No Image
عمان الثقافي

الروائي طارق إمام لملحق جريدة عمان الثقافي: تكمن عظمة الرواية في تمثيلها للعالم

23 نوفمبر 2022
23 نوفمبر 2022

حظيت رواية «ماكيت القاهرة» للروائي المصري طارق إمام بالكثير من الاهتمام وكثير من الضجيج الموازي.. قد يعود الأمر إلى فضاء المعنى وانزياحاته الدلالية، ناهيك عن شغف موضوعها المتشعب الرؤى والأساليب والمهارات التي تقارب طبيعة الشخصيات بتقنيات فارقة ولغة تقترب من الشعر لكن دون أن تطغى على عناصر فن كتابة الرواية.

في هذا الحوار نحاول الاقتراب من الرواية من طارق إمام الروائي.

• كيف فكر طارق إمام في كتابة رواية «ماكيت القاهرة» التي أثارت كل هذا الضجيج؟

العمل على «ماكيت القاهرة» استغرق شوطاً زمنياً واسعاً يصل إلى عشر سنوات، منذ راودتني فكرتها لأول مرة، بالتزامن مع قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير سنة 2011، حيث كتبتُ المقطع الافتتاحي لها، وحتى انتهيتُ من مسودتها النهائية سنة 2020.

الإشكالية الأساسية كانت أن الرواية تنطلق من لحظة سائلة هي «ثورة يناير»، فهي لحظة تاريخية من جهة لكن لم تدخل التاريخ بعد من جهة أخرى، إذ أن تبعاتها ظلت تحيل إليها لتجددها كحاضر، ومن هنا كانت صعوبة إتمام نص أشعر أن الواقع نفسه يرفض أن يُغلق قوسه، ما دفعني للتساؤل عن الزمن نفسه داخل الرواية. الواقع الخارجي كان يُعدِّل الواقع الروائي ويغذيه أثناء الكتابة ذاتها، لتُطوِّر الرواية من نفسها وتستعصي على الاكتمال كلما ظننتُ أنني أوشكتُ على إتمامها، حتى أنها ظلت رواية «قيد التحديث» طيلة هذه السنوات، بل لقد صدرت أعمالٌ أخرى لي فيما أعمل في «ماكيت القاهرة» ككتابٍ لا ينتهي. لذلك فأنا أعتبر روايتي هذه، الحلم الذي تمنيته وشككتُ في تحققه أكثر مما تيقنت منه.

كانت الحكاية في ذهني، تتطور، أكتب وأمحو، لأزيل مرةً بعد أخرى إخفاقي في القبض على «النغمة» النهائية التي أريدها للحكاية. لا تتحقق الرواية أبدًا خارج الحرفة، لكنها لا تتحقق أيضًا بغياب إلهامٍ خاصٍ جدًّا، إلهام يختلف عن إلهام الشعر، عن إلهام الانفعال، إلهام اللحظة، إلهام البريق المتقطع، ذلك أن الإلهام الروائي تجري تنشئته حتى يصبح بمقدورك الاستعانة به وقت الحاجة، وذلك ما يجعله في تقديري ابنًا للاتصال وليس الانقطاع. هذا عنصرٌ ظللتُ أبحث عنه لخلق الإيقاع النموذجي لهذه الرواية، لأترجمه من حس داخلي لموجود متجسد عبر اللغة، ومن انفعال بواقع أنا متورط في ملابساته، إلى نزوع تأملي. وفور أن شعرت باكتمال هذا الإيقاع الشمولي، عرفتُ أن «ماكيت القاهرة» ستصبح، أخيرًا، كتابي الجديد.

• كروائي لديك متخيل جديد وفارق في استخدامك لتقنيات تدمغ الرواية العربية الأحدث بهوية جديدة في طبيعة السرد، وأسلوب الرواة، إذا لم أكن مخطئاً؟

أشكرك على رأيك وأتمنى أن يكون صحيحاً، فهذا ما أحلم به ويحلم به كل كاتب يطمح في التجديد. الكتابة مغامرة، ومقامرة دائمة مع المجهول. حاولتُ بالفعل أن أقدم نصاً يشتبك مع واقعه وتاريخه وتقنياته معاً، دون فصلٍ زائف بين الموضوعي والتقني، أو بين الدلالي والشكلاني، وربما جاء نجاح «ماكيت القاهرة» ليؤكد لي أنني لم أُخفق في المقامرة!

