852
852
عمان الثقافي

الحكاية في دوائر المتوالية الحركية - قراءة في كتاب الدراجـة الهوائية للكاتب حمود الشكيلي

26 يناير 2022
26 يناير 2022

يشترك معظم أطفال العالم في حبهم للدراجة الهوائية، إذ كانت الدراجة عتبتهم الأولى إلى خارج البيت والعش الأول، وذاكرة طفولتهم، وأكاد أجزم بإن كل طفل لديه ذكرى مع الدراجة سواء من كان يمتلك الدراجة أو من حُرِمَ منها. وربما يمكن القول إن كل طفولة من دون دراجة هي طفولة غير مكتملة.

ماذا لو فكر كل منا بكتابة ذكرياته الطفولية مع الدراجة؟ وجمعنا هذه المذكرات الطفولية وأصدرناها في كتاب؟ هل ستتشابه الذكريات؟ ماذا سيقول كل منا عن دراجته؟ وماذا سيسمي كل واحد منا دراجته الأولى؟

ماذا لو قرأنا كتابا عن الدراجة الهوائية كتبه كاتب عماني؟ هل سنجد ذكرياتنا في هذا الكتاب؟ هل سيسحبنا الكتاب إلى العتبة الأولى من طفولتنا خارج البيت؟ هل ستدور الذكريات والحنين مع دوران عجلة الدراجة الأولى؟

لنقترب قليلا من كتاب «كتاب الدراجة الهوائية» للكاتب والقاص حمود بن حمد الشكيلي الصادر عن دار نثر العمانية، عام 2021، والذي اختار له تصنيف يناسب إنسابية فكرة الكتاب، متوالية حركية، ولكي تتلاءم مع إنسيابية الدراجة الهوائية في الدروب والطرقات والشوارع. «إن هذه المتوالية الحركية الحرة موقف جمالي ضد القبح في عموم معانيه، شكلًا ومضمونًا، ورمزًا وصورةً». ص19، وهذا الجمال يحتاج من ينبش عنه يفتش عنه كذلك، فالكاتب وصف الدراجة بإنها رمز الحرية، وأوطاننا الصغيرة، لذا نثر الكاتب كل وصف جميل ومدهش على الدراجة وعشاقها، فالدراجون كرماء. «الدراجون كرماء مثل الدنيا» ص28.

ووضع الكاتب عنوانًا فرعيًا لكتاب الدراجة «كلما آبت دراجة إلى البيت» فهي جملة شرط، ولم يكتمل جواب الشرط في غلاف الكتاب، لعل الكاتب يريد أن يشرك المتلقي في إكمال الجملة والبحث عن جواب لهذه الجملة الشرطية، ويدخل القارئ في فخ الحكاية، وماذا ستحمل الدراجة في رحلة عودتها إلى البيت من حكايات ومشاهدات وتأملات؟ وهذه العودة ليست بالضرورة أن تكون واقعية، إذ قد تكون عودة بالمخلية إلى زمن الطفولة. وكذلك العودة ليست بالضرورة إلى البيت، فربما يكون راكب الدراجة عاملًا فيعود إلى مسكنه أو مزرعته أو مصنعه. فمخيلة المتلقي عليها أن تعمل لتجعل خيارات العودة متعددة مكانيا وزمانيا.

وكأن الكاتب يريد أن يقول، لمن أراد أن يعرف (جملة جواب الشرط) أو ماذا قالت الدراجة في رحلة عودتها إلى البيت أو عودتها من مخيلة الكاتب، فعليه أن يتوغل في هذه المتوالية الحركية السردية.

وقبل الولوج إلى عوالم هذه المتوالية الحركية السردية، يجب التنويه إلى أن الكتابة عن ثيمة معينة في كتاب واحد ليست سهلة ولا سلسة، رغم دهشتها وإغرائها للكاتب، وكذلك للقراء؛ لأنها تحتاج إلى جهد مضاعف وإلى بحث مضنٍ ونحت في ذاكرة وعوالم وجوانب هذه الثيمة وعلاقتها بالكاتب والبشر والمكان والزمن والشعر والسينما؛ لأن الكاتب يريد أن يعمق هذه الثيمة التي يكتب عنها ويرسخها في ذاكرة المتلقي. فهو يحشد كل أدواته ومهاراته لصقل هذه الثيمة أو الموضوع الواحد. من أجل هذه الثيمة نوّع الكاتب تفاصيلها، فنراه يطّلع على رسومات ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو للبحث عن بداية فكرة الدراجة، فيرجع إلى القرن الرابع والخامس عشر، عندما كانت فكرة الدراجة في مخيلة الرسامين، ثم يبحث عن المحاولات التي قام بها الألماني كارل فريدريك فون دراز.

