No Image
عمان الثقافي

التشيّؤ من الفلسفة إلى النقد الأدبي: قراءة في كتاب «السقوط في التشيّؤ» لبسام قطوس

23 نوفمبر 2022
23 نوفمبر 2022

لم يخطر ببال المثقفين والفلاسفة أن مآل العقلنة، والتبحّر في العلوم، والارتهان للثورة الصناعية، والتقدم التكنولوجي، والانثيال المعلوماتي سيرتد سلباً على مفهوم القيمة العليا في حياة إنسان اليوم، ومع أننا نعيش - بتعبير جال إيلول - في مجتمعات تكنولوجية صنعتها فلسفة الأنوار التي قامت على خطاب ذا مرجعية عقلانية ينادي بالحرية والتقدم، ويبشر بتحرير الإنسان من العبودية، ويطرح فلسفة تقدمية تقاوم التخلف، إلا أنّ التقدم انقلب إلى تخلّف وانحطاط جعلت من إنسان اليوم إنساناً أحادي البعد.

وقد كشف دومينك جانيكو في كتابه «قوة المعقول» عن الأضرار التي أنتجتها التقنية من خلال ما أسماه بقانون الانقلاب، ومحتواه أن كل عقلنة تطلب بلوغ النهاية ترتد ضدها، فيكون المعقول غير معقول، والعقلاني غير عقلاني. وهذا ما جعل المواجهة بين الخطاب القيمي والخطاب التقني مواجهة غريبة الأطوار لا ينطبق عليها قانون الخير والشر، فالخطابان يستمدان قوتهما من العلم والمعرفة.

لقد خلقت هذه المواجهة الفريدة أزمة أخلاق، ولأن أيّ تقدم يُنتظر منه أن يتحلّى بمسؤولية تجاه الأخلاق والقيم السامية فلا بد من إعادة تحديد مفهوم القيمة لتكون الممارسة الموجهة للسلوك أكثر منها ممارسة انقسام بين فكرتي الخير والشر.

وهنا تحديداً يتنزل كتاب «السقوط في التشيّؤ: الشعر في قبضة التشيّؤ» للدكتور بسام قطوس الذي صدر هذا العام 2022 عن دار فضاءات - عمّان، يحاول فيه تقييم العلاقة بين الإنسان والمادة خروجا من أزمة الأخلاق التي صنعتها الرأسمالية التكنولوجية بخطابها التقني من خلال إسقاط فلسفي عميق لمفهوم التشيؤ على نماذج من الشعر العربي المعاصر. وهذا كتاب ضارب الجذور في إشكاليات ما بعد الحداثة، يستمد قيمته من رغبة جامحة في استعادة إنسان اليوم والمحافظة على قيمه التي أهدرها الخطاب التقني الذي أسر حياتنا، واشتغل على توجيهها بوصفه خطابا لا يطال وجودنا الفيزيائي بل يتخطاه إلى وجودنا الاجتماعي الاكسيولوجي.

وقطوس فيما قدّمه يغادر النسق الاعتيادي في تحليل الشعر جمالياً إلى وضع الشعر في مواجهة الفلسفة والكينونة، فيدخل إلى الشعر من مدخل موجّه توجيها فلسفيا خالصاً، ويبحث فيه بحثاً إبداعياً خالصاً معتمداً على طول معرفته بمدونة الشعر العربي الأصيلة عبر أجيالها المتعاقبة، موازنا بين التنظير والإجراء، وهذا ولا شك سيفتح آفاقاً أمام الباحثين في تمثل موضوعات معرفية خالصة، وتقصيها في المدونات الأدبية.

