No Image
عمان الثقافي

التوازن النفسي

28 ديسمبر 2022
28 ديسمبر 2022

حسب نظرية الأخلاط أو المزاجات التي تسيّدت الطب القديم فإن البدن يتكون من أربعة سوائل: البلغم والدم والسوداء والصفراء، وتختلط هذه السوائل داخل البدن بمقادير ونسب محددة لكل فرد، ويؤدي نقصها أو زيادتها أو عدم اختلاطها جيدا إلى الاعتلال، فالصحة، كما يقول أبقراط، تتأتى من التوازن بين هذه الأخلاط من حيث القوة والكمية. كانت قائمة الأخلاط هذه أطول عند أمبدوقليس، بينما اقتصرت في طب الأيوفيدا الهندي على ثلاثة، والذي يهمنا هنا أن العناصر المكونة للبدن لا بد أن تكون في توازن حتى ينعم هذا البدن بالصحة. ولا يذهب مصطلح التوازن أو الاستتباب الداخلي الفسيولوجي الحديث أبعد عن هذا مع أن ما نعرفه عن تفاصيل آليات التوازن الفسيولوجي أعقد بكثير، فالجسم يحافظ على أجهزته وأنظمته الداخلية في توازن وتعادل بحيث يعدّل فيه كلما أدى تغير داخلي أو خارجي إلى انعدام توازنه، فلو ارتفعت درجة حرارة الجسم عن درجتها الطبيعية تستشعر مجسات مخصصة الارتفاع فيعمد الجسم إلى تخفيض الحرارة، ولو زاد مستوى السكر في الدم تستشعر مجسات السكر في الخلايا والأوعية الدموية زيادته فيعمد الجسم إلى خفض السكر.

يشير التوازن البدني إلى أن الجسم يتكون من عناصر وأن هذه العناصر ينبغي أن تكون في توازن ووئام كيما يكون البدن في صحة. وهذا بالضبط ما استُعير ليشكل ما يدعى التوازن النفسي؛ المشكلة فقط أن العناصر التي تشكل النفس قد تكون أكثر إبهاما أو أننا لم نصل بعدُ لمعرفتها، فحسب أفلاطون للإنسان ثلاث قوى هي العاقلة والغضبية والشهوية، وهذه القوى ينبغي أن تكون في اعتدال كيما يكون المرء حكيما وشجاعا وعفيفا، وحين اعتدالها يتكون الإنسان الفاضل. أما أرسطو فقد جعل الفضيلة في الاعتدال، ووصل به تفكيره إلى أن يرى كل فضيلة توسطا بين رذيلتين، بلا تفريط أو إفراط، فالشجاعة مثلا توسط بين التهور والجبن والكرم توسط بين الإسراف والبخل.

ومهما كانت العناصر التي تكوّن النفس فإن التوازن بينها هو الذي ينتج الصحة النفسية. يرى فرويد في نظريته البنائية أن الشخصية تتكون من الهو والأنا والأنا الأعلى، وهي عناصر متوزعة بطريقة محددة بين مناطق الوعي ومناطق اللاوعي. يسعى الهو إلى تحقيق اللذة وتجنب الألم من غير أن يهتم بالواقع. ويسعى الأنا الأعلى إلى تحقيق الأخلاق التي تعلمها الفرد أثناء تنشئته من أبويه ومجتمعه، ولذا ينحو ناحية ما يجب أن يكون عليه المرء. ومع هذه الأهداف المتقاطعة والمتعارضة يأتي الأنا ليقيم التوازن بين الهو والأنا الأعلى والواقع. إنه يريد أن يحقق للهو ما يريد من شهوات وغرائز ويريد أن يوافق الأنا الأعلى على قمع هذه الشهوات والغرائز وهو في الآن ذاته يجب أن يعمل بما هو مناسب للواقع: الهو يرغب بالجنس والأنا الأعلى يشهِر سلاح الأخلاق الجنسية؛ ما ينبغي أن يكون عليه الجنس حسب المجتمع والعرف والتقاليد، ويوازن الأنا بين هذه وبين ما هو ممكن واقعيا فيتزوج المرء ليمارس الجنس حسب الصورة التي يقبلها المجتمع. التوازن هذا الذي يقوم به الأنا يضمن الصحة النفسية، ولذا يقوم الأنا بآليات دفاعية للحفاظ على هذا التوازن، أو يمكن أن نسميها إن شئنا حيلا وألاعيب: يرغب الموظف في أن يضرب رئيسه في العمل لأنّ الرئيس أنّبه ونقده أمام الآخرين لكنه يصر على أسنانه غضبا فالواقع يؤكد له أنه سيفصَل من عمله لو قام بما يرغب، فتتحول شحنة الغضب هذه التي كانت يجب أن توجَّه باتجاه المدير إلى الداخل فتكبت وتظهر على هيئة أعراض قلق أو اكتئاب، أو توجَّه إلى الخارج فَتُحوَّل حين يصل إلى البيت إلى زوجته وتظهر على هيئة نوبة غضب هادرة، والواقع يقول إن الزوجة من الأفضل ألا ترد، على الأقل في وقتها، وربما تحوِّل الزوجة حنقها على الزوج هي الأخرى إلى طفلهما، والواقع يقول إن طفلهما لا يمكن أن يرد على والدته؛ ليس بعدُ، وربما يحوِّل الطفل حنقه هو الآخر إلى القطة المسكينة، فيما يدعى، بشيء من الفكاهة البيّنة، متلازمةَ القطة.