• من أين جئت بكل هذه القدرة على الكتابة والإدهاش حتى ليكاد أسلوبك يحبس أنفاس القارئ في مواضع كثيرة في الرواية؟

خيالي هو بطل كتابتي، وأحاول قدر الإمكان الاحتفاظ بمخيلة الطفل، ذلك أنها وحدها قادرة على منح المعقولية لكل ما لا يُصدَّق. أهم ما في الخيال أن تصدِّقه أنت، لا أن تكون متشككاً في مصداقيته أو -وهذا هو الأسوأ- مؤمنا بكذبه في أعماقك. أنا أمتح من اشتباك مخيلتي مع الواقع، طامحا في تأسيس خيال واقف على الأرض.

• كيف تفسر الرواج الذي وصلته له الرواية؟

أعتقد أن «ماكيت القاهرة» صادفت قارئاً عربياً جديداً يتخلق بقوانين مختلفة عن السائد وعما حبسه الآخرون فيه وكأنهم يحددون له ذائقته بالنيابة عنه. وبالتفاف هذا القارئ حول الرواية، بتزامن عربي مدهش، منحها هذا النجاح غير المتوقع، خاصة وهي نص تجريبي، متنها الأفكار، أي أنها ليست رواية تجارية للتسلية. هذا، في ظني، أكبر نجاح يمكن أن أحلم بتحقيقه عبر الكتابة

•هل ما ألمحت إليه في الرواية بزمن 2011 له علاقة في الإشارة إلى ثورة يناير؟

الرواية تشتبك مباشرةً مع ثورة يناير، بوضوح ودون مواربة، لكن بمقتضيات الفن. أُفضِّل التخييل على الترميز. «الرمز» دائما أيقوني، كنائي، وسهل الفض بالربط بين طرفيه: الدال، والمرجع.. أما التخييل فاستعاري، يخلق عالما كاملا موازيا له قدرة هائلة على أن يدل على مرجعيته بتعميق أسئلتها وليس فقط بالإحالة لها. هذا ما أردته لثورة يناير في نصي الروائي: حضور كامل، صريح، بآليات الواقع الفني وبقدرة الخيال ليس فقط على تعميق سؤال الواقع/ التاريخ، لكن أيضا بكشف جوهره الشعري.

•تشيع روايتك جماليات خاصة، فمجاراة صفحاتها لا يتم إلا بقدر ما ترتقي أنفاس الساردين من شخوص، في قلب المعنى وعين الأحداث التي يتماس جلها «بوسط البلد» ليبدو المكان بطلا أيضاً؟

غالباً ما يحضر الإنسان أولاً ثم يحضر من خلفه المكان كـ»مسرح للأحداث» كما تعوّدنا أن نقول. أنا طمحت في اقتراحٍ عكسي، فالمكان هو من يأتي بالإنسان، ومن هنا جاء التصدير:»الأمكنة تخلق قاطنيها. إن نشأت نسخة جديدة من بيت، ستنشأ نسخة جديدة من ساكن». المكان بالنسبة لي ليس خلفية أو مسرحاً للحدث. المكان هو ذاته الحدث.

أردتُ في «ماكيت القاهرة» أن أقارب انعكاسات الأزمنة على القاهرة، (ممثلةً في مركزها النابض: وسط البلد)، بالتزامن وليس التعاقب، كأنها تنعكس على مرايا متقابلة، مرايا مختلفة، مستوية ومقعرة ومحدبة، تنتج صورا متراوحة، بين الحجم الطبيعي والتصغير والتكبير، لتكشف كلٌ منها وجهاً للمدينة والإنسان المتورط في سيرتها.

أنتج هذا التصور، أو دعني أقول هذه الرغبة، طريقة تكوُّن الحدث الروائي، موزعاً على أربعة أزمنة: 2011 عام ثورة يناير، 2020 حيث الحاضر، 2045 في المستقبل، فضلاً عن زمن مستقبلي أبعد غير محدد.