والتشيّؤ réification في أبسط معانيه هو تحوّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء، علاقات آلية غير شخصية، ومعاملة الناس باعتبارهم أشياء مجردة. إنه «تحويل الظاهرة الإنسانية إلى شيء ليس له أيّ دور في تأكيد ذاته الإنسانية بعد أن سلبت منه أو استلبت قدراته العقلية وإرادته، وأصبح حالة صنمية أو سِلْعية، فقدت جوهرها بسبب سيطرة الأنظمة الاستغلالية متعددة الأشكال السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فبدأ الإنسان يستشعر قوتها الضاغطة، وهيمنتها عليه بحيث يرضخ لها رضوخاً كاملاً»، إنه تعبير هيجل «معاناة الروح المطلقة».

والتشيّؤ قائم على فعلين متزامنين هما الاستبعاد والتقريب، وقد لقي هذا المفهوم اهتماما لدى دعاة الماركسية في الوطن العربي. وترجم ترجمة وحيدة هي «التشيؤ»، ومع ذلك ظلت مشكلة اشتقاق الصيغة العربية قائمة: «تشيُّؤ»، و»تشييء»؛ فالأولى مصدر للفعل «تشيأ»، والثاني مصدر «شيَّأ». ومن الواضح أن الصيغتين قد اتسع انتشارهما في الأعمال النقدية العربية.

يقول جورج لوكاش: «ترتكز فكرةُ بنية السوق عَلَى حقيقةِ أنَّ العلاقةَ بين الأشخاصِ تأخذُ سمةَ الشيءِ، وبهذه الطريقة تصبح (نشاطا مُوهمًا) يُخفي أيَّ أثر يتعلق بالجوهر الأساسي، وهو العلاقةُ الإنسانية». يقول د. محروس القللي في هذا الصدد «وتطويرًا لفكرة جورج لوكاش عن المجتمع الرأسمالي، يعلن جولدمان أنَّ فكرةَ (التشيؤ) تحتمل وجود تماثل بين فلسفة التنوير وبين اقتصاد السوق، ودلل كذلك على أن الظروف الاقتصاديةَ تستلزمُ دائمًا تغيير العقل الإنساني في المجتمع، ولذلك يؤكد جولدمان من خلال النص الأدبي أن المجتمع الرأسمالي في روايات (روب-جرييه) قد تَحوَّلَ إلى مُجتمع مُشيأ، ومُنحدر (منحط). وقد كانَ هدفُ جولدمان طيلة حياته خلق قاعدة لمجتمعٍ اشتراكي غير مشيأ».

وقد تضمن عنوان الكتاب حكما مسبقاً يؤكد على خطورة المفهوم وتفشيه من خلال كلمتي «السقوط» و»قبضة». وقد انسجم العنوان إلى حدّ كبير مع المحتوى كما انسجم الإهداء في فرادته مع موضوع الدراسة، فالدكتور قطوس يهدي الكتاب إلى ذاته الناقدة التي تواجه العدمية وتبقى ذكراها «إليّ أنا، هذا أنا شهادة أو صورة مركونة على الجدار، وحفنة ذكريات وبعد برهة قصيرة يُقال ماتّ! آه ما آلم الحياة».

كما انسجمت الدراسة مع العتبات التصديرية الثلاث التي مهر بها أطلالة الكتاب؛ دل التصدير الأول من القرآن الكريم (هل أتى على الإنسان..) على الفناء، والتصدير الثاني من القرآن (ولقد كرمنا بني آدم ...) على التكريم، والتصدير الثالث بيتان لأبي الفتح السبتي (أقبل على النفس واستكمل فضائلها، فأنت بالروح لا بالجسم إنسان) على قيمة الروح إلى النفس. وهذه التصديرات تكشف منذ البداية على انحياز قيمي للدكتور قطوس فيما يقدمه من تمثل لإشكالية تشيؤ الإنسان واقتران قيمته بالمادة.

قسم قطوس كتابه إلى تمهيد وثلاثة فصول وتوصيات، جاء الفصل الأول بعنوان التشيّؤ الفهم والمفهمة والمركبات المعرفية، والثاني ناقش سيمياء التشيؤ في نماذج تطبيقية مختارة كصلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي، ومحمد عفيفي مطر، ومحمود درويش، ومحمد الفيتوري، أما الفصل الثالث فاختص بالحديث عن التشيؤ، والذات المهددة استعادة الذات بالشعر، وقد مثل على كل من شعر حافظ محفوظ، ومالك بوذيبة وعبدالرفيع جواهري وأمجد ناصر وعلاء عبدالهادي.