ويمكننا أن ننطلق من نظرية فرويد هذه إلى التوازن الحاصل بين الشهوات والرغبات والغرائز الأصلية للكائن من جانب وبين المثل والأخلاق والكمالية والمثالية من جانب آخر، أو ربما نطلق على هذا التوازن توازنا بين الشق الحيواني الأرضي الخافض للإنسان وبين الشق الملائكي (أو الإلهي) والسماوي الرافع للإنسان، وهذا لا يصح إلا بتصور الإنسان في الوسط بين الحيوانات والملائكة. ويمكن أن ننطلق من نظرية فرويد إلى التوزان الحاصل أو الذي يجب ان يكون بين الإنسان والعالم الواقعي الذي يعيش فيه. يريد بدن المرء أن يحقق غرائزه وتريد نفسه أن تحقق آمالها وأحلامها ويريد عقله أن يتوافق مع أفكاره ومعتقداته، أما الواقع فلا يمكنه بحال من الأحوال أن يحقق هذه جميعها، فمصادر الحياة ليست بالوفرة المناسبة لتحقيقها وربما تكون رغبات البدن والنفس والعقل مما يتعارض ورغبات أفراد آخرين وقد لا يكون بالإمكان تحقيق رغبات هذا وذاك في الوقت نفسه. يتضح هنا أن ثمة توازنا موجودا أو يجب ان يوجد بين شق الإنسان العضوي (البيولوجي) وشقه النفسي (السيكولوجي) وشقه الاجتماعي (السوشيولوجي).

يُختزَل التوازن النفسي أحيانا ليعني انعدام المرض النفسي، ولا يبدو أن هذا مما يمكن أن يساعد، فهو يركز على التعريف بالسالب؛ ما لا يجب أن يكون موجودا لتكون متوازنا، ويُزَاد أحيانا، مع انعدام المرض النفسي، التحصّل على الرفاهية النفسية، وهنا يوضع ما لا يجب أن يكون موجودا (انعدام السالب) مع ما يجب أن يكون موجودا (وجود الموجب). لكننا لا نبارح مكاننا بعدَ كل هذا قيد أنملة، فما يشكل النفس من أجزاء لا يبدو واضحا جدا وما يشكل صيغة التوزان بين هذه الأجزاء لا يبدو واضحا كذلك، فكأننا نعود فقط إلى القول إنه يجب أن يكون هناك توازن بين عناصر النفس ذاتها وبين هذه النفس وبدنها (البيئة الداخلية) وبينها وبين الواقع من حولها (بيئتها الخارجية). بعض الباحثين في نظرية التوازن النفسي جمعوا العناصر الممكنة التي تتكون منها النفس ووضعوها في قائمة من عشر قيم أو خصائص: توجيه الذات إلى حيث يرغب المرء (الاستقلالية)، الرغبة في معرفة أمور جديدة في الحياة (الفضول)، الاستمتاع بالحياة إلى الحد الأقصى (التلذذ)، تحقيق الطموحات والوصول إلى النجاح (الإنجاز)، السلطة في امتلاك المصادر والتأثير على الآخرين (السلطة)، الحصول على الأمن (الأمن)، التوافق مع قوانين المجتمع (الانصياع)، العيش وفق القيم المجتمع وأعرافه (التقاليد)، الاهتمام بمن في نطاق المرء من أهل وأصدقاء (الخيرية)، والاهتمام بالعالم ككل (الكونية).