التجوُّل بين الأزمنة لقراءة مكان واحد بشكل «رباعي الأبعاد» كان جزءا من مغامرتي وطموحي في كتابة «ماكيت القاهرة». كنت أريد أن أكتب رواية «مجسمة» بالمعنى الحرفي، تقرأها كأنك تتجول في مدينةٍ افتراضية لكنها توهم طوال الوقت بأنها مدينة واقعية. الأزمنة في الرواية جميعها دالة ومهمة في سياق القاهرة، من عام الثورة المصرية وما أحدثته من تغيير مهول على مستوى الأشخاص وعلى مستوى هوية المدينة التي هي في النهاية تمثيل لمصر، وعلى مستوى النظر لفكرة المقاومة والمشاركة السياسية، وهي الأفكار التي ظل جيلي بعيداً عنها، حيث أننا، وبخلاف الأجيال الأسبق من المثقفين، لم نمارس العمل السياسي إلى جوار العمل الفني وأغلبنا لم يكن عضواً في حزب أو تنظيم مثلاً، خاصةً وأننا جئنا في لحظة كانت الحياة السياسية فيها قد فُرغت تماماً، كذلك هناك سؤال علاقة ثورة يناير بالفن نفسه، بدوره وفاعليته، وبتصدر فنون بعينها للصدارة مثل الجرافيتي. هناك عام 2020، عام وباء كورونا، الذي يمكن ترجمته بوضوح لسؤال عزلة الفرد وخوفه من مصير مجهول وطوفاني، وهو أيضا عام شهد قطع خطوات بعيدة في تجسيد ملامح «العاصمة الجديدة» كواقع ملموس بعد أن ظلت طويلا محض فكرة هلامية على الورق. وهنا يجئ سؤال عن مصير القاهرة كمدينة مهولة تختصر بلداً كاملاً وربما تختصر الوجود نفسه لدى قاطنيها، وهي تتراجع خطوة للخلف لتصبح محض ظل لمدينة شابة ستحصل على مكانها. هناك المستقبل، وأسئلته، كامتداد للماضي والحاضر. التجول بين الأزمنة هو صورة للتجول في طبقات مدينةٍ لا تكف عن التساؤل عن هويتها، وفي القلب منها أفراد يعملون بالفن تحديدا وهم يتساءلون في كل لحظة عن دورهم ومغزى وجودهم ومدى قدرتهم على الفعل والتغيير في مدينةٍ لا تكف عن مطاردتهم وإدانتهم. لذلك فماكيت القاهرة هي في جوهرها أيضاً رواية عن الفن وقد أصبح موضوعاً للفن.

كان عليّ ألا أنسى ارتباك الحاضر، الذي، للمفارقة، يُعمق وهم أننا نستطيع الجزم بكل ما لا نعرفه، فيما نواجه الضياع، الضياع الحقيقي، حين نكتشف عجزنا عن تعريف اللحظة التي ظننا، بداهةً، أنها أكثر ما التصقنا به. ربما جاء هذا كمأزقٍ آخر، حاربتُ كثيرًا كي أمنحه، بقوة التخييل، حكاية تُعلي من شأن حيرتها، وأتمنى أن أكون قد نجحت.

• اعتقد البعض أنك لم تفز بجائزة البوكر.. لكن روايتك فازت بالطبع؟

«ماكيت القاهرة» فازت بكل شيء: الحفاوة النقدية العربية، والمقروئية العالية، حازت التقدير الفني والرواج التجاري معاً، وصلت للنخبة ولعموم القراء، وهو رهان عمري ككاتب.. وبصراحة شديدة، فإن هذه الرواية بلغت ما لم يكن يمكنني تخيله قبل صدورها.

• إذا من أين لك هذا السحر في الحضور والتواري معا كمؤلف، فلا تكاد تشير إلى من حولك إلا رمزا؟

أصعب تحدٍ يواجهه الروائي هو كيفية حفظ اتزانه في موقع مراوح، بين حضوره الحتمي، والكُلِّي، كصانع للعالم الروائي كله، وبين تواريه خلف شخصياته بحيث تنسى وجوده لتعتقد أن النص هو من كتب نفسه. الروائي في تقديري محرك دمى، لاعب ماريونيت في الظلمة يغمر النور ذواته الفنية كأنها تتحرك دون خيط. وهو يغير صوته مثل دوبلير مع كل شخصية، بحيث تسمع أصواتاً كثيرة مختلفة، كلها تلونات حنجرة واحدة.

