ترقد بسلام والنار تلتهب أمامها لترحب بالضيوف، الجياد والصقور الجارحة لا تكتمل صورة الصحراء دونهما، والفرسان بزيهم وسلاحهم، والعربيات بملامحهن الأصيلة، هذا جزء مما تملكه الصحراء من عناصر ذات دلالات جمالية شكلية، فاللون الهادئ لرمال الصحراء الذي يمنح الهدوء والسكينة بفضل المساحة الممتدة لأكثر من أبعاد العمل الفني، والتي تعطي راحةً للمتلقي وخاصةً إن كان من سكّان المدن المكتظة، قوة اللون الأخضر للنخيل وانسيابية الكثبان، ورشاقة حركة الجمل أثناء عدوه.... هذا بالإضافة لما تجلبه هذه التفاصيل لذهن المتلقي من صفات التصقت بالذاكرة الجمعية، من كرم، شجاعة، عنفوان وجمال....لتكتمل صورة الصحراء بعد تأمل هذه الأعمال على صعيدي الشّكل والرّوح.

وإذا ما تجاوزنا كلاسيكيّة الفن التشكيلي، وانطلقنا نحو عوالم فنون ما بعد الحداثة (الفن التركيبي والفن المفاهيمي....)، فنجد أن الصحراء عوض أن تكون داخل العمل الفني، سيكون الفن هو هذه المرة ضمن حدودها، ويخضع لقوانينها وشروطها؛ حينها سنجد الصحراء لا بوصفها بيئة حاضنة لعدد من الأعمال الفنية فقط، بل جزءا لا يتجزأ من هذه الأعمال باعتبار أن العمل الفني لا يظهر بصورته الكاملة من دونها، وهنا سأتكلم عن عدد من الأعمال التي نفذت في (صحراء العلا) في السعودية؛ فنجد الفنان الإماراتي محمد إبراهيم يملأ الصحراء بصخور ملوّنة (حمراء، برتقالية، زرقاء...)، بديل منطقي عن الأزهار التي لا تنمو بين الرمال، فنجد صخورا ملوّنة تنتشر فوق المدى الذهبي، فتكسر رتابة اللون وتحرّك الفراغ، وتضيء على بهاء حضوره وامتداده الشاسع، وقد عنون هذا العمل بـ (حديقة الصخور المتساقطة)

أما العمل الذي يحمل اسم «سراب» يقدمه الفنان التونسي الفرنسي «السيد» فهو يكدّس مجسمات الأحرف العربية فوق بعضها ويصنع منها واحةً شعرية، إذ إن هذه الحروف ما هي إلا أبيات شعرٍ لجميل بثينة -كما يُعرف- «ألا ليت ريعان الشباب جديد/ ودهرا تولى يا بثين يعود/ ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة/ بوادي القرى إني إذًا لسعيد»، ووادي القرى يقع ضمن حدود صحراء العلا، ووجود هذه الأبيات المكدّسة أعاد صوت الشّعر العربي لمنبعه، وكأن حصاةً حرّكت بحيرة الصّمت الراكدة.

كما نلمح هناك نهرا يروي ظمأ الصحراء، صنعته الفنانة السّعودية زهرة الغامدي وسمته «وميض من الماضي» يتكوّن من مجموعة من الأوعية المعدنية -حوالي 6000 وعاء- ووضعت داخل معظمها قطعا من المرايا المكسورة، جمعت الفنانة هذه الأوعية على امتداد 80 مترا فكان نهرها يعبر الصحراء ويمنحها حياةً جديدة.

الصحراء إذن ليست فقط مساحاتٍ (ذهبية، بيضاء، حمراء، بنية...) اللون ممتدة لمساحات شاسعة، بل هي تلك الرهبة التي تملؤنا ونحن أمامها أو أمام صورها وأعمال تحملها، فنغوص في اللانهاية وتسيل رمال الوقت من بين أناملنا، نسرح في تكوينات الكثبان التي تتمدد كأجساد بشرية نامت هناك ولم يغرها صخب الحياة الحديثة بالاستيقاظ مجددا، هي استكشاف ضجيج التفاصيل التي يرزح تحت كل هذا الهدوء، فتسمع صهيل خيلٍ بعيد، وغقغقة صقرٍ بالقرب، حفيف سعف نخلةٍ باسقة تتكدّس عند أقدامها كتلٌ من الأشواك تصنع أصدافا خضراء كامدة اللون.... تسرح في تأمّل تفاصيل اللوحة ورويدا رويدا تسحبك الصحراء لداخلها.

بسمة شيخو كاتبة سورية متخصصة في الفن التشكيلي