No Image
عمان الثقافي

التَّوازن وكيمياءُ التَّراكيب بالعدل

28 ديسمبر 2022
28 ديسمبر 2022

يحتوي الجذر اللُّغوي لـ(وزن) على أربعة مصادر: وَزْنٌ وموازنَةٌ وتوازنٌ واتِّزان. وتستخدمُ الثقافة العربيَّة هذه المصادر باختلاف القصد، وكثيرًا ما يُقصَدُ بمصدر التَّوازن وحدَه اتِّفاقُه بين طرفين، بينما يقصد بالاتِّزان وجودُه بطرفٍ واحد فقط. ولقد مال الشِّعر العربي قديمًا للتَّعبير عن التَّوازن والاتِّزان معًا إلى استخدام مفردة الوزن. فهي لا تفيد حجم الثِّقل الذي تتمتَّع به مادَّةٌ ما، وإنَّما تفيد الطَّريقة التي تتمُّ بها إقامةُ العدل بين الأحجام. وتعود هذه الظَّاهرة إلى استخدامها القرآني أوَّلا في كون الوزن لا يصحُّ ميزانُه إلّا إذا أقيم بالقسط والعدل. ولقد عرفَ العرب هذا المصطلح، لا سيما الكيميائيِّون، وكانوا كثيرًا ما يستخدَمُونه بما يشيرُ إلى فضلهِ في وجوب تعديل التَّراكيب بين العناصر والمعادن قبل بلوغ مرحلة صناعة حجر الفلاسفة أو البيضة الذَّهبيَّة التي تحيل رمزيًّا على الإنسان الكامل في الفلسفة الرُّوحيَّة.

وإذا كانت الكيمياء الحديثة ترى أنَّ الكون متكوِّنٌ من الذَّرَّات والعناصر، فإنَّ الخيمياء القديمة -وهي موضوع هذا المقال- ترى أنَّ العالم مكوّنٌ من أربعة عناصر أساسيّة وهي الهواء والتّراب والنّار والماء، بالإضافة إلى الملح والزّئبق والكبريت التي تعدُّ هي الأخرى عناصر ضروريَّة. واعتبر الفلاسفة أنَّ المعادن تتغيَّرُ بحسب ترابط علاقات التَّفاعل بين هذه العناصر وتباعدها، ولذلك، فصناعة الذَّهب تتوقَّف على قدرة الكيميائي في التَّحكم بها. ولم يتوقَّف نظرُ الكيميائيِّين على هذا، بل منحوا العناصر مفهومًا طبيًّا وروحيًّا أيضًا. فالأرض للحياة، والماءُ للعاطفة، والهواء للذَّكاء والعقل، والنَّار للحميَّة والحماس.وسنبحث في هذا المقال الوجيز عن اهتمام الخيميائيّين بتعديل الوزن بين العناصر والمعادن والموادّ بناءً على ما تداوله الشُّعراء بينهم منذ خالد بن يزيد لما يزيد بعده على عشرة قرون، ثمَّ نضرب مثالًا آخر لذلك انطلاقًا من الشِّعر المعاصر. ولقد استخدمنا إشارة [ق؟-ب؟] للتَّعبير بحرف القاف عن رقم القصيدة، وبحرف الباء عن رقم البيت الشِّعري فيها. كما أوردنا دواوين شعراء الكيمياء التي حقَّقناها، بعضُها تمَّ نشرُه وبعضها الآخر لا يزال قيد ذلك، وسنشير إلى هذا بـ(ق.ن). ولقد اعتمدنا على ديوان فردوس الحكمة (ق.ن) لخالد بن يزيد (المتوفَّى 85هـ/704م)، وعلى ديوان المقاطيع في الصَّنعة (ق.ن) لمؤيِّد الدِّين الطُّغرائي (المتوفَّى 514هـ/1121م)، وعلى ديوان شذور الذَّهب لابن أرفع رأس (المتوفَّى 593 هـ/1197م) المنشور سنة 2018، وعلى قراضة العسجد لابن عربي (المتوفَّى 637هـ/1240م) المنشور سنة 2019، وعلى ديوان سلاسل النُّضار (ق.ن) لصلاح الدِّين الكوراني (المتوفَّى 1040هـ/1631م)، ثمَّ اعتمدنا في الأخير على الأعمال الكاملة للشَّاعر العماني سيف الرَّحبي، لمقارنة الشِّعر القديم بالحديث، علمًا أنَّ الميزان الكيميائي لم يعتمد لديه كمفهوم مستقل وإنَّما بمفهومٍ تقنيٍّ شعريٍّ خالص.وسنتَّخذ على سبيل الدِّراسة ظاهرة المزج في التَّركيب المعدَّل مثالًا كما هو الحال بين الرُّوح والجسم، حيث يقول الطُّغرائي في ديوان المقاطيع في الصَّنعة واصفًا إيَّاه وهو يتوازن بين الحركة والسُّكون [ق22-ب2،1] :

