No Image
عمان الثقافي

الرقم 115

29 أكتوبر 2025
29 أكتوبر 2025

شريفة التوبي -

في أحد فنادق العاصمة بانكوك، في الغرفة رقم (115) من الطابق الأول، وعلى رنين المنبّه تستيقظ لطيفة من نومها بعد ليلة تخلّلتها أحلام شتّى. تُوقف رنين المنبه الذي يشير إلى الساعة السادسة صباحا، تتمطّى وتتثاءب، ترفع يديها وتثنيهما إلى الخلف، تطقطق عظام رقبتها وتميلها يمنة ويسرة، في تمرين صباحي اعتادت ممارسته؛ منذ أن طلبت منها المعالجة الفيزيائية ذلك، بعد إصابتها (بديسك الرقبة).

تُصلح لطيفة جلستها بإسناد ظهرها على ظهر السرير، تضمّ ركبتيها وتغمض عينيها، تحاول تذكّر الأحلام التي حلمتها ليلة البارحة، لكنها لم تستطع تذكّر شيئا منها، تطلق تنهيدة طويلة وهي تنظر في زوايا الغرفة الغارقة في العتمة، فلولا رنّة المنبه لظنّت أن الوقت ما زال ليلا. تضغط على الزر الموجود بالقرب من سريرها، فيضيء المصباح أرجاء الغرفة، وعلى ضوء إنارة المصباح الصفراء تتضح أمام عينيها معالم المكان الذي لم يتغير منه شيئا منذ أن غادراه هي وزوجها قبل ثلاث سنوات (شكل وملمس ملاءة السرير البيضاء، رائحة معطّر الأقمشة على الفراش، الخدش البسيط على طرف الطاولة الخشبية، شاشة التلفاز الملصقة على الجدار المقابل للسرير، ركن القهوة، صورة المرأة الجميلة التي تقطف الزهور في اللوحة المعلّقة أعلى السرير، ستارة النافذة السميكة الترابية اللون، الحاجبة للضوء بنسبة كاملة)، تتذكّر أنها حين بدأت هي وزوجها تأثيث بيتهما الجديد، بحثت عن قماش الستائر هذا طويلا، ولم تعثر عليه، وحينما أخبرته عن رغبتها في شراء قماش مثله، لبّى رغبتها على الفور وطلبه لها من إحدى محلّات الأثاث في تايلند، وقد وصلت الشحنة متأخّرة بأسبوع بعد عودتهما إلى مسقط، ومنذ ذلك اليوم والقماش في غرفة المخزن لم يُمسّ، وتتجنّب حتى النظر إليه.

***

تعلم لطيفة أن في كل علاقة بين أي عاشقين خيط خفيّ لا يُرى ولا ينقطع، وبالنسبة لهما كانت الكتب خيطهما الرفيع الذي لم ولن ينقطع، فلم تكن هناك من قصة عشق طويلة بينهما تُحكى أكثر من «اثنان جمعها حُب الكتب»، ذلك ما كانت تقوله في ردّها المقتضب على الأسئلة الخبيثة التي تسألها إياها صديقاتها في محاولة معرفة قصّة لقائهما وسرّ المحبّة الكبيرة بينهما. لقد اختارا بعضهما عن قناعة كاملة وفي عمر ليس صغيرا، كلاهما كان يبحث عن شريكه المنتظر، لقد رفضت قبله الكثيرين، وحينما التقته ذات مساء في أمسية ثقافية، عرفت أنه الرفيق المنتظر الذي ستضع يدها في يده، وهي سائرة في طريق العمر. وبقدر ما هي بسيطة في كل شيء، جمالها، ملابسها، مكياجها، أسلوب حياتها، كان لقاؤها به بسيطا أيضا، كل شيء أتى وفق خطّة قدرية، وكل ما أتت به الأقدار تهيأت له أسباب اكتماله، فحينما اتخذا قرارهما بالزواج، لم تخض لطيفة حربا مع أهلها، ولم يخض هو حربا مع أهله، كل شيء سار بسهولة ويسر وكما أرادا. ولأنّه كان مُحبّا للأدب وهي كذلك، كان أول لقاء لهما في إحدى الأمسيات الثقافية، شهر واحد فقط وليس أكثر منذ التقيا وتحدّثا حتى أدركا سرّهما المشترك، وحين طلب يدها، استشارت قلبها، ووافقت على الفور.

تذكر لطيفة قبل تسع سنوات، أي بعد عام من زواجهما، اتصل بها زوجها وهو عائد من عمله، وأخبرها أنّه شرع بالتخطيط لبناء بيت لهما، على أرض اشتراها حديثا مقابلة لشاطئ العذيبة، لقد أعدّ كل شيء ولم يبق سوى موافقتها وتعديلاتها على خريطة البناء، بيت صغير من طابق واحد، بحديقة واسعة، وقد كان البيت هديته لها في عيد زواجهما الأول، بعد عام قضياه في شقة مفروشة بإحدى العمارات في منطقة الخوير، التي أصبحت بالنسبة له منطقة قديمة، وخانقة، ومزدحمة بالقوى العاملة الوافدة، ولقد أشرفا معا على كل التفاصيل في بناء بيتهما، حتى انتهى بناؤه قبل انتهاء العام وقبل احتفالهما بعيد زواجهما الثالث.