• قدمت روايتك: اقتراحات خلاصية عبر سرد غرائبي معجون بعمق وخفة لغة وأساليب متعددة وفقا لشخصياتها هل صحيح هذا أم؟!

مبدئياً، أرى أن التفاتي لعنصر الخيال هو التفات لجوهرٍ عميق في موروث الحكي العربي وفي نظرة الثقافة العربية للعالم، بل وفي نظرتنا للحاضر الملتبسة بالخرافي والخارق والماورائي في تفسير أشد الظواهر اتصالاً بالمنطق. الفن يعكس الثقافة كمفهوم أشمل ودور الكتابة التخييلية في تقديري، وبدءاً من هذا المصطلح نفسه، هو إعادة تعريف الواقع (والعالم من ثم) فنياً. إعادة التعريف هذه تقبل طرقاً عديدة في تناول الواقع، وكل المدارس الفنية من الواقعية للدادية للسوريالية للرمزية للتعبيرية للواقعية السحرية للديستوبيا إلخ، تحاول إعادة تعريف الواقع على اختلاف الطرائق. أنا أرى الواقع ملتبساً بالخيال وأحب أن أتحرك في هذه المسافة العمياء بين ما هو ممكن وما هو مستحيل، ذلك أنني أرى أن الوجود يتحرك في هذه المسافة المراوحة بين الوهم وما نظنه الحقيقة، وفي المركز سؤال الإنسان، العالق طوال الوقت بين الفيزيقي والميتافيزيقي، التجريبي والمجرد، الحسي والصوفي، بل وحتى العلمي والخرافي، باحثاً عن الخلاص والحرية، ولا أعتقد أنه يكفيه باب واحد لتعريف العالم انطلاقاً من نظرية المحاكاة التقليدية. وإجمالاً، أرفض فكرة الثنائيات، وأرى أن الالتباس هو الحقيقة الوحيدة بما في ذلك التباس ما ندعوه بالواقع بما ندعوه بالخيال.

• بدت الرواية مقتصدة في الأداء واللغة والقول الفلسفي وإيحاء الصمت كلغة ليبدو فعل السرد باعثا على التأمل في عمق العبارة، وصدمتها لحواس قارئها كمكان بذاته؟

الصمت سؤال جوهري داخل الرواية، وتجري مقاربته كلغةٍ مقموعة وليس كنقيضٍ للِّغة. أنا ابن الشعر، وأبحث عنه، وهذا يحكم استخدامي اللغوي مهما طال حيز الرواية.

• إذا كانت» الرواية التي تهتم بإظهار تفاصيل ثقافة المجتمع، هي التي تجعل العالَم يهتم بقراءتها، حتى يرى القارئ العوالم والثقافات الأخرى»، فما هو شكل الرواية المتغايرة معها بالمقابل؟

أعتقد أن على النص الروائي أن يقدم خصوصية الثقافة. لا أعتقد في روايةٍ «كونية» دون اشتباك حقيقي مع سؤالها الثقافي الخاص، ولا أرى تعارضاً بين الخطين. الرواية خطاب، رؤية للعالم استناداً للسياق، وليست فقط محض جهد شكلاني. بل إن العنصر الشكلاني بالنسبة لي هو جزء من الرؤية.

• كيف ينظر طارق إمام إلى اللحظة الراهنة والمحتدمة عالميا وعلاقتها بالسرد؟

كل ما يحدث في العالم سرد، وبين قوسي «السرديات الكبرى» و»السرديات الصغرى» يتموقع الإنسان ويتحرك، لذا لا أعتقد في هذه الثنائية العقيمة، ولا أصدق موت السرديات الكبرى أو إزاحتها خارج الفن (لا سيما وأنا كاتب مصري عربي شرق أوسطي)، ولا أرى في الإقصاء القسري لأي عنصر من الخطاب الأدبي بما في ذلك الخطاب السياسي سوى خدمة لخطابات السلطة القمعية. إن المطالبة باستبعاد السياسة من الفن هو نفسه تحريض سياسي. السرد الفني يشتبك مع الوجود كسردية دون فواصل واهية، وعظمة فن مثل الرواية تكمن في طموحه ليكون تمثيلاً للعالم.