ولكي تكتمل دهشة الثيمة في مخيلة المتلقي يذهب الكاتب لينبش في محلات بيع الدراجات الهوائية وأحوال بائعي الدراجات، ويتتبع رحلة الدراجات من المصانع إلى الموانئ حتى تصل إلى بيوت عشاقها، لا تتوقف المتوالية الحركية هنا، فيكتب الكاتب يومياته التي ألتقطها من المعبيلة، وهو يقود دراجته في أول الفجر، في هذه اليوميات يوسع الكاتب من مشاهداته الصباحية وتأملاته فيما تراه العين، وفيما تفكر فيه مخيلة الدراج، ربما يمكن أن نطلق على هذا الجزء من الكتاب بـ«يوميات دراج عاشق»، هذه اليوميات هي الجزء الأكبر من الكتاب، لا تتوقف عجلة الدراجة هنا، بل تذهب إلى عشاق الدراجة الهوائية الّذين يعرفهم الكاتب ليسرد قصصهم وعشقهم وبداياتهم مع الدراجة (سرد قصص عشرة عشاق للدراجة). ثم يذكر هموم عشاق الدراجات في عمان، وبعض التجارب التي حاولت تأسيس تجمع يجمع عشاق الدراجة. لم يكتفِ بهذا الدوران في متواليته، يذهب إلى طفولته، فيعود بدراجته السردية ومخيلته إلى دكان حميد البيماني يتلصص على الدراجات المعروضة، ويتذكر أول دراجة في قريته في بسيا، وكيف نسى مفتاح القفل في فناء المدرسة، فنلاحظ من خلال التوغل في متن الكتاب بأن الكاتب حشد كل تأملاته ويومياته مشاهداته وطاقته الكتابية ليصقل ثيمة الدراجة، لئلا يصاب المتلقي بالضجر، فالكتاب يذهب أحيانًا إلى كل ما له علاقة بالدراجة وتاريخها وهموم عشاقها وبائعيها، وأحيانا يذهب السرد إلى ما يمكن تسميته يوميات أو مذكرات عاشق الدراجة، لينجح الكاتب في المزج بين الدراجة وراكبها وبين العاشق والمعشوقة.

وهذا التمازج والتماهي بين والدراجة وراكبها وصل إلى درجة من العشق، أدت إلى أنسنة الدراجة، ونجد ذلك في بعض الجمل والكلمات التي يصف بها الكاتب / الدراج / العاشق دراجته، «مرة سمعت دراجة تكلمني:

> ص21

«أتحدث مع دراجتي، أكلمها مثل صديقة. لا يتحملك إلا من يحبك، لا يشعر أحد أنك بعافية إلا الحبيب، وصارت الدراجة كذلك» ص112.

ونقول، هل استطاع الكاتب أن ينقل هذا التماهي والتمجيد والمحبة للدراجة إلى روح القارئ، أم أن هذه المحبة محصورة في مخيلة الدراج/ الكاتب؟ بمعنى آخر هل استطاعت هذه المتوالية الحركية أن تجعل المتلقي عاشقًا وقريبًا من عوالم الدراجة؟ وماذا لو لم يكن هذا المتلقي لديه دراجة أو ليس لديه أي اهتمام بالدراجة، هل سيدهشه هذا الكتاب؟ هل سيفكر باقتناء دراجة؟

«والآن، هذا ما سيحدث معك أيها القارئ؛ إن لم تحب الدراجة الهوائية فلن تستمتع بلذة كتابٍ عنها، لذة يشعر بها الدراجون والدراجات، أولئك الهائمون على مقاعد دراجاتهم يشبهون تمامًا الذائبين فوق مقاعد طاولات كتاباتهم الأدبية» ص24، ولماذا حصر الكاتب محبة الكتاب على الدراجين والدراجات فقط؟ ربما سيشعر قارئ ما، بلذة السرد في هذه المتوالية، وهو لم يمتلك دراجة في حياته؟

