No Image
عمان الثقافي

البحث عن العقلانية في مفهوم الاستراتيجية كتاب فرنسي يناقش فكرة الحرب في عصر القوة النووية

27 أبريل 2022
27 أبريل 2022

بالرغم من مئات الدراسات التي تناولت الحروب لتحليلها ورصد وقائعها وتطوراتها وفهم أسبابها، وأيضا لمحاولة تجنبها في المستقبل، وبالرغم مما أثير حتى في ثقافتنا العربية عن الصراع التاريخي بين السيف والقلم باعتبارهما نقيضين متلازمين، يتبادلان المواقع وفق الثقل الذي تفرضه الظروف، فإن أشباح الحروب لا ولم تتوقف عن الإطلال بوجهها الدموي على الكوكب بين الآن والآخر.

وبعيدًا عن المفاهيم الأخلاقية لفكرة الحرب والاقتتال بين البشر، فإن المختصين في دراسة الحروب من وجهة نظر تاريخية أو في حقل الدراسات العسكرية والاستراتيجية، يولون الأمر اهتمامًا كبيرًا؛ ليس فقط للدوافع والأسباب وتحليل مسارات العمليات العسكرية التي دارت في العالم، بل وكذلك انطلاقًا من اعتبار الحروب أكبر أداة تغيير عرفتها البشرية وعرفها التاريخ.

فكل حرب دارت في أي بقعة من العالم، على امتداد تاريخ الصراعات السياسية والعسكرية، كانت تنتهي أو ينتج عنها تغيير ما، في الحدود السياسية أو مراكز القوة والنفوذ أو تكوين كتل اقتصادية أو سياسية جديدة، بكل ما يعنيه ذلك من تبعات وتأثيرات اجتماعية واقتصادية وثقافية على المجتمعات التي تتعرض للمعارك والحروب.

حرب واستراتيجية

ولعل كتاب «حرب واستراتيجية..نهوج ومفاهيم» الذي صدرت ترجمته العربية عن الفرنسية قبل فترة وجيزة عن سلسلة عالم المعرفة في الكويت، بترجمة أيمن منير، واحد من الكتب المهمة التي تناولت فكرة الحروب من جانبها الاستراتيجي. وشارك فيه عدد من المختصين في العلوم العسكرية، والدراسات الاستراتيجية.

في تقديمه للكتاب يشير المترجم أيمن منير إلى أنه يعد:«أول كتاب باللغة الفرنسية يتعرض لقضية الدراسات الاستراتيجية، وهي الدراسات التي تحظى باهتمام المؤسسات ‏الكبرى في الدول العظمى؛ وذلك لما تتمتع به من صلة وثيقة بمجريات السياسات الدولية»، إذ تُشارك الدراسات ‏الاستراتيجية بفاعلية كاملة في مشروع «فهم العالم من أجل تغييره»، ‏ولا تتعلق القضية الأساسية بالتفسير، بل بالتغيير من خلال أحداث تغييرات عسكرية وسياسية واقتصادية ‏واجتماعية، الخ.

يثير هذا الكتاب الانتباه لعدد واسع من القضايا المرتبطة بالعلاقة المتشابكة بين الحرب واستراتيجية الحرب. وهي فكرة مركبة تعتمد على مفهوم «فن خلق القوة» باعتباره وسيلة للسلام.

في المقدمة يشير أيمن منير لذلك بالقول:تعتمد النظرة الغربية لهذه الدراسات على معادلات تتشابك فيها الحرب مع استراتيجية الحرب. يكفي ‏أنْ نلتَفت إلى عبارة «إذا أردت السِلْم فعليك بالحرب» التي تُنسب إلى فيجيس (‏Végèce‏) لكي‏ نلاحظ أنَّ الظلال ‏التي خلّفتها معادلة تشابك الحرب مع استراتيجية الحرب لا يمكن أن تقتصر أبدًا على العمليات في زمن الحرب ‏فقط ولا على العوامل العسكرية وحدها: فالاستراتيجية إذن هي «فن خلق القوة».

نشأة الدراسات الاستراتيجية

«يعد تاريخ الاستراتيجية قديما قدم الحرب، ولكن تاريخ الدراسات الاستراتيجية يُعد أكثر ‏حداثة. ولأن «ثوسيديد» و«صن تزو» - مؤلف أشهر كتاب في الحرب «فن الحرب» -هما اللذان كتبا في الفترة ما بين ‏القرن الخامس والرابع قبل الميلاد، فيمكن اعتبارهما من أوائل المفكرين الاستراتيجيين، في حين ‏أنَّ حقل الدراسات الاستراتيجية تم وضعه في وقت لاحق بعد عام 1945 في الولايات المتحدة ‏الأمريكية».‏