• العالم غدا شاشة كبيرة، كتابا مفتوحا على الجهات، وما يتبقى للرواية من نصيب في الحضور والتأثير والتفاعل، هل يعول في رهانه على قارئ مستقبلي لها؟ هل يلمس القارئ عالما عبر تأثير الرواية، أم عبر مسطح لوحي، ووسائط متعددة؟

يتبقى للرواية دائماً: الحفاظ على أدبيتها، فهذا ما يضمن لها ألا تصير جزءا من منافسة مع أي وسيطٍ آخر مادته الحكي. الوسائط التي أشرت أنت إليها ضاعفت، للمفارقة، من انتشار الرواية ولم تخصم من رواجها، فقد أذابت معوقات التوزيع ومشكلات توفر الكتاب الورقي فور صدوره، وبخاصة في العالم العربي، ووسعت رقعة القراء الذين لا يذهبون للمكتبات. لو كان للرواية أن تنقرض، لانقرضت منذ ظهور السينما، ثم التليفزيون، ومن قبل ذلك، لكان الحكي الشفاهي أغنى عن ظهورها كسردية مدونة. الرواية لا تخشى التحولات، ذلك أن مادتها هي التحولات بالذات. وقارئ الرواية لا يبحث عن حكاية «والسلام»، قارئ الرواية يبحث عن حكاية «مكتوبة»، وهذا القارئ لن ينقرض أبداً.

• بعض الكتاب يقتربون «في شطح مكين» من وظيفة «المحلل السياسي» الذي أفسد الشاشة وسمم علاقات الشعوب ببعضها، ما هي وظيفة الروائي كما يراها طارق إمام تحديداً؟

إذا كانت السياسة هي فن الممكن، فإن الرواية هي فن المستحيل. الانتصار للفرد، إعلاء خطاب الهامش، كشف المسكوت عنه في الواقع والتاريخ، إعادة تعريف الخطابات المستقرة سياسياً ودينياً وجندرياً، بل إعادة تعريف اللغة نفسها، كل هذه إمكانات للفن لا تتيحها خطابات التداول الغائية وعلى رأسها الخطاب السياسي. الاستطيقي: «الجمالي» يحتمل السياسي في ظني بل ويحمل مسؤوليةً تجاهه، لكن الفارق هو في موقعك: هل تتساءل أم تجيب؟ هل تنطلق من يقين دوجمائي أم من شك وجودي؟ هل تخاطب قطيعاً بغية استهلاك مقولات قطعية أم تجادل فرداً استناداً لنسبية التصور؟ هذا ما يجعل من الخطاب السياسي لكاتب مثل «جارسيا ماركيز»، على سبيل المثال، موقعاً في نصه الجمالي، يجعل من رواية موضوعها الطاغية كـ«خريف البطريرك»، أشد نصوصه جمالية على الإطلاق.

•هل تكتب من واقع مرجعيتك الخاصة، مفاهيمك في السرد، وللسرد، ومن خلاله، تحدث إن أحببت، عن، كيف ترى في الروائي، معناه، وفي الرواية: حضورها الناجح؟

الرواية ليست «حدوتة والسلام». الرواية تختبر المفاهيم كافة، من المفاهيم الاجتماعية والسياسية إلى المفاهيم الجمالية نفسها. وتاريخ الرواية في ظني هو حركة باتجاه توسعي يختبر قدرتها على مناقشة كل المفاهيم. الرواية، بهذا المعنى، هي الفن الإمبريالي للعالم.

