No Image
عمان الثقافي

الاعتدال... أشق الفضائل وأجزاها

28 ديسمبر 2022
28 ديسمبر 2022

قبل ثلاثة قرون، زعم الفيلسوف السياسي الفرنسي مونتسكيو أن البشر خيرٌ تكيفًّا مع الوسط منهم مع الأضداد. وبعد عقود قليلة، سعى جورج واشنطن إلى مخالفته في أدب. ففي خطاب الوداع الذي ألقاه في عام 1796 بدا في نبرة أول رئيس للولايات المتحدة أنه يطلق إشارة تحذير من الآثار المهلكة لروح التحزب والفرقة. فهذه الروح، مثلما رأى، تضرب بجذورها في أقوى مشاعر العقل البشري ويمكن أن نراها في «أوضح أشكالها» في الحكم الشعبي إذ يحتدم التنافس والتباري بين الفرقاء «مشحوذا بروح الانتقام والتصلُّب.

ومن ينظر إلى العالم اليوم، قد يجد في نفسه ميلا إلى واشنطن دون مونتسكيو. فمشهدنا السياسي لا يعرض غير قليل مما ينم عن إيماننا بهذه الفضيلة التي بغيرها يصبح «كل ذي سلطة» ـ على حد ما اشتهر عن جون آدمز قوله في عام 1776 ـ «وحشا شرسا ضاريا». وبرغم أن مؤسساتنا الديمقراطية تعتمد على احتكام الفاعلين السياسيين إلى الفطرة السليمة وضبط النفس والاعتدال، فإننا نعيش في عالم يهيمن عليه الغلو والإفراط الأيديولوجي ويبدو المعتدلون فيه جنسا مهددا بالانقراض بحاجة ماسة إلى الحماية. فهل في أيدينا من شيء يمكن أن نفعله من أجل إنقاذهم من الانقراض؟ للإجابة على هذا السؤال، ينبغي علينا أن نلقي نظرة جديدة على الاعتدال الذي اعتدَّه إدموند بيرك فضيلة عسيرة، لا تلائم غير النبلاء وذوي العقول الجسورة. ما معنى أن تكون صوتا معتدلا في الحياة السياسية والعامة؟ ما المبادئ التي يقوم عليها الاعتدال؟ ما الذي ينشد معتدلون تحقيقه في مجتمع، وكيف يختلفون عن العقول الأكثر راديكالية أو تطرفا؟

قبل إجابة هذه الأسئلة، لا بد من معالجة رؤية شائعة تميل إلى مساواة الاعتدال بالتردد والضعف والانتهازية والجبن. في نظر من يتبنون هذا التفسير، يبدو الاعتدال فضيلة رخوة مائعة غير مرغوب فيها، فهي نقيض الحزم ووضوح الغرض المرغوب لدى من يفضلون التناقضات الصارخة والألوان الأكثر سطوعا. ولقد قال نيتشه ذات مرة ساخرا إن «الاعتدال يرى نفسه جميلا» وليس ذلك إلا «لأنه لا يعي أنه في أعين الاعتدال يبدو أسود رصينا، وبالتالي قبيح السحنة». أما ذوو الميول السياسية فلا يرضون بالاعتدال لأنهم يرونه شكلا من أشكال المداهنة ويرون أنه يمثل منصة ملائمة للحشد وللإصلاح.