لِلْجِسْمِ إِنْ دَاخلَتْهُ رُوحُهُ فَرَحٌ

وَالرُّوحُ بِالجِسْمِ عِنْدَ البَعْثِ يَمْتَسِكُ

رُوحَانِ هَذَا لَهُ وَزْنٌ، وَذَاكَ بِلَا

وَزْنٍ، بِهِ تَمَّ فِي أَجْسَادِهَا الحَرَكُ

أو في قولِ ابن عربي، بديوانه قراضة العسجد [ق11-ب2،1]:

لَنَا حَجَرٌ فَوْقَ الـمَزَابِلِ مَطْرُوحُ

هُوَ الرُّوحُ إنْ لَـمْ تَعْلَمُوا مَا هِيَ الرُّوحُ

ترَكَّبَ عَنْ أَرْضٍ وَمَاءٍ وَعَنْ هَوَا

وَنَارٍ بِتَعْدِيلٍ بِهِ الوَزْنُ مَصْلُوحُ

ويمنح الطُّغرائي هذا التَّساوي في الوزن بين الطَّرفين معنًى رمزيًّا خيميائيًّا، فيرمز إلى الرُّوح بالذَّهب وإلى الجسد بالفضَّة قائلا عنهما [ق103-ب6،5]:

لَمَّا تَسَاوَى الوَزْنُ تَمَّ بِهِ

جَسَدٌ لَهُ مِنْ رُوحِهِ طِبْقُ

مُتَكَوِّنٌ لَوْنَيْنِ: ذَا ذَهَبٌ

فِي رَمْزِ صِبْغَتِنَا، وَذَا وِرْقُ

والخيمياء هو ما تحتاجه اليد من علم الميزان للتَّعديل. ويرتبط الميزانُ بالتَّركيب والإنشاء، فالتَّركيبُ هو تمكين عنصرين من التَّراكب، والإنشاء هو ما ينتج عنهما، ونجاح الميزان في التَّعديل لا يتوقَّف على قدرته في التَّركيب وإنما عليها في إنجاز الإنشاء.

وإذا كانت الخيمياء بلا شك هي فنُّ النَّار، فإنَّ الميزان هو فنٌّ قائمٌ في فعلي المزاوجة والممازجة بين طرفين مختلفين عندما يتركَّبا، فنجد في شعر بن أرفعِ رأس الجيَّاني [ق33-ب20/30] ما يطرق باب هذا المعنى عندما يذكر ميزان الممازجة بالمثل من الرَّصاص:

إذَا نَحْنُ مَازَجْنَا الرَّصَاصَ بِمِثْلِهِ

مِنَ القَطْرِ وَزْناً أو أَقَلَّ مِنَ المِثْلِ

وَحَالَا إلى الجِسْمِ الذِّي اِبْتَدآ بِهِ

بِمَا لَهُمَا مِنْ ذَلِكَ الطَّبعِ في الأصْلِ

وَمَرَّا مِنَ الأَلْوَانِ بالرُّتَبِ التِّي

يُقَصِّرُ عَنْ إدْرَاكِهَا السَّابِقُ المُبْلِ

عَلَى حُمْرَةٍ مِنْ صُفْرَتَيْنِ أحَالَهَا

بَيَاضُ لُجَيْنٍ كَانَ أَسْوَدَ كَالكُحْلِ

وَطَالاَ فَحَلاَّ رُتْبَةَ الذَّهَبِ الذِّي

يُوَلِّدُهُ بالحَلِّ والعَقْدِ (والغَسْلِ)