هذا ما يوضحه «جون فانسون هوليندر» ‏في فصل من فصول الكتاب بعنوان «من الدراسات الاستراتيجية إلى دراسات الحرب»، ثم يضيف أن «نشأة الدراسات الاستراتيجية ترتبط باختراع القنبلة النووية التي تم قياس آثارها المدمرة ‏في هيروشيما وناجازاكي. لقد تميَّز سياق الحرب الباردة بالتعارض الإيديولوجي بين الأمريكيين ‏والسوفييت، ولهذا يشكل التهديد النووي الشاغل الرئيسي لكل من هذه الدول «الكبرى». وهكذا ‏يرتبط «الجيل» الأول ضمن حقل الدراسات الاستراتيجية بالشخصيات التي كرست نفسها أساسًا ‏لدراسة الاستراتيجية النووية من وجهة نظر القوة الأمريكية».

العصر الذهبي للمدنيين

ووفقا لباسكال فانسون (أستاذ العلوم السياسية في جامعة بانتيون آساس، وأحد المشاركين في الكتاب) يمكن ملاحظة أنَّ الكتَّاب في ذلك العصر الذهبي لم يكونوا من العسكريين. ‏في حين أنَّ باسيل ليدل هارت ‏(أحد المشاركين في الحرب العالمية الأولى، ومراسل حربي لاحقًا) على سبيل المثال، شغل في الفترة من ‏‏(1895-1970) منصب القائد الأسبق للجيش البريطاني؛ حيث انعقد على يديه حبل الوصل بين ‏جيل الحربين العالميتين، وجيل الحرب الباردة.

لهذا فإنَّ أول مَن كتبوا عن الدراسات الاستراتيجية ‏هم من المدنيين الذي ينتمون في الغالب إلى الوسط الأكاديمي. لم يحصل كل هؤلاء الكتاَّب على ‏درجة الدكتوراة، ومع ذلك فقد تمكنوا من العمل في الإدارة الأمريكية تحت مسمى «المستشار ‏الأمير»، علما بأنَّهم لم يكونوا من الجنود الذين يفكرون في مهنتهم على الرغم مما يتمتعون به ‏من خبرات. إذن هم علماء: اقتصاديون مثل شيلنغ، وفيزيائيون مثل خان، ومتخصصون في ‏الرياضيات مثل فولشتتر، وسياسيون مثل بوردي.

ولأنَّهم يتمتعون بكفاءة علمية وتقنية، فإنَّهم ‏يسعون إلى «التفكير فيما لا يمكن تصوره» (على حد تعبير هيرمان خان) عن طريق استخدام ‏الأسلحة النووية في التدمير المتبادل للقوتين العظيمتين، وأيضًا عن طريق الحاجة إلى تجنب ‏التدمير من خلال السلوك القائم على الردع.

ويبدو أن هذين الهدفين: «التدمير» و«الحاجة إلى تجنب التدمير»؛ هما حجر أساس مفهوم الاستراتيجية الحربية. من هذا المنطلق، يوضح فانسون أنَّ الدراسات ‏الاستراتيجية نشأت خارج النطاق الأكاديمي البحت، وذلك بفضل شخصيات تعتبر نفسها مثل ‏العلماء الذين يعملون من أجل المصلحة الوطنية.

بين السياسي والعسكري

‏وبين أبرز ما يشير إليه الكتاب هنا، أن الدراسات الاستراتيجية أعادت النظر في العلاقة بين ما هو سياسي وما هو عسكري، ‏أي ما يُعرف بحجر الزاوية في كل الاستراتيجيات. وهذا التطور يرتبط ‏بالمسؤولية الجديدة التي يفرضها التهديد النووي على كاهل القادة السياسيين. ‏

وطبقا لما ذكره ريمون آرون ؛ فإنَّ البعد السياسي في أثناء المواجهة ‏النووية، يشتمل على البعد العسكري وهذا يعني أنَّ الزعيم السياسي هو الذي يملك اتخاذ قرار ‏استخدام القنبلة أو عدم استخدامها، وليس القائد العسكري.

في هذا الإطار، كما يوضح جون فانسون هوليندر في هذا الجزء من الكتاب؛ فإنَّ استراتيجية ‏القوى العظمى لن تكون على غرار الاستراتيجية التي اقترحها كلاوزفيتز أو استراتيجية آرون ‏إلا في عصر الحرب الباردة. فقد دفعت هذه الاستراتيجية الباحثين إلى تحويل حقل التحليل ‏العسكري إلى التحليل السياسي، فهنا قد يتعلق الأمر بقضية الخروج من التفكير ‏العسكري الصارم الذي يركز على البعد الإجرائي، ما يتطلب أيضًا إعادة النظر في قضية ‏‏«الاستراتيجية الكبرى» التي تقع على مفترق طرق بين السياسيين والأيديولوجيين والعسكريين.

