No Image
عمان الثقافي

الاتجاهات الفلسفية الحديثة من المناهج إلى الذكاء الاصطناعي

25 يناير 2023
25 يناير 2023

تمر العلوم والفلسفات بتحولات بنيوية عميقة وأخرى سطحية تُغير مساراتها البحثية بشكل مستمر، غير أنه في خضم هذه التحولات تبقى البنية التحتية للأسئلة والمناهج المتُبعة حاضرة في كل هذه التقلبات. فهناك تحديات تنشأ بشكل مستمر نتيجة للتطورات العلمية والتقنية المختلفة، الأمر الذي يدعو المشتغلين بهذه الحقول لإعادة النظر بين فترة وأخرى في أثر هذه التطورات في كل حقل على حدة. غير أن التحولات الكبرى في هذا المجال لا تقتصر على المواضيع فقط بل يتعدى ذلك – وهذا هو الأهم – إلى المناهج التي تحكم وتتحكم بالرؤية وبالطريقة التي تُرى بها الأشياء والظواهر المختلفة. ذلك أن المناهج بالرغم من ثباتها النسبي مؤخرا، إلا أنها تتعرض بين فترة وأخرى وبشكل ٍ بطيء لبعض التغيرات والزحزحة والتوسع. ومع الصعود المتسارع للتقنية في كل مجالات الحياة المختلفة، أصبحت القضايا وطرق التعامل مع الإشكاليات الكثيرة بحاجة لما يواكبها من مناهج وتحليلات وأدوات تسعى للقبض عليها، وفهمها وفي الكثير من الحالات التنبؤ بحركتها واستشراف نتائجها والتحكم بعواقبها.

من هنا، نجد تداخلا كبيرا بين المناهج والموضوعات أو القضايا التي تعالجها العلوم والفلسفات من جهة، كما نجد أن هذه المناهج ترتبط بأسماء فلاسفة أحدثوا انعطافه في الرؤية الفلسفية أثرت بدورها على مناهج البحث العلمي ونتائجه من الجهة الأخرى. فهناك المنهجية السقراطية التوليدية، وهناك المنهجية الديكارتية الشكية، وطريقة ابن رشد الفلسفية، وفلسفة هيجل الدياليكتية، ومادية ماركس، وغيرها من المنهجيات المرتبطة بأسماء فلاسفة غيرت رؤيتنا للعالم والظواهر المختلفة.

تتطرق هذه الورقة لموضوعين مترابطين:

1) أهمية المنهج ودوره في تغيير الرؤية الفلسفية.

2) تأثير الذكاء الاصطناعي على مناهج وطبيعة البحث الفلسفي.

1) المنهج العلمي والرؤية الفلسفية:

يتفق الكثير من الفلاسفة على ضرورة وجود منهج لمعالجة القضايا اللغوية والفلسفية والتاريخية والجمالية، الأمر الذي جعل التفريق بين العلوم الطبيعية والإنسانية ضروريا وله تبعاته المختلفة على البحث وقضاياه. «فالتفكير الذاتي المنطقي، الذي رافق العلوم الإنسانية في القرن التاسع عشر، كان محكوما كليا بنموذج العلوم الطبيعية»( ). غير أن العلوم الإنسانية تُعنى بتأسيس التشابهات والانتظامات والامتثال للقانون، وهي التي تقيم إمكانية التنبؤ بالظواهر والعمليات الفردية»( )، لذلك كان الاستقراء بالرغم من الانتقادات الكثيرة التي طالته لاحقا، هو المنهج الأساسي في العلوم الإنسانية لفترة طويلة. فالمنهج بهذا المعنى، ليس ترديد مقولات متناثرة تدعم موقفا ما دون الآخر، كما أنه ليس رصفا لأسماء ومؤلفات في نمط فكري واحد، بل هو رؤية ونظرة مختلفة عن غيرها كما قال برتراند رسل في كتابه النظرة العلمية، وهذا