•هل من الضروري على الكاتب الروائي أن يتمثل دور الفيلسوف أو يقاربه مثلا، كيف ترى المعرفة في الرواية؟

بالتأكيد تحتمل الرواية تجسيد السؤال الفلسفي، حتى المجرد، وتحويل الأفكار إلى أنفاس. وقد فعلها بالفعل فلاسفة مثل فولتير، وسارتر، وألبير كامو، ومنظرون مثل أمبرتو إكو. الرواية هي الشكل الفني القادر على منح الأفكار لساناً تداولياً، وهذا في تقديري أحد أدوارها، بل أنه بات هناك ما يسمى بـ«الرواية النظرية»، أي التي تحتفي حتى بالأفكار المجردة داخل متنها السردي.

• اللحظة السردية، كيف تراها، هل يجوز نعتها بمزاج متبدل أو ثابت، أو متغير في ثباته، وكيف تتعين عزلة الروائي في مجلى كهذا؟

اللحظة السردية في العالم كله شديدة السيولة والغزارة، وموقع الروائي بالنسبة لي مراوح بين التأمل والانخراط، بين إذابة المسافة مع العالم لتورط حقيقي، ثم خلق مسافة لتأمل التجربة والعثور على استخلاصات. لا أؤمن بالموقع الثابت للروائي، اقتراباً وابتعاداً، وأعتقد أنه ينبغي أن يظل عالقاً إن أراد أن يمسك بالشمعة من طرفيها.

• ما الأشياء التي قد تعكر طقس الكتابة لديك؟

لا شيء يعكر صفو الكتابة بالنسبة لي. أعتقد أن الكتابة ذاتها معركة واشتباك مع الوجود، فهل يمكن أن تنغص معارك فرعية هذا الشجار الرئيسي؟ على العكس، أرى أن افتعال معارك من المحتقنين أو الحاسدين مؤشر إيجابي دائماً على أن ثمة حجراً حرك الماء الراكد.

• هناك من انتقد تجربتك بشكل واضح.. هل للأمر علاقة بأعداء الكاتب؟

قلت من قبل، وأكرر: هذه «صدقة النجاح». للماغوط تعبير بليغ: «ما من موهبة تمر دون عقاب»، وفي سياق مشهد أدبي عربي لا يخلو من المحتقنين وأشباه الأدباء ممن تسللوا للحياة الثقافية العربية متكئين على سيولة النشر الآن، لا يمر نجاح دون مطواة يشهرها قاطع طريق. «ماكيت القاهرة» مدينة بالكثير من النجاح لكارهيها، وهذه فرصة لأشكرهم بصدق.

• تنتفي مركزية البطل المحوري، وان تفاوتت، مستويات الحضور أو الانحجاب، بين هاته الشخصية أو تلك، لتنطلق مرايا الحكاية في تناسل عجيب، يستأثر القسط الأكبر منها «منسي عجرم» بكتابه إذ يغدو كمرجع لمعرفة ما لا يعرف؟

أحد أدوار الفن في تقديري، والفن الروائي بالذات، تفكيك المرجع الجمعي لصالح تأسيس مرجعية فردية، يغدو معها الاستناد للجاهز أو الموروث بلا طائل. كتاب «منسي عجرم» مرجعية روائية لا وجود لها في الواقع لكنها تشير إليه بمحاكاة ساخرة أو هزلية، انطلاقاً من اسم المؤلف نفسه، ووصولاً لطبيعة المرجع المتخيل، والذي تتغير فحواه بتغير قارئيه أو «معتنقيه»، حرفياً هذه المرة وليس على سبيل المجاز. «البارودي» سلاح ناجع في المجتمعات القمعية، نوع من الالتفاف ينجح في الإحالة ويُفلت في الوقت ذاته من العقاب، وفوق ذلك، ليس هناك ما يمكن أن يقض مضجع الثوابت أكثر من التهكم وتحويل الثقيل الراسخ إلى خفيف متحرك.