هكذا يمكننا من أجل معرفةٍ أدق بمصطلح التوازن النفسي أن نُضيِّق النقاش إلى أمرين: معرفة العناصر التي تكوِّن النفس، ومعرفة صيغة التوازن القائمة بينها. بيد أن مفهوم التوازن بهذه الطريقة يبدو مفهوما ستاتيكيا جامدا، فهو ينحو باتجاه الثبات، ثبات النفس وخصائصها، وهذا الثبات مع أنه مهم لتحديد نفس ما عن أخرى، لا بد أن يتوفّر إضافة إلى هذا الثبات على خاصية الحركة والمرونة التي تسمح بالتغيير. أي يجب أن نضفي الحركة في كل خاصية من خصائص النفس التي نُقرُّها: ترغبُ في تحقيق سلطة ما فيأتي مديرك ويقمعك، فهل تخفف من توقعات السلطة لديك أم أن هذا يدفعك للضغط أكبر في اتجاه رغبتك؟ لقد ووجِهت رغبتك بعامل خارجي هو سلطة مديرك عليك، وهنا لا بد من تحريك مستوى رغبتك في كميتها واتجاهها وثقلها ومداها ونسبتها إلخ حتى يمكنك أن تعود إلى حالة الاستقرار التي كنت فيها سابقا قبل أن تعلن رغبتك في السلطة. لننطلق بمثال السلطة لمسافة أبعد: هناك شخصان وكلاهما يرغبان في الوصول إلى سلطة، وكلاهما يرغبان أن يكونا في محل مديرهما بعد خمس سنوات من الآن. يدرك المدير رغبتهما فيحاول جهده أن يصدهما: إنه يرغب في أن يتشبث بكرسيه لأطول فترة ممكنة. يخفّض الأول من رغبته ويصل مع الوقت بالتالي إلى توازن مع صد المدير، أما الثاني فيستقيل ويبحث عن مكان آخر يوفر له سلطته التي يرغب، وهنا أيضا يتحقق، مع الزمن، التوازن النفسي الذي أخله المدير المتعنت. لقد اختل بداية توازنُ كل منهما برغبتهما تلك، إلا أن الأول ثبط من رغبته بسبب العراقيل (المدير في هذا السياق) وعاد من ثم اختلاله إلى توازنه، ووصل الآخر إلى رغبته بتغيير المكان وعاد من ثم إلى توازنه.

يعرِّف بعض علماء النفس التوازن النفسي على أنه استمرارية الذات الداخلية مع مرور الزمن وقدرتها على التأقلم مع التحديات اليومية. ويركز هذا التعريف هو الآخر على خاصيتيْ الثبات (الذي تتطلبه النفس لتكون نفسا مستقرة وممتدة في الزمان) والتغير (الذي تتطلبه النفس لتواجه التغيرات الداخلية في البدن والخارجية في البيئة المحيطة). تحتفي النظرية هذه بالثبات الداخلي من جهة وبالمرونة التي تجعلها قابلة للتأقلم مع المتغيرات من جهة أخرى، وهي تجعل القيم العشر التي ذكرتها سابقا (الاستقلالية، الفضول.. إلخ) قيم النفس التي ينبغي أن يحدث التوازن بينها، إلا أنها في الوقت ذاته تركز على إمكانية أن تُقدَّم قيمةٌ على أخرى في وقت ما حسب التغيرات والأحداث التي يمر بها الفرد. ومع أن هذا يبدو واعدا إلا أننا يجب ألا نغفل أن هذه النظرية تؤمن بنسبية هذه القيم ونسبية مواقعها من حيث الأهمية والأولوية بل وتمتد كذلك لتأخذ الزمن بعين الاعتبار، فالزمن عامل مهم؛ فكل تغير في قيمة ما يحتاج إلى زمن ليحدث ما يقابله من تغيرات في القيم الأخرى. لنضربْ مثالا: يرغب المراهق أن يستقل، أن يوجه ذاته بذاته منفلتا من سلطة أبويه، لكنّ سلطة أبويه ليست سلطة هينة ومما يمكن أن يتحقق الانفلات منها بمجرد تفتق الرغبة داخليا. يحتاج المراهق أن يطور من أساليبه لكي يحقق مبتغاه ولكن وهو يحقق مبتغاه يضر بتوازن نفسيْ والديه. سيحتاج المراهق بالتالي إلى سنوات لكي يصل إلى ما يريد ويحتاج الأبوان لسنوات لكي يغيّرا من وجهة نظرهما لولدهما ويريا فيه بدايةَ رجل بدلا من نهايةِ طفل. إن الزمن المطلوب هنا طويل بعض الشيء لكنْ لأن التغييرات تتم بشكل متتالٍ وبكميات صغيرة كل مرة فإن الجميع هنا يقتربون بصيغة أو أخرى من نقطة التوازن النفسي كلما مر الوقت.