***

يتناهى إلى سمعها أصوات أبواق السيارات والعربات الصغيرة وأجراس الدرّاجات، ما زال الوقت مبكّرا، وكل هذه الأصوات لا تُنبئ بأن الحياة استيقظت في بانكوك، تقول في نفسها: إنّ أسوأ ما في هذه الغرفة وقوعها في الطابق الأول، ونافذتها المطلّة على الشارع، والأسوأ من ذلك أن جدران الفندق ونوافذه غير عازلة للصوت، تذكر أنّه حين اتصل زوجها بمكتب الاستقبال في محاولة لتبديل الغرفة وليكونا في طابق أعلى، أخبره الموظف أنّ الغُرف جميعها محجوزة، ولا مجال لاستبدالها.

تتطيّر لطيفة من الأرقام الفردية، ورقم الغرفة المكوّن من ثلاثة أرقام فردية زرع في قلبها شيئا من الخوف لم تصارح به زوجها، تتنهّد وهي تمدّ يدها إلى الطاولة وتتناول مقبض شعرها حيث تركته مساء أمس قبل أن تنام، تردد في نفسها الكلمة التي قالتها من قبل في زيارتهما الأخيرة «لعله خير». لمّت شعرها المنسدل على ظهرها، والمتناثر على جبينها في قبضة واحدة، وبقيت في السرير متنعّمة بدفء الفراش في الغرفة الباردة. الوقت ما زال مبكّرا على الخروج، الساعة لم تتجاوز أكثر من عشر دقائق بعد السادسة، المحلّات مغلقة، والمقهى الذي تنوي الذهاب إليه لتناول الإفطار لم يُفتح بعد، وهو ليس بعيدا عن الفندق. لقد تعمّدت عدم إضافة وجبة الإفطار ولا أي وجبة أخرى حين قامت بإجراءات الحجز كما يفعل زوجها دائما، الذي يحب تجربة تناول الأكلات الغريبة والعجيبة في كل بلد يزورانه، ليكتشفا معا كل يوم مذاقا جديدا من مذاقات المطابخ العالمية. ورغم إصابتهما بالتسمم ذات سفر، وتحذيرها له من طعام الشوارع، إلاّ أنّ ذلك لم يردعه من تكرار التجربة، فالطعام بالنسبة له ثقافة لا تقلّ عن أي ثقافة أخرى في البلدان التي يزورانها في العالم.

في مثل هذا اليوم وقبل ثلاث سنوات كانا هنا معا، في هذا الفندق، الغرفة رقم (115) المطلّة على شارع سئمت من النظر إليه، من شدة قذارته وضجيج الأصوات المزعجة التي تتناهى إلى سمعها كل صباح ومساء. لقد كان اختياره للفندق بسبب قربه من المستشفى الذي يجريان فيه فحوصاتهما الشاملة، ولم يكن قد اختار هذه الغرفة عن قصد وتعمّد، فقط لأنّها الغرفة الوحيدة المتبقية، (لكل شيء سبب ولسبب)، ذلك ما قاله زوجها حين سألته عن السبب في أن يكونا في هذه الغرفة بالذات دون غيرها.

- لا بد أنك قرأت هذه العبارة في إحدى روايات هاروكي موراكامي. قالت له ضاحكة.

فضحك معها وقال:

- هاروكي موراكامي كاتب غير عادي، قليل من يكتب مثله.

تعرف أنه لا يفوته شيء من روايات هذا الكاتب، وبسببه أحبّت أيضا هي كتبه، وقد أهدته في عيد ميلاده الأخير الأجزاء الثلاثة من روايته (يوميات طائر الزنبرك)، فكانت الهدية الأجمل من كل الهدايا التي أهدتها له في السنوات الماضية، وبسبب موراكامي أصبحت في مكتبتهما زاوية خاصة بالأدب الياباني.

***

تزيح اللحاف عن ساقيها، تنهض بتثاقل من السرير الواسع، تدخل قدميها في حذاء الفندق، بناء على طلبه الدائم منها في كل سفر. تفتح ستارة النافذة، لقد اشتاقت إلى المنظر الذي كانا يشاهدانه معا من خلف زجاج النافذة، «المنظر الذي لا يغري إنسانا عاقلا بالنظر إليه» هذا ما قالته له حين رأته ينظر إلى بائع شرائح الموز المقليّة العجوز، الذي يقف بعربته على رصيف الشارع المقابل لنافذة غرفتهما، سألته وعيناها تراقبان الرجل الواقف خلف العربة في الأسفل:

- ترى هل هناك غيرنا يقف مثل هذه الوقفة لمراقبة هذا الرجل؟

- ربما، المنظر يستحق التأمّل... نحن لا نراقبه نحن نتأمّله.