•المكان المؤثث روائيا، يظل قابلا للتخييل، كما زخرت به أمكنة الرواية من شخصيات بلبوس حداثية، ما وجه اختلاف شخصيات روايتك، عن أمكنة وأبطال روايات محفوظ؟

المواجهة في الفن جوهرها الهرب. أنت تواجه طريقاً فنياً مكرساً حين تسير في طريقٍ آخر. إن أردت مواجهة محفوظ لا تمشي في شارعه. أعيش في قاهرة لم يرها نجيب محفوظ بالأساس، وأتناول في (ماكيت القاهرة) لحظات تاريخية مات محفوظ قبل وقوعها بسنوات (انطلاقاً من ثورة يناير 2011 مروراً بجائحة 2020 وحتى سنة 2045 التي لم أدركها أنا نفسي بعد). أنا إذن لم أخض الملعب المحفوظي من الأساس، ولا عدتُ لكتابة القاهرة التي عاشها هو، فضلاً عن أنني لا أعتمد الآليات المحفوظية في الكتابة، لا على مستوى اللغة ولا الشكل (أو الأشكال الروائية) التي استخدمها. رواياتي مثلاً تميل للميتاسرد، وهي طريقة فنية لم تعرفها الكتابة المحفوظية، كما أنني أجنح للفانتازيا التي لم تكن متن التجربة المحفوظية. وإجمالاً، أنا مؤمن بأن لا وجود لشخصين يعيشان في المدينة ذاتها، حتى لو حملت نفس الاسم.

•لفتتني عبارة لك تقول «أحب اختبار الأدب التجاري في سياق من الأفكار الكبرى»، يذكر هذا بالأدب السريع، وبجورج سيمنون الفرنسي، الذي كان يكتب رواية في يوم واحد، أو في عدد محدود من الساعات؟!

لو قصدتُ ذلك ما كتبتُ ماكيت القاهرة في عشر سنوات. ثمة فارق بين أن تكتب رواية تجارية، سريعة الاستهلاك، وبين أن تستعير ثيمات تجارية مثل أدب الجريمة، التحري، الحب، أو حبكات تنتمي للأدب الرائج من أجل تطويعها لنصٍ البطل فيه هو الأفكار والتأملات.

•سمت أبطالك الحركة لا الثبات، يطالعنا بذلك خط سيرها ومساراتها في «ماكيت القاهرة»، هل أردتَ أن ترى « ذواتهم المتمردة على سلطة كارديناليّة» أم «متاهة» كبيرة لشخصياتها وقارئيها معا؟

تحصل الحركة على ذروة انتباهها لنفسها في التيه، تغدو نوعاً من التفكير وليس تقدماً آلياً كما يحدث في مكان نعرفه. المتاهة سؤال آخر مركزي داخل الرواية، وأنا أعرِّفها داخل النص بأنها «انتفاء التمايز» ليس فقط في المكان، لكن في اللغة. أنا مغرم بفكرة المتاهة، لأنها تمثيل لانتقاء المعرفة الاستباقية، التيه هو البحث، والعنصر المركزي في المتاهة هو سؤال الخروج، فيما كافة الأمكنة في الوجود تحظى بقيمتها من سؤال الدخول. كيف يخرج الإنسان، كيف ينجو، كيف يعثر على الباب؟ إنه سؤال الوجود في ظني.

*ما سر رسوك عند سقف زمني اعلى حددته لروايتك بعام 2045، هل قصدت بذلك رؤية للمستقبل، كمنجز لا تفكر فيه حتى وزارات التخطيط والتنمية والإنشاء العقاري؟!

أحد أدوار الفن الجوهرية في تقديري القدرة على الاستشراف، والتنبؤ، وتقديم المستقبل وكأنه واقع معيش. لقد فعل الفن ذلك كثيراً في تيارات أدبية نوعية كالخيال العلمي، القائم جوهرياً على تخيل العالم في المستقبل، والمدهش، أن الكثير من نبوءات هذه النصوص بل والاختراعات العلمية أو الأكوان المجهولة التي تخيّل كُتّابُ هذا النوع وجودها يوماً ما، قد تحققت بعد ذلك. هناك تيار أدبي آخر هو «الديستوبيا»، الذي يمثل النزوع المستقبلي عنصراً جوهرياً في تعاطيه للعالم، ولنا في «جورج أورويل» أسوة حسنة روائيا.

في « ماكيت القاهرة» أسستُ زمنين مستقبليين وليس واحداً. هناك العام «2045»، وهناك زمن أبعد حضر في نهاية الرواية، لم أحدده برقم لأنني أردت أن أقول إنه قد يكون أي مستقبل. ربما أردت أن أمارس دوري الفني والفكري معاً بالاستشراف، عبر سؤالين متقاطعين: «ماذا لو»، و»ماذا بعد». المستقبل هو في النهاية «المصير»، وأنا في «ماكيت القاهرة» أتحدث بالأساس عن مصير الإنسان والمكان باعتبارهما وجهين لموجود واحد.