ماذا كان رأي القدماء في هذا كله؟ هم، ابتداء، لم يشتركوا وإيانا في تشككنا في الاعتدال. بل إنهم على العكس من ذلك أثنوا عليه ورأوا أن من يوصفون بـ«البرابرة» عاجزون عن الاعتدال، أي عاجزين عن اتباع المسار الوسطي العقلاني. وإذا كان الكتَّاب الكلاسيكيون قد اتفقوا على أهمية الاعتدال، فقد أصروا أيضا على أنه ليس بالفضيلة اليسيرة. فقد قال تاسيتُس إنه في واقع الأمر «درس الحكمة الأصعب» في حين ربط هوراس بين الاعتدال والوسط الذهبي والتوازن وكل ما يراه من الطيبات، لكنه صعب التحقيق على مستوى الممارسة. وأبرز أفلاطون كلا من أهمية الاعتدال وصعوبته في «الجمهورية»، إذ عرَّفه بأنه الفضيلة التي تتيح لنا التحكم في عواطفنا ومشاعرنا ورغباتنا أو ضبطها. وعلى جميع ما بينهما من اختلافات، لم تغب حكمة أفلاطون عن أهم تلاميذه وهو أرسطو. قد عرَّف الفضيلة في «الأخلاق النيقوماخية» بأنها الوسط بين نقيضين، وأصر على أن «البارع في أي فن هو من يجتنب الإفراط أو التفريط» ويسعى دائما إلى «التوسط» الذي يحفظ النظام والحرية في المجتمع. لكن بما أن الوسط لا يكون أحادي البعد على الإطلاق، فإن علينا دائما أن نقيِّم ونقدِّر سياق اختياراتنا لكي نقرر مسار العمل الملائم في الوقت «الصحيح» وفي المكان «الصحيح» ومع النوع «الصحيح» من الناس. ولكي نحقق هذا كله، فإن المرء بحاجة إلى الحكمة والاعتدال، برغم أنه ما من خوارزمية لهما، فليس من الممكن تعلم الاعتدال واكتسابه إلا بالتجربة والممارسة. فهو فضيلة صعبة، غير ملائمة للشباب الذين يفتقرون إلى المعرفة والصبر.

والاعتدال بوصفه ضبطا للنفس يحتل أيضا مكانا أساسيا في التراث المسيحي الذي طالما اعتدَّه هو والتعقل فضيلة أساسية. يذهب كثير من علماء اللاهوت المسيحيين ـ ومهم القديس توما الاكويني ـ إلى أن الاعتدال لا يتعارض مع الجَلَد والشجاعة والحكمة. بل إنهم يزعمون في واقع الأمر أن المرء لا يكون حكيما وشجاعا دون أن يكون في الوقت نفسه معتدلا. والاعتدال والانضباط يتوافقان في ما يرى القديس توما الاكويني وغيره مع الخير. وبذلك يظهر الاعتدال بوصفه «الخيط الذهبي الذي يلضم جميع لآلئ الفضائل» إذا ما استعنا بالصورة الجميلة التي نجدها لدى كاتب القرن السابع عشر الإنجليزي جوزيف هيل.

على خطى القدماء الذين ساووا بين الاعتدال والحكمة العملية، ذهب مونتسكيو في كتابه «روح القوانين» (1748) إلى أن الاعتدال هو فضيلة المشرع العليا وإن أصر أيضا على أن الاعتدال أكبر كثيرا من الوسط الذهبي الشهير بين كل نقيضين. فهو يشير إلى جملة متعددة من الأشياء في وقت واحد: فهو يشير إلى خصلة شخصية محددة (أي الاعتدال بوصفه تعقلا انضباطا وضبطا للنفس) ونمط معين من الفعل السياسي (يقابل التطرف والتعصب) وجملة فريدة من الترتيبات المؤسسية والدستورية. وقد تقدمت أبعاد الاعتدال المؤسسية إلى الصدارة بوضوح في «البحوث الفيدرالية» (1787-1788) التي أشار كتَّابها إلى مونتسكيو في حالات كثيرة باعتباره «الملهم». إذ فهم جيمس ماديسن وألكسندر هاملتن، وجون لاي أن حرية الدولة ورخاءها يقومان على وجود توازن حكيم بين الجماعات والطبقات في المجتمع، وكذلك على بناء حكيم للسلطة يحوي توازنا وفصلا بين السلطات، ويحوي الفيدرالية، ويحوي المراجعة القضائية، ويحوي نظام الغرفتين البرلمانيتين. وذلك التوازن، الهش المهدد دائما، هو القادر على أن يحول دون تعدي أي من هذه الفصائل على الأخريات ويمنع أيا منها من أن تحوز في المجتمع سلطة مطلقة، وهو ما خشي واشنطن من وقوعه في مستقبل الجمهورية الأمريكية الوليدة.