الاستراتيجية النووية

جانب آخر يلتفت إليه الكتاب في هذه العلاقة المشتبكة بين الحرب والسلام أو في مجال فن استخدام القوة هو التطورات في الفكر والدراسات الاستراتيجية التي فرضها ظهور السلاح النووي، على اعتبار أن السلاح النووي في الأساس هو سلاح تم إنتاجه على يد علماء ومهندسين «مدنيين»، واستخدامه أيضًا يخضع لمعايير تقنية وتكنولوجية وفق علوم أساسية.

يقول هوليندر:« الأسلحة النووية، أكثر من أي سلاح آخر، تُعتبر أسلحة العلماء ‏والمهندسين. هذه هي العلوم التي تسمى بالعلوم «الأساسية»، حيث إنهم اخترعوها ووضعوا لها ‏فيما بعد عقائد معنية «بعدم استخدام» القنبلة ذات الآثار التدميرية».

ووفقًا له أيضًا، فإنَّ عقائد الردع كما ‏يتصورها توماس شيلنغ (وهو اقتصادي أمريكي وبرفيسور في الشؤون الخارجية والأمن القومي، والاستراتيجية النووية، والسيطرة على الأسلحة في جامعة ميريلاند، كلية بارك) تحلل سلوك الأطراف الفاعلة، انطلاقًا من النماذج الرياضية التي أنتجتها ‏في البداية، نظرية الألعاب ونظرية تحليل الأنظمة.

وهو ما يعني أنه ثمة محاولة عظيمة ترغب في وضع ‏تسوية للقضايا العسكرية والسياسية المتعلقة بالحرب الباردة من خلال العلم والتقنية. وهكذا، فقد ‏خاطرت الدراسات الاستراتيجية بنفسها عندما اختارت سبيل التخصص الدقيق للغاية، إضافة إلى ‏اختيارها المتمركز حول الرهانات التقنية التي يسيطر عليها فقط أصحاب المعارف العلمية ‏المتخصصة.‏

العقل والاستراتيجية

هذه الشروح لتاريخ بدايات الاستراتيجية وكيف أنها بدأت على يد مدنيين وليس العسكريين، وأنها اليوم جزء من دراسات العلوم السياسية مهمة في التركيز على بُعد آخر هو علاقة العقلانية بالفكر الاستراتيجي العسكري. ما يلفت الانتباه في الكتاب الأفكار التي تتناول فكرة علاقة الاستراتيجية بالعقلانية.

ففي فصل من فصول الكتاب الافتتاحية يتساءل باسكال فانسون: هل تنطوي العقلانية الاستراتيجية على شكل من أشكال «التيار العقلاني»؟ ‏

ويجيب بالقول: إن العديد ‏من الظواهر الدولية، بما في ذلك ظاهرة الردع والحرب، يتم مناقشتها ودراستها بالاتفاق ضمن ما يُسمى بنظرية ‏الحرب كنوع من التفاوض المبني على أساس نظرية الاختيار العقلاني (خاصة نظرية المنفعة المتوقعة) والنمذجة ‏ونظرية الأُلعاب‏. مهما كانت أبعاد هذه الإشكالية تحديدًا، «التي هي في الأصل عقلانية»، فأن الخلط بينها وبين ‏الاستراتيجية إجمالًا، وهو ما لا يمكن على الإطلاق، يعني أن يحمل الجزء على الكل.‏

وهذه المفارقة المهمة يعود لتوضيحها بالقول: طالما عانينا مشقة دراستها عن كَثب، فإنّنا ندرك أن العلاقة بين الاستراتيجية والعقلانية ‏دقيقة للغاية أكثر مما توحي الانتقادات التي تتوقف عند حد استنكار المظاهر الخارجية للعقلانية في شكلها ‏الصريح. فالعلاقات الوثيقة بين الاستراتيجية والعقل لا يُقصد بها «التيار العقلاني» أو حتى مسلمَة أساسية من ‏مُسلمَات العقلانية ‏. ‏

قد نجد من بين القادة الاستراتيجيين مَن يُوجه انتقادات بالغة الحدّة للتيار العقلاني، ويُقدم تقييمات لاذعة جدًا لحدود ‏العقل الاستراتيجي.‏

ويناقش الأمر تاريخيًا بالإشارة إلى معارضات بين بعض الدارسين مثل معارضة كارل فون كلاوزفيتز لمن يصفهم بغَير العقلانيين من مُعاصريه، أمثال هاينريش فون بولوف الذي يدعي أنَّ الاستراتيجية تنزع إلى أن تكون مجرد عملية حسابية هندسية. ‏فالحرب بالنسبة إليه لا تتم إلا من خلال مجموعة من التفاهمات: أي تفاعل العواطف مع الحسابات، والاحتمالات ‏الفنية العسكرية، وأيضًا مع الغاية العقلانية التي تشمل الفعل.