•هل تدفعك الرغبة كأمنية حافزة لكتابة قصة قصيرة، في لحظات بعينها، لعلك وحدك من يدرك ذلك الشغف الأثير والحميم؟

لا أتوقف عن كتابة القصص. أصدرت خمسة كتب قصصية وهو عدد غير قليل إذا ما قورن بعدد رواياتي (7 روايات) أي أنني من الكتاب الذين يحظون بتوازن بين إنتاجهم القصصي والروائي. ولديّ مجموعة قصصية تنتمي للقصة الومضة أكتبها على مهل منذ سنوات ولا أتعجل ظهورها للنور.

بالنسبة لي، القصة القصيرة والرواية في عالمي هما بنايتان يصلهما الممر نفسه الذي يفصل بينهما. في قصصي ثمة شخصيات أتت من روايات، والعكس. في عالمي «السردي» الأشمل، يمكن أن تصبح قصة ما جزءاً من رواية، أو تتسع لتصبح بذاتها رواية، مثلما يمكن أن تخرج شخصية من رواية لتصبح بطلاً لقصة، أو أن تتكثف حبكة رواية مرتدةً إلى قصة. الحوائط بين الأنواع مرنة في تقديري، والتهجين جزء من حرية الكاتب. علينا أن ننتقل من سؤال «لِمَ» الضيّق، إلى السؤال الأرحب، سؤال الفن: «لِمَ لا؟».

• لو لم تكن القصة في البدء، هل كان طارق إمام ما هو عليه الآن من الحضور والرضى النفسي بتجربته الوازنة؟

لا أتخيل أبداً أن أكون بدأت روائياً. القصة أكدت لي عدداً من العناصر الجوهرية، أو الركائز، في عالمي السردي الروائي، وأهمها اختبارات الوظائف الشعرية للغة داخل محكية، تطويع الفانتازي ليصبح جزءاً من العلاقة بالواقع، الالتفات للمحكيات الصغيرة كشرايين تغذي المحكية الكبيرة أو الإطارية. أعتقد أن القاص بداخلي يدير الكثير من العناصر داخل العمل الروائي.

• اكتسبت تجربتك الموهبة في الكتابة، والحفر بعيدا عن اجترار تأثيرات وظلال آخرين، كيف تم لك الأمر، في حين يراهن كثيرون اليوم على إعطاء دروس خاصة في السرد؟!

على الكاتب أن يعرف جيداً كيف يتحصل على خصوصيته. هذه مسألة يغذيها «حدس الموهبة»، فالموهوب دائماً لديه حدس سوي، ثم تدعمها الثقافة، لكي تحدد موقعك بالضبط في هذه الخريطة الشاسعة، ولتعرف أين يجب أن تضع قدمك.

• ما المدى الذي تركته رمزية «الماكيت» بعد أن خلخلت عالما في حواس مقروئية وتأويلات التلقي، وما تزال، تبعث على الحيرة والاكتشاف والتساؤل معا؟

هذا بالضبط ما أبتغيه من الفن: خلخلة السائد، ليس فقط على مستوى الأفكار، بل على مستوى الشكل نفسه، لأن الشكل ليس مجرد مظهر، الشكل أيديولوجيا، «عمود الشعر العربي» كشكل، أيديولوجيا، «قصيدة النثر» كشكل: أيديولوجيا، رواية الأصوات: أيديولوجيا.. إلخ. على الفن في تقديري أن يعيد تفكيك السائد انطلاقاً من الشكل.

• تعج «ماكيت القاهرة» بالضحايا، هل ما زلنا نعيش، «زمن القتلة»؟

لكل زمن قتلته، والفن كان دائماً ـ كإصبع بطلي «أوريجا» ـ سبابة طفل يتمنى إطلاق رصاصة افتراضية على جميع من يحترفون الضغط على الزناد.

محيي الدين جرمة شاعر يمني