يذكِّرنا أنصار الاعتدال أولئك بأن الاعتدال يشكل تراثا فكريا متماسكا ومتنوعا هو بمثابة أرخبيل لم يستكشف بعد بصفة تامة. وهم يعلموننا أن الاعتدال أكثر كثيرا من محض خصلة شخصية بسيطة، أو حالة ذهنية، أو ميل من الميول. فبالإضافة إلى معناه الأخلاقي، فإن له أيضا رؤية سياسية فريدة، وضربا محددا من الفعل السياسي يحتوي الكياسة ويحتوي شكلا من الانتقائية، فهو نقيض الطهرانية الأيديولوجية. والمعتدلون يعون بالصواب النسبي لقناعاتهم السياسية ونقص معرفتهم وعدم كمال معلوماتهم. ولذلك فهم يفضلون أن يفكروا «سياسيا» على أن يفكروا أيديولوجيا، وأن يروا العالم لا من خلال عدسات مانوية، أي بالأبيض والأسود أو بمنطق «نحن في مقابل هم»، وإنما من خلال درجات الرمادي. ويرفض المعتدلون أن يحددوا طريقة واحدة باعتبارها الطريقة المثلى، ولا يسعون إلى العثور على حل وحيد قاطع لمشكلات مستعصية وإنما يكونون مستعدين بدلا من ذلك للوصول إلى حلول وسطى معقولة كلما أمكن ذلك.وباعتبارهم «إصلاحيين» يفتقرون إلى أيديولوجية محددة وضيقة، فإنهم يكونون راضين بضبط أشرعة سفينة الدولة من أجل تحاشي انقلابها في أوقات الأزمات.

وبذلك، فالاعتدال عمل توازن معقد، لا يختلف عن فن المشي على حبل رفيع. وغلاف كتابي الأخير «وجوه الاعتدال: فن التوازن في عصر التطرف» (2016) يحتله لاعب متخصص في السير على الحبل. فالسائر على الحبل المشدود يحتاج إلى أمور كثيرة لاجتناب السقوط، ومن ذلك: المهارات، والتدريب، والصبر، والعزيمة، والرؤية، والشجاعة، والفن، والبصيرة، والحدس. وهو لا يمكنه لا الرجوع إلى الوراء ولا الثبات في المكان. والاتجاه الوحيد الممكن بالنسبة له هو التقدم إلى الأمام. ولذلك يكون لزاما عليه أن يمتلك رؤية للمقصد النهائي وألا يحيد بصره عنه مطلقا، مع إبدائه الاهتمام اللازم بكل خطوة، وإدراكه أن كل خطأ في الحسابات قد يكون مميتا. إن السياسي المتمكن في تقديري يشبه السائر القدير على الحبل: فهو بحاجة إلى التوازن بين جميع الاعتبارات، ولا بد أن يتسم بالتعقل، والحذر، والسرعة في رد الفعل، ويجب أن يتحلى بحدس جيد وإحساس بالاتجاه. ولزاما عليه أن يمتلك أيضا شجاعة السباحة ضد التيار إذا ما لزم الأمر، ويجب أن يطالب دائما بالاستماع أيضا للجانب الآخر في أي موضوع مثير للجدل. والنقيض هو من يعرف الإجابات حتى قبل طرح الأسئلة، ومن لا يهتم بالإنصات، ومن يقسم العالم بين قوى الخير وقوى الشر، وبين أصدقاء وأعداء. وعندنا أمثلة كثيرة لأولئك المؤمنين بصوابهم في عصر تزايد التصلب الذي نعيش فيه. ولكي نقاومهم بنجاح، فقد آن الأوان لأن نعيد اكتشاف فضيلة الاعتدال التي «يرجَّح» في رحابها ـ مثلما قال ديفيد هيوم فأحسن القول في خمسينيات القرن الثامن عشر ـ «أن نقابل الحقيقة واليقين». فالاعتدال قد يكون عقيدة قتالية ناجحة تترك المجال مفتوحا للحوار مع الملتزمين بالحفاظ على القيم الأساسية في مجتمعنا الديمقراطي.