غير أنّ مفهوم شيلينغ (هو حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد أيضًا)، عن العقلانية يمتد إلى أفعال تبدو أنّها غير عقلانية، ويمتد تأثيراتها غير العقلانية لدرجة أن بعض المناصرين لنظرية الأُلعاب، مثل جون هارساني يعتبون عليه تمييع هذا المفهوم.

تكمن الإضافة الرئيسية لشيلنغ في عدم اعتبار ‏عقلانية ولا عقلانية اللاعبين من المكتسبات بصورة نهائية، كما تكمن هذه الإضافة في مقترح له يتعلق ‏بدراسة الديناميكيات الخاصة بالتفاعل الاستراتيجي فيما يُمكن التحكم فيه، وما يُمكن أن يكون مثيرًا للقلق.

يتناول ‏شيلنغ القرارات المشتركة التي تُؤدي إلى شَرَاكات يعتريها قُصور أو مواجهات عدائية غير مُكتملة. فمن غير ‏الممكن تمامًا التنبؤ بالمواقف والاستراتيجيات، كما أنها لا يمكن أيضًا أن تتصف بالاستقرار كما يعتقد الفاعلون أو ‏المراقبون.

والمفارقة الكبيرة التي يمكن من خلالها الاقتراب لمدى ارتباط العقلانية والعقل بمفهوم الاستراتيجية تتمثل في «إنَّ إشعال فتيل الحرب، حتى عندما يُراد لها أن تكون محدودة ومسيطرًا عليها، لا يمكن أبدًا أن يتحول ‏إلى نشاط يمكن التَحكم فيه تمامًا، لهذا فإن الأطراف الفاعلة يمكن أن تستغل احتمال إفلات زمام الأمور تحديدًا ‏لعمل نوع من التأثير المُتبادل».‏

علاوة على ذلك، فقد أشار إدوارد لوتواك (مؤرخ وأستاذ اقتصاد أمريكي) إلى أنَّ البحث المنهجي للسلوك ‏العقلاني الفعال - فيما يبدو-لا يعتبر دائمًا فعالاً مِن الناحية الاستراتيجية؛ لأنه قابل للتنبؤ في كثير من الأحيان، ‏ويمكن توقعه أو تحييده أو الالتفاف عليه ‏.

ويوضح أن القادة والمُنظِّرين الاستراتيجيين، بشكل عام، يتحدثون عن أنَّ مستوى المقياس ‏المعرفي بمبادئ الحرب، والرغبة في العقلانية عند صنَّاع القرار لا يضمن على الإطلاق تجنب أخطاء التقييم ‏والتواصل غير المكتمل، أو خطورة الانخراط طواعية في عملية قد تكون «غير قابلة للسيطرة»، كما أنه لا يضمن احتمال الوقوع في قلب الفعلين السياسي والعسكري.

تضمن الكتاب مشاركة عدد من المؤلفين هم: باسكال فانسون، أستاذ علوم سياسية، جوزيف هنروتين، اوليفييه شميت، ستيفان تايات، لور بارديز، فردريك رام، لوران هينينجر، اوليفييه جاجيك، كريستوف واسينسكي، الينيكا ماتيو، جون باتيست فيلمر، بنواست بيهان، وهم جميعا أساتذة أو محاضرين في العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية في جامعات فرنسية مختلفة.

وتتوزع اهتمامات الكتاب على عدد من الموضوعات التي تتابع تاريخ الاستراتيجية، كفكر، ثم كمفاهيم، الإطار العام للاستدلال الاستراتيجي: الفعل والتفاعل والتفاهم، السياسة والعنف، المواجهة وانعدام اليقين، الخطأ، الأطراف الفاعلة في العملية الاستراتيجية، الاستراتيجية وبِنيَة النظام الدولي، عملية اتخاذ القرار والصندوق الأسود للدولة، الاستراتيجية باعتبار أنَّها ديناميكية: السيطرة على آثار القوة، النظام الدولي والرهانات الاستراتيجية، عن بداية التحليل المنهجي، التفكير فيما بعد القطبية الأحادية. وعدد آخر من الموضوعات التي ترتبط بكيفية التحليل الاستراتيجي، وعلاقة الاستراتيجية بالبيئة، وأيضًا الاستراتيجية السيبرانية، ومدى اختلاف الاستراتيجية في حالة الحروب البحرية عنها في المجالات العسكرية الأخرى. أشرف عليه كل من جوزيف هيلروتين، أوليفييه شميث وستيفان تايات.

إبراهيم فرغلي صحفي وروائي مصري