من خلال الموضوعات التي طرحها الكاتب في متواليته الحركية، التي ترتكز على كل ما له علاقة بالدراجة، فهو أولا يقصد من ذلك تعميق فكرة محبة الدراجة، وثانيا هناك قصدية من هذا الدوران مع عجلات الدراجة، وأكاد أجزم أن هناك تخطيطًا مسبقًا للكتاب، نستدل على ذلك من خلال هذه الفقرة:

«منذ العشر الأواخر من يونيو مهموم بالدراجة، حركة دؤوبة دائمة لتشكيل متوالية حركيّة، قراءة كل ما يمكن الوصول إليه مما كُتب في الدراجة وعنها، نصوصًا وتاريخًا، واهتمامًا وعنايةً بالذين صاروا حركيين ودرّاجين، النص محتفٍ بهم وبأقدامهم. من الهوس المفرط بالدراجة أظهرت العناية الشكل الجغرافي لإطار الكتاب». ص 103، هذا الاحتفاء الكبير ليس فقط بالدراجة وعشاقها، بل ذهب هذا الاحتفاء بكل ما كانت تفكر به مخيلة الدراج/ الكاتب/ العاشق، هذا المخيلة التي أدخلت الكثير من الأفكار والمشاهدات والتأملات إلى متن الكتاب مثل موضوع كورونا، والاقتصاد، والكتابة، وفلسطين، والقهوة، والمقاهي، ويلغم أحيانًا هذه الأفكار بالأسئلة. يحتفي بكل ما هو يومي وبسيط، يشغل حياة الإنسان المعاصر.

«كيف هو البرزخ؟ ما الإنسان بلا تفكير؟ ما الإنسان إن لم يفكر؟ ما عليك إلا أن تنتصر نفسيا، بالقبول وبالرضوان، وبالصبر، وبجعل كل شيء كتابا قابلا للقراءة». ص109.

كل هذه العناية والهوس المفرط له هدف عميق ومهم؛ وهو خلق دهشة جمالية في روح المتلقي، وتكون فكرة الدراجة رمزًا للحرية ونقطة انطلاق لاكتشاف الحياة والواقع المعاش. فكانت الدراجة في هذه المتوالية الحركية بمثابة عين السارد ومخيلته وقدميه.

«إن هذه المتوالية الحركية الحرة موقف جمالي ضد القبح في عموم معانيه، شكلًا ومضمونًا، رمزًا وصورة. ص19.

يُهدي الكاتب متواليته الحركية لطفله الصغير وأبيه، والابن والأب يحملان الاسم نفسه، «حمد»

فهو من جانب يقدم هدية تحمل مشاعر المحبة والفرح والدهشة لطفله، ومن جانب آخر يتذكر والده الذي يرتبط بفكرة الكتاب، حيث حلم الكاتب بدراجته تقوده وتسير به إلى دروب قريته بسيا، هذا الأب الذي منعته ظروف المعيشة من أن يشتريها.

ـ «كيف لأب فلاح فجرًا، ثم سائق أجرة صباحًا أن يشتري دراجة لابنه؟». ص23

هذا الإهداء جمع بين زمنين زمن والد الكاتب وزمن ابنه، وبين هذين الزمنين دارت عجلات الزمن والحياة والحكاية، زمن الحرمان من الدراجة وزمن فرح الطفل ودهشته بالدراجة.

وهناك ربط آخر بين زمنين، زمن الطفولة وزمن كتاب النص، حين يتذكر حميد البيماني بائع الدراجات في قرية الكاتب، « يأتي الآن، يجلس بجانبي ويراني أكتب، كمن يقرأ سيرته وصورته».ص20

« لم تفته صلاة الجماعة، أراه يمشي أمامي في ورقة الكتابة، ذاهبًا إلى الصلاة؛ جماعة في مسجد الشريعة» ص21

هذا الجمع بين الزمنين، زمن الطفولة ووقوع الحدث، وزمن الكتابة، كان لخلق لذة مشتركة بين الكتابة والتذكر والحنين لزمن لن يعود. والرابط بين اللذتين هي المعشوقة «الدراجة».

متوالية حمود الشكيلي تحتاج إلى الكثير من التحليل والقراءات للدخول إلى دوائرها المفتوحة والمغلقة، والملغمة بالأسئلة. وتحليل الحكايات التي ولدت في مخيلة الكاتب/ الدراج، والحكايات التي اقتنصتها عين الكاتب/ الدراج، في يومياته. وإلى أي مدى وفّق الكاتب في المزج بين الحكايات المتخلية والواقعية.

حمود سعود كاتب عماني