وَزَادَ بِلُطْفِ الفَيْلَسُوفِ وَرِفْقِهِ

عَلَى الذَّهَبِ الإبْرِيزِ في الوَزْنِ وَالشَّكْلِ

فَهَذَا هُو الاكْسِيرُ والزَّيبَقُ الذِّي

عَقَدْنَاهُ (بعْدَ) الحَلِّ فِي النَّارِ بالتِّفْلِ

وهَذَا هُوَ الكِبْرِيتُ لا الـمُـحْرَقُ الذِّي

غَدَا مِنْهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي أَشْغَلِ الشُّغْلِ

وفضلًا عن هذا، فإنَّه يوجد ميزانٌ آخر لممازجة النَّار بالماء كما يدلُّ عليه قولُ خالد بن يزيد [ق99-ب11، 12، 13] في ديوانه فردوس الحكمة:

وَزَاوِجْ المَاءَ نَارًا لَوْنُهَا يَقَقٌ

وَاعْقِدْ بِهِ الجِسْمَ وَافْعَلْ مِثْلَ مَا فَعَلُوا

وَجُدْ مِنَ البَحْرِ وَالعَيْنِ الزُّلاَلِ عَلَى

عَدْلٍ مِنَ الوَزْنِ لاَ فَضْلٌ وَلاَ زَلَلُ

وَزِنْهُمَا بِعَدْلٍ مَا زَاوَجْتَ بَيْنَهُمَا

ثُمَّ اجْعَلِ المَاءَ نِصْفَ الوَزْنِ يَعْتَدِلُ

- وفي قوله [ق119-ب26،25]:

وَالمَاءُ وَالنَّارُ فَامْزِجْهَا عَلَى قَدَرٍ

بِالعَدْلِ، وَالوَزنُ فَضْلٌ لَيْسَ مَذْمُومْ

جُزْءٌ مِنَ المَاءِ لاَ نَقْصٌ وَلاَ سَرَفٌ،

وَالنَّارُ نِصْفٌ لَهُ فِي المَاءِ مَشْهُومْ

ويوجد أيضًا ميزانٌ للفضَّة والذَّهب، كما يدلُّ عليه قولُ ابن أرفعِ رأس الجيَّاني [ق23-ب39/42]:

لَهُ مَنْظَرٌ كالشَّمْسِ تُعْطِي ضِيَاءَهَا،

وَلَيْسَ كَمِثْلِ البَدْرِ يَأْخُذُ مَا أعْطَى

فَهَذَا الذِّي أَعْيَا الأنامَ فَأَضْمَرُوا

لِمَنْ وَضَعَ الأَرْمَازَ فِي عِلْمِهِ سُخْطَا

وَهَذَا هُو الكَنْزُ الذِّي وَضَعُوا لَهُ

بِرَابِــــيِ أَخْـمِيمٍ وَخَصُّوا بِهَا قِفْطَا

وَتَحْصِيلُهُ سَهْلٌ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ

لِمَنْ عَرَفَ التَّطْهِيرَ والوَزْنَ والخَلْطَا

وإذا كان قد ذكر فضلَ أهميَّة الوزن، إلى جانب تطهير المعادن وخلطها في تحصيل كنز الكيمياء، فإنَّه يشيرُ إلى قدرة الشَّمس على إعطاء الضِّياء بما يوحي بقدرة الخيميائي على صناعة البيضة الذَّهبيَّة. ويتطلَّبُ عمل الخيميائيِّ، من جهة، أن يتمَّ تركيبُ المركَّب بين جزءين صالحين مدبَّرين بالحكمة (علم الخيمياء) بحيث (...) يصلُحُ لأحدهما مثلًا أن يسمَّى بالبَدْرِ المنير (وهو رمز الفضَّة) والثّاني بالشّمس (وهو رمز الذَّهب)، (...). ومن جهة أخرى، أن يتمَّ الميزان بمطابقة المادَّة لنفسها، إذ لا يُنسَبُ الجسد للقمر إلَّا وقد دُبِّر بالتّدبير الموافق له حتَّى صار بدرًا منيرًا.