ويربط قطوس في التنظير موضوعه ربطا وثيقاً في التيارات الفكرية والفلسفية الحاضنة لموضوع التشيؤ من باب تعميق المفهوم، وتوسيع مداركه ورفعه عن السطحية، لذا نجده يشق الأمر نحو ضبط مفهوم التشيؤ بين مصطلحات قريبة منه أسهمت في تشكله كالاغتراب، والقطيعة، والوجود، والعزلة، والاستلاب. وبوصلة قطوس في هذا الكتاب مقرونة بإثارة الأسئلة، ومحاولة الإجابة عنها كأن يقول: لماذا أسهمت ثورة الاتصال في تعميق عزلة الإنسان المعاصر وغربته؟ وللإجابة عن مثل هذه الأسئلة يشتغل فلسفيا على الخلاصات الفكرية لدى كل من سبينوزا، ونيوتن، وداروين، وماركس، وفرويد.

وما لفت الانتباه أن قطوس يصرّ على إيجاد بديل للنموذج المعرفي الغربي لا أن يصلحه ويضيف إليه لإعادة الكينونة من حالتها التشييئية إلى حالتها القيمية، يقول: «لقد تعاملنا مع النموذج المعرفيّ الغربيّ المتعالي على إنسانية الإنسان، ومعاملته باعتباره شيئاً، وكأنه التشكيل الوحيد، وليس أحد التشكيلات الحضارية الإنسانية، علماً أن ثمة بدائل لنماذج معرفية كثيرة، تمكننا من خلال قراءتها وتحليلها من خلال إيجاد بدائل للنموذج المعرفيّ الغربيّ بدءاً من النموذج المعرفي الحضاري اليوناني، فالروماني، فالفارسي، فالهللينستي، فالبيزنطي، فالإسلامي، وهكذا دواليك. فهذه الحضارات وعلى رأسها الحضارة الإسلامية، أسهمت في بناء نماذج معرفية، لا بدّ من تجديدها، واستعادة تجاربها الرائدة، خاصة الحضارة الإسلامية التي ركزت على القيم الروحية والإيمان، والنظرة إلى الحياة على أنها معاناة واختيار».

ومما يحسب لهذا الطرح قدرته على الحفر في مفهوم التشيؤ، وربطه بعلوم متعددة كالنفس والاجتماع، والأديان، والاقتصاد، والفلسفة شاقاً الطريق نحو المفهوم بين حقول دلالية قريبة منه كالماديّة والوجوديّة والعقل الأداتي والبراجماتية والميكافيلية والانتهازية، وهذا يحتاج إلى جهد كبير ومعرفة موسوعيّة.

ولي أن أتساءل هنا والكتاب يثير في نفس قارئه العديد منها: لماذا جرى تنزيه التدين عن فعل التشيّؤ؟ وأين تقع التماثيل والتجاسيم والأصنام والأوثان من رغبة الإنسان في تشييء أسمع القيم؟ كما أتساءل أيضاً، إن كان كل فعل اغترابي يقود إلى التشيؤ؟ وأين دور الفلاسفة العرب في الحديث عن حقول دالّة على التشيؤ؟ وكيف يمكن أن نتشيّأ للغة، فتكون غاية الأديب اللغة وصياغاتها السحرية لا القيمة التي يحدثنا عنها؟

أما على مستوى التطبيق، فقد تعامل قطوس في الفصل الثاني والثالث مع جيلين من الشعراء حسبت الأول من تيار الحداثة، والثاني من تيار ما بعد الحداثة وإفرازاتها. وفي وقوف قطوس عند تجربة صلاح عبدالصبور التي جللها الهلع الوجودي والحزن والاغتراب، فكانت مظهرا من مظاهر التشيؤ القسري رغم أنه يحارب المادة لصالح القيمة، فهل وجودية صلاح عبد الصبور تقوده بالضرورة إلى الوقوع في قبضة التشيّؤ؟