لنلخصْ ما قلناه: تتكون النفس من أجزاء، نختلف ونتفق عليها، وهذه الأجزاء في توازن لأنها متعارضة أحيانا، ولكن التوازن بينها يصيبه الاختلال بسبب التغيرات سواء في البيئة الداخلية أو الخارجية ويحتاج المرء من ثم إلى زمن ليعيد التوازن بين هذه الأجزاء. من هذا نتبين أن الاختلال بين الأجزاء حتمي وأن الصحة النفسية تنحو إلى إعادة التوازن أو إعادة صيغة التوازن بين هذه الأجزاء بتغليب واحد منها على الآخر أو تقديمه في الأهمية وأن هذه العودة إلى التوازن تتطلب وقتا لكي تتحقق بسلام. يمكننا أن ندخل مفهوم المرونة النفسية هنا؛ إنه القدرة على إعادة التوازن بسرعة معقولة بعد كل تغير في البيئة الداخلية او الخارجية، سرعة مناسبة لحدث التغيير. لنضربْ مثالا: حين يتقدم شخص في العمر، يحدث تغير في البيئة الداخلية، فالبدن لا يتصرف كما كان يتصرف من قبل؛ ثمة وهن وضعف وربما أمراض ولا يعود المرء قادرا على فعل أمور كان يفعلها سابقا بكل خفة، لقد أُقلِق التوازن وما لم يجد المرء طريقه للعودة بسرعة كافية سيقع في الكآبة على ما مضى والقلق على ما سيأتي.

نظرية التنافر الذهنية هي الأخرى نظرية توازنٍ نفسيٍّ في أسّها: لا بد من توافق الأفكار مع بعضها أو توافق الأفكار مع السلوك وإلا حدث التنافر بدلا من التوافق. لنضربْ مثلا، شخص ما يؤمن بأن التدخين مضر للصحة لكنه يدخن. إن سلوكه يتعارض مع فكرته، وهذا حتما يُحدِث انزعاجا داخليا، عدمَ توازن. فكيف يمكن إعادة التوازن وإزالة الانزعاج؟ يُغيِّر من فكرته لتكون: التدخين ليس مضرا بالصحة، فتتفق فكرته مع سلوكه. أو يتوقف عن التدخين، وهنا يتفق سلوكه مع فكرته. أو يقول داخله صحيح أن التدخين مضر للصحة لكني لا أستطيع أن أتوقف عن التدخين بعد كل هذه السنوات، أي أنني أعرف أن التدخين مضر وأرغب في التغيير لكني غير قادر، ولأني غير قادر فلا ضرر من وجود السلوك المخالف لفكرتي. إن الإنسان كائن متلاعب بعد كل شيء!

خلاصة الأمر، إن عناصر النفس، مهما تكن هذه العناصر، هي في توازن مع بعضها. اختلال التوازن يؤدي إلى اضطرابات داخلية تختلف شدتها حسب كمية وشدة انعدام التوازن، لكنْ ومع هذا، فالاختلال حتمي بسبب التغيرات في البيئة الداخلية أو الخارجية للمرء. هذا الاختلال بدوره يحرك آليات التأقلم أو العودة إلى التوازن. كلما وصلنا إلى التوازن بسرعة كافية ومناسبة تنضبط النفس مرة أخرى. هكذا يحل التغيير مكانة موازية للثبات؛ لكي يتغير المرء لا بد من إخلال بالتوازن القائم والوصول من ثم إلى توازن بصيغة مختلفة. لكنْ لن يتغير المرء لو كانت عناصره متوازنة، لكنْ لا قلق من هذا، فالبيئة الداخلية والخارجية في تغير مستمر يرفض الثبات. لكنّ التغيير وهذا الإخلال لا بد أن يكون بكمية معقولة لكي يتمكن المرء من إحلال التوازن ولا بد أن يقع على فترات متباعدة. دعوني أشرحْ: لو أن شخصا تُوفِّي والده فإن هذا التغيير يحدث اختلالا نفسيا، سيحتاج الشخص إلى حوالي ستة أشهر في المتوسط ليعود إلى توازنه، لكنْ ماذا لو حدث وأن تُوفيت والدته أيضا بعد فترة قصيرة من موت والده، ثمة اختلالان كبيران الآن متعلقان بموضوع الفقد يحتاجان إلى توازن، هل يمكن أن يعود المرء إلى توازنه في الوقت المتوسط نفسه؟ لكم الجواب!

وخلاصة الأمر أيضا، إن استعارة التوازن النفسي تبدو مفيدة لنا، على المرء أن يعرف فحسب ما يريد أن يوازنه، أي أن يعرف عناصر نفسه، أي أن يعرف نفسه كما يقول سقراط. لكنّ المعرفة لوحدها يا سيد سقراط ليست بكافية، ولم تكن كافية يوما ما؛ على المرء، ويا للأسى والأسف، أن يتحرك ويعمل أيضا لإعادة التوازن الذي تحدثه التغيرات التي تفرضها البيئة دائمة التغير والتبدل!