والواقع، أنَّ هذا الوزن المسمَّى أيضًا بالميزان الطّبيعي الكمّي كما يقول علي بن أيدمر الجلدكي في كتابه غاية السُّرور، وهو الذي يجمع بين ما رُمِز إليهِ بالبدر والشَّمس في نار السّبك حتَّى يستحيلا معًا ذهبًا ويحصل الامتزاج الكلّي وتزول عينُ الفضّة بالكليّة ويصير المجموع ذهبًا بالقوّة والفعل أتمَّ وأكملَ.

ويوجد بالأساس أهم الموازين، وهو ميزان الزَّيبق الذي يُركَّبُ بالكبريت، وهو ما أشار إليه ابن أرفع رأس نفسُهُ [ق37-ب1/5] قائلًا:

إنْ كُنْتَ تَبِغِي الفَوْزَ بالأمْنِ

فَرَكِّبِ الزَّيْبَقَ فِي الدُّهْنِ

وَلْيَكُنِ الزَّيبَقُ فِي لَوْنِهِ

كالمَاءِ يَنْهَلُّ مِنَ المُزْنِ

حَتَّى إذَا مَا قَامَ وَزْنَاهُمَا

وامْتَزَجَا بالحَلِّ فِي الدَّفْنِ

صَارَ لَنَا جَوْهَرَةً كالمَهَا

جَامِدَةً فِي غَايَةِ الحُسْنِ

ولقد ذكرت في مقدِّمة تحقيقي لديوان قراضة العسجد لابن عربي أنَّ الزَّيبق والكبريت لديه هما الأبوان اللَّذان باِلْتحامهما يخرج بينهما جوهرٌ شريف كامل النَّشأة يسمَّى ذهبا. يقول ابن عربي إنَّ ذلك الأصل في الإلهيَّات نفسٌ وفي الطَّبيعة بخارٌ. ويتطابق هذا الشَّرح بما قاله في الدِّيوان بقصيدته [ق 54-10،11]:

إنَّ فِـي الـمَعْدَنِ الشَّرِيفِ الذِّي فِـي

الـجَبَلِ الشَّاهِقِ الذَّي قَدْ تَعَلَّى

زَيْبَقٌ عَاشِقٌ لِكِبْرِيتِهِ، فِـي

ضِمْنِهَا بَدْرٌ حُسْنُهُ يَتَجَلَّى

وبما قاله أيضًا في [ق 61-1،2،3]:

كَثُرَتْ فِـي فَكِّ الرُّمُوزِ الدَّعَاوِي

مِنْ غُفُولٍ عَنِ الـحَقِيقَةِ لَاوِي

كَيْفَ يَبْغُونَ فَكَّهَا بِعُقُولٍ

لِـمَوَازِينَ وَضْعُها لا تُسَاوِي

زَيْبَقـ(ــاً) تَعْشَقُ الكَبَارِيتُ مِنْهُ

جَسَدًا لِلْكَمَالِ فِـي الطَّبْعِ حَاوِي

وهذا التَّعاشق والتَّوالد الذي بين الزَّيبق والكبريت لأجل معدن شريف ليس ناتجا عن التّركيب بينهما، بقدر ما هو ناتجٌ عن الأصل المفرد في كلٍّ منهما. ففي خصائص الزَّيبق تفرُّدٌ يختلف عن تفرُّد الكبريت.

ولعلَّ ابن عربي يكون قد تأثَّر بمقولة خالد بن يزيد [ق 92-5،4]، عندما ذكر أنَّ التَّوالُدَ إنَّما هو علوُّ الفحلِ على الأنثى التي توزنُ بالرِّزق، فيكون الرِّزقُ هو الإنشاء.

إِذَا اِجْتَمَعَا بِالوَزْنِ حَقًّا وَرُكِّبَا

لِيَلْتَئِمَا بِالفَهْمِ وَالزَّعْلِ وَالسَّحْقِ

فَذَاكَ الَّذِي يُدْعَى أَبَارُ نُحَاسِهِمْ

وَأُنْثَى عَلاَهَا الفَحْلُ تُوزَنُ بِالرِّزْقِ

وإذا عدنا إلى هذا المفهوم الذي ذكرناه آنفًا والمقابل للتَّوالد، فإنَّه يُرمَزُ إليهِ أيضًا بالرِّزقِ لا سيما عند صلاح الدين الكوراني، وهو الذي يشترطُ إقامَةَ الوزن والحُسْنَ فيه بالقسطِ، يقول في سلاسل النُّضار [ق 20-20]:

وَيُرْزَقُ مَنْ بِالقِسْطِ يُحْسِنُ وَزْنَهَا

وَيُحْرَمُ مِنْ إِحْسَانِهَا مَنْ يُجَازِفُ

ولعلَّ أحسن الشُّعراء تعبيرًا عن الميزان وعلاقته بالتَّركيب هو ابن أرفع رأس، إذ يُشبِّهُ الوجودَ بالشَّجرة، والمركَّبات فيها بالأغصان، ثمَّ يعقدُ لذلك أبياتًا يدرجُ فيها العناصر التي تسهم في بناءِ عالم الشَّجرة كالماء والتُّراب والهواء، فإن هوى هذا التَّركيبُ ولم يفلح فيه العمل، فإنَّ عنصر النَّار سيعفو به على الشَّجرة الزَّمن، يقول [ق 25-12/18]:

فَتِلْكَ نُفُوسٌ قَدْ عَلَونَ لَطَافةً

وَتِلْكَ جُسُومٌ قَد سَفُلْنَ غِلاَظُ

فإنْ عَقَدَتْ تِلْكَ المِيَاهُ رِمَالَهَا

وَمَاتَتْ صُخُوراً بالمِيَاهِ فِظَاظُ

فَقَدْ رُكِّبَتْ أَغْصَانُهَا فِي أُصُولِهَا

كَمَا رُكِّبَتْ فَوْقَ السِّهَامِ رِعاظُ

فَيَا لَكَ تَرْكِيبُ هَوَتْ دُونَ نَيْلِهِ

وِشَاظٌ عَلَى آثَارِهِنَّ، وَشَاظُوا

هَوَاءٌ وَأرْضٌ لاَ يَلِينُ بِغَيْرِهِ

وَماءٌ لأَدْرَانِ الطِّباعِ جِوَاظُ

كَأنَّهُمَا في الوَزْنِ والمَاءُ جَامِعٌ

بِجِسْمَيْهِمَا عِدْلاَنِ وَهْوَ شِظَاظُ

فَهَذَا الذِّي أبْدَوْهُ مِنْ سِرِّ عِلْمِهِ

لِمَنْ هُوَ رَاوٍ للرُّمُوزِ حِفَاظُ

وإنَّ أكثر ما يثير الانتباه في قصائد الخيميائيِّين هو تصريحُهُم بأنَّ الأوزان ليست هي التي تقوم على قياس الأحجام والأوزان باستخدامها الأرطال والسُّنج، وإنَّما هي أوزانٌ رمزيَّة، كما هو الحال في قول صلاح الدِّين الكوراني [ق 5-37،36]:

وَكُلُّ مَنْ قَوَّمَ التَّألِيفَ بَيْنَهُمَا

يَسِيرُ حَقًّا، وَمَا فِي سَيْرِهِ عِوَجُ

وَالوَزْنُ بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ مُتَّصِفٌ،

فَلَا تَغُرَّنَّكَ الأَرْطَالُ وَالسُّنُجُ

أمَّا ابن أرفع رأس، فإنَّه يحيلُ إلى الوزن الرَّمزي غير المادِّي، وهو وزنٌ لا يتفطَّنُ إليه إلَّا الحكيم، فقياسُهُ لا يُحتكم إليه، فها هو يقول في [ق 12-28،26]:

وَلاَ تَطْلُبَنْ في الرَّمْزِ وَزْناً فإنَّهُ

قَريبٌ، وإنْ تَطْلُبْهُ فِي الرَّمْزِ يَبْعُدِ

ولاَ تَضْحَيَنْ يَوماً إلَى لُغْزِ لاَغِزٍ،

فَذَلِكَ مِنْ تَضْلِيلِهِم عَنْ تـعَـمُّـدي

فَلَوْ رُمْتَ فِي الأجْزَاءِ فَضْلَ زِيَادَةٍ

عَلَى الوَزْنِ، لـمْ يَنْقُصْ ولـمْ يَتَزَيَّدِي

ويقول أيضًا بشكلٍ أكثر وضوحًا، وهو يجعل من الميزان مفهومًا خفيًّا لا يدركُه إلا أصحاب الصَّنعة [ق 36-45/50]:

لَعُمْرِي لَقَدْ أَبْدَيْتُ كُلَّ خَفِيَّةٍ

تَوَاصَى بِهَا وُصَّالُ كُلِّ زَمَانِ

وَلَكِنَّنِي لَمْ أُظْهِرِ الوَزْنَ إنَّمَا

أَشَرْتُ إلَيْهِ فِي خَفِيِّ مَعَانِ

فَإنْ شِئْتَ حَلَّ الرَّمْزِ فِيهِ فَقَدِّمَنْ

وَأخِّـرْ وَبَـاعِدْ مَا شَـرَحْـتُ وَدَانِ

وَلا تُــجـْرِ إلاَّ والتَّفَكُرُ وَاصِلٌ

عِنَانَكَ فِي مَيْدَانِهِ بِعِنَانِ

تُصَرِّحُ بالسِّرِّ الذِّي بَابُ عِلْمِهِ

تَضَايَقَ بَيْنَ النَّجْمِ والدَّبَرَانِ

وَلَكِنَّها بِكْرٌ كأنَّ رُمُوزَهَا

لأَهْلِ المَعَانِي بالظُّهُورِ مَعَانِ

وإنَّه لمن العجيب جدًّا أن نلاحظ هذا التَّوازن الخيميائيَّ وقد استعاده الشَّاعر المعاصر، في شكله الجوهري بالأساس. فالشَّاعر العماني سيف الرَّحبي، يستعيدُ طاقة العناصر الأربعة ليعبِّر عن عدم توازنها في البناء الطَّبيعي لهذا الوجود الذي نعيشُه، بل سيستعيد ذلك الصِّراع الذي بين الماء والنَّار مثلًا دون أن يكون بإمكانه إقامة وزنٍ بينهما، كما هي عادة شعراء الكيمياء، أو أنَّه لا يقيم ذلك قصدًا، من باب المجاز والحقيقةِ معًا، فيقول في قصيدة امرأة الانهيارات السعيدة:

في قصرِها بينَ تلالِ الفصولِ القتيلةِ

تُحركُ شعرَها بأصابعِ النارِ

وكانتْ مخلوقاتُ الغيمِ تُطلُّ

من شرفاتِها، متمرغةً في ما يُشبهُ دُخانَ الشهوةِ.

فأصابع النَّار الممتدَّة في عنصرها ستصطدمُ بمخلوقات الغيم المائيَّة وهي الأمطار، بينما الهواء الذي هو الدُّخان، فسيعبِّرُ عنه كما لو أنَّ النَّار قد صنعت من الماء بخارًا ثمَّ عندما عاد إليها في شكل مطرٍ أخمدها.

يذكِّرنا هذا المقطع بشرح علي بن أيدمر الجلدكي متحدِّثًا في كتابه غاية السُّرور عن بيت لابن أرفع رأس أين [علوُّ الدُّخان] عند الجلدكي يقابله عند الرَّحبي [مخلوقاتُ الغيمِ تُطِلُّ من شُرفاتها]، يقول [ق 23-6]:

وَقَدْ أَرَّجَ الأرْجَاءَ مِنْهَا كَأنَّها

لطِيبِ شَذَاهَا تَحْرِقُ العُودَ والقِسْطَا

يشرح الجلدكي وهو يستعيد هذه الصُّورة خياليًّا قائلًا: إنَّ الضمير عائد على نارها الذي هو نورُها لا شرارُها (...)، وفيه ميزان النَّار لأن نار البخور متى قويت أحرقته (...)، وتَأْمَلُ من حقيقة النَّار ذلك الصَّفاء، فعلا عند ذلك بخارٌ يشبه الدُّخان وهو بخور ذلك النُّور فعطَّرت منه الأرجاء.

هذا التنازع الخيميائيّ، سنجدهُ أيضًا، في نهاية القصيدة، عندما يرفض الشَّاعر إعادة تركيب العالم من جديد، بعد أن تيسَّرت له سبُلُ العودة، إلى الكون الأوَّل، بحنين اللغة، كما هو حال الكيميائي تماما بحنين التَّجربة وهو يحاول إعادتها مرَّةً أخرى، فيكتفي بشعور الغبطة وقد لازمه وهو يعيش لحظة الانهيار الأوَّل في تلك السَّعادة الأزليَّة، رافِضًا تكرار عمليَّة تركيبٍ جديد لإعادة بناء عالم مختلف. فمن الأرجح، أنَّ البقاء دون إنشاء جديدٍ هو العالمُ الذي ستكون فيه النَّفس أوفى حظًّا وأخلص أبديَّةً بتلك السَّعادة الفردوسيَّة الغامرة. ها هو يقول:

فجأةً... انهارتْ سقوفُ السماءِ مثلَ تلالٍ ثلجيةٍ

وصارَ الكونُ يلبسُ ياقوتَ البدءِ

ولا شيءَ غير حنينِ العودةِ إلى الانهياراتِ السعيدة

في صمتِ هذا المشهدِ.

لكنَّه من الواجب علينا ألَّا ننسى ونحن نقرأ سطرَه الشِّعري (وصارَ الكونُ يلبسُ ياقوتَ البدءِ) أنَّ التَّوازن في هذه القصيدة مبني أساسًا على مبدأ الإلباس، وهو الذي يعطي للمجرَّد صبغة الواقع، فينزع عنه نصفًا من المثال، أو يجرِّدُ الذَّات من شوائبِ الوقائع، فيُلبِس الفرعَِ لباسِ الأصلِ. إنَّ إلباسَ الكون لباس السَّماء السَّادسة، من ياقوتها الأخضر الدَّال على حضرة الإلهام، قبل خروجها إلى السَّماوات الأخرى، يدفع بالشَّاعر إلى نزوعٍ روحانيٍّ يتجلَّى بنوعٍ من التَّوبة الوجوديَّة التي تسمح لهُ بتحقيق عدالةٍ لكونٍ كان قد بدأ يتعرَّى حقيقةً منذ افترسَت الغريزةُ وجود الإنسان.

أمَّا في قصيدة عيون الثَّعالب، فسيعبِّرُ عن الصِّراع ذاته، وبالطَّريقة نفسها، متحدِّثًا عن عيون الشُّعراء المخذولين، وهم الذين يشبهون الكيميائيِّين الذين عادوا بخفَّي حنين دون مقدرتهم على الوصول إلى بيضة الفلاسفة. فالهواء المختزلُ في الرَّائحة، والنَّارُ الملتهمة للعظام، والتُّراب البعيد، والماءُ متمثِّلًا في البحر، كلُّها عناصرٌ تتصارع بها وعليها أطرافُ هذا الوجود، إلَّا أنَّ الشَّاعر سيفضِّلُ، في الأخير، الهواء والماء، باعتبارهما عنصرين يتَّسمان بالبرودة في مقابل النَّار والتُّراب.

وإذا كان الشَّال الأسود يشيرُ إلى انطفاء هذا الصِّراع في عدميَّةٍ أبديَّةٍ خالصةٍ، فإنَّه يُعَدُّ عند سيف الرَّحبي بمثابة ميزانِ تركيبٍ بالعدل لوجودٍ لا يقوم إلَّا فيه. وهو ميزانٌ عبَّرت عنه عمليَّة التَّدثير التي غالبًا ما تُستخدم عندما يفقد الجسد توازنه الحراري بعد أن مال إلى البرودة الشَّديدة، ثمَّ يستعيد بفضل ذلك التَّدثير توازنه الطَّبيعي:

هذا اللَّيلُ الذي تضيئُهُ عيونُ الثعالبِ

هذه النَّارُ التي تلتهمُ عِظامَ الموتى

وهذه التُّربةُ الهَرِمَةُ

يتصارعُ عليها الأعداءُ

دثِّريني بشالِكِ الأسودِ

الذي ورِثَ النَّورسُ

رائحتَه البحريةَ.