وفي تجربة أحمد عبدالمعطي حجازي الذي يهجس بخطورة الزمن أتساءل هل انقضاء الزمن والشعور بسرعته مظهر من مظاهر التشيؤ؟ أعتقد أن المشكلة لا تكمن في سرعة انقضاء الزمن بل في أننا نراقبه، ولا نعيشه وإحساسنا بوطأة الزمن، لا يعني الوقوع في التشيؤ.

قرأت نماذج شعرية قاومت التشيؤ أكثر مما وقعت في قبضته فاستشعار الشيء لا يعني الوقوع فيه. إن استشعار محمد عفيفي مطر للأشياء جعلته يصنع عالمًا بديلًا من خلال الكلمات الشعرية وإن عانى من رعب الزمن، وتشييئ درويش للإنسان هو مظهر من مظاهر رفض التشيؤ، وإن بدا وقوعا فيه؛ لأن الواقع ساوى بين قتل الإنسان وأشيائه، ودرويش يرفض ذلك. ومحمد الفيتوري كان يسعى للعدل والحرية والإيمان دفعا للتشيؤ الذي أوقع في إساره؛ بسبب زنوجته فحاول أن يدفعها بالكلمات. وشعراء ما بعد الحداثة في الفصل الثالث، عبروا عن رفضهم للتشيؤ كل بأسلوبه وفهمه للحياة وقيمها، فأعلوا من شأن العقل ليتخلصوا من التشيؤ؛ لأن العقل الشعري «يختلف عن العقل الأداتي فهو عقل جماليّ إنسانيّ أخلاقيّ لا يفكر بالربح والفوائد والسلعة، وإنما يفكر بالجوهر، بربح إنسانية الإنسان، بوصفه مركزاً لهذا الوجود، حتى القبح يحاول الشعر أن يجعله موضوعاً للجمال كما في الحروب والأوبئة، فالمبدعون الحقيقيون هم من يحسنون الإصغاء لنداءات الطبيعة أكثر من غيرهم، فيقدمون رؤية متفائلة في كيفية استعادة الإنسان لذاته، ولصفائه الروحي بله صفاء عقله وقلبه»، وينأى بنفسه عن المادة.

لا أرى أن أي وقفة عند المادة يُعدّ تشيّؤاً، فبعض الأشياء ترقى إلى القيمة العليا بفعل شعريّ مبدع خالص، فأحيانا يكون الجسد ركيزة انطلاق لمعانقة الوجود في بعض التجارب الشعرية التي قرأتها في كتاب بسام قطوس. كما لا أعتقد أن إدمان إثارة الأسئلة الكونية مظهر من مظاهر شيوع التشيؤ، فالإنسان شغوف بتحديد مكانه داخل الشيء الكبير أقصد الكون الكبير. والكتاب في محصلته النهائية يضعني بوصفي قارئاً أمام سؤال كبير:هل التشيؤ فعل وممارسة أم نتيجة ومآل؟ وتحديد الإجابة يعني بالضرورة اختيار الاستراتيجية الأنسب للتعامل نقدياً مع هذا المفهوم. كما يفتح الباب أمام تطبيق مفاهيم التشيؤ على فن الرواية، وإن كانت أقل غنائية من الشعر، كما فعل الفرنسي لوسيان جولدمان في دراسته لروايات آلان روب غرييه، فوجد أنها تطرح مجتمعا متشيّئاً ومنحدراً، والمفارقة أن هدف جولدمان طيلة حياته يكمن في تكوين أساس لمجتمعٍ اشتراكيٍ غيرِ مشيّأ.

أ.د. نضال الشمالي أستاذ النقد الحديث والسرديات في جامعة صحار