تضم لطيفة يديها حول صدرها، تشمّ رائحة عطره التي تملأ ثيابها، تراه يخرج من الحمّام لافّا فوطة بيضاء حول خاصرته، يحتضنها، يمطر وجهها بالقبلات، تتعجب منه ومن لهفته تلك التي لا تخفت، تضحك على دغدغة همسه لها (أحبّك)، وكأنهما في العام الأول من زواجهما رغم مرور عشر سنوات. لا تنكر أنّها كانت تصاب بالملل والضجر من التصاقه الدائم بها، أحيانا تريد خوض مغامرة شجار بينهما، كما يحدث مع صديقاتها، أحيانا تفتعل مشكلة كي تراه غاضبا، لكنّه لا يغضب، بل يقابل كل ذلك بهدوء تام حتى تضحك، وحين تحدّث صديقاتها عنه يتعجّبن، يقلن لها إنه أمر غير طبيعي، فما من رجل إلا ويفتعل مشكلة حتى يجد فرصة أو سببا للخيانة، كيف لزوج لا يخون؟ كيف لرجل لا تكون له علاقات عابرة؟! لكنّه لم يخنها يوما، وما من إشارة دلّـتها على خيانته لها، كل شيء كان مفتوحا أمامها، هاتفه، جهاز حاسوبه، حياته، (هذا رجل من الجنة...) قالت صديقاتها متضاحكات. شيء واحد ظنت أنه سيكّدر عليهما صفو حياتهما، أنهما لم يرزقا بأطفال، وقد ذهبا إلى كل مكان لإجراء فحوصات طبية، وأتت النتائج أنهما بخير، ولا شيء يمنع الإنجاب، وما أن عرفا هذه النتيجة حتى قال لها إنّ الأمر لا يستحق التعب والقلق، فهو راضٍ ومكتفٍ بوجودهما معا، ومنذ ذلك اليوم تجاهلت الأمر، فحبهما الذي راهنت عليه الدنيا بأسرها كان يكبر وكل شيء آخر يصغر أمامه.

***

تفتح ستارة النافذة، انتشر ضوء الشمس في كل أنحاء الغرفة، تخبرها رطوبة الشارع، وبرك الماء الضحلة أن السماء أمطرت ليلا، وستمطر بعد قليل، أجواء هذه المدينة مخاتلة، فلا أحد يأمن لشمسها أو مطرها، تتسلل إلى أنفها الروائح المنبعثة من الشارع والتي هي مزيج من روائح زيت قليّ معاد استخدامه، وروائح غريبة مقززة كرائحة بول أو براز، تغلق النافذة قبل أن تشعر بالغثيان، ولا تبرح مكانها، تنظر إلى بائع شرائح الموز المقليّة، الواقف خلف طاولة القلي، وكأنه لم يتحرّك من مكانه منذ ثلاث سنوات، لا شكّ أنه وصل باكرا، فهو أول من يصافح الصباح في ناصية الشارع، كما وصفه زوجها. ورغم كبر سنّه، وهزال جسمه، تراه ينزل سبطا كبيرا من الموز، يضعه على الطاولة وبخفة يد ماهرة يبدأ بتقشير أصابع الموز وتقطيعها إلى شرائح طولية، ومن ثم نقلها من الإناء الأول إلى إناء آخر لغسلها، وقبل أن يرميها في مرجل الزيت الحار الذي أشعل النار تحته من قبل، يرش عليها مسحوقا أبيضَ أشبه بالطحين، وقبل أن يناول المنتظرين في الطابور حصصهم من تلك الوجبة الصباحية مقابل مبلغ نقدي يدسونه في يده، يرش عليها قليلا من السكر.

تشيح لطيفة بوجهها بعيدا، ففي مثل هذا اليوم وهما يتأملان البائع وعدها زوجها أنه وبعد حصولهما على نتائج الفحوصات الطبية الشاملة التي قاما بها فور وصولهما، سيشتري لها موزا مقليّا من هذا البائع ولم يفعل، ولقد كانت هذه هي المرة الوحيدة التي لم يوف زوجها فيها بوعد وعدها إياها، فما أن حصلا على نتائج الفحوصات حتى حزما حقائبهما عائدان في أول رحلة تأخذهما إلى الوطن، وخلال شهر واحد منذ أن أنبأه الطبيب بوصول السرطان مرحلته الأخيرة في جسمه، وبتاريخ 15 من شهر يناير قبل ثلاث سنوات رحل زوجها، تاركا في قلبها مخزونا من الحب لا ينفد، وعاطفة تكفيها ما تبقى لها من العمر كله.

شريفة التوبي قاصة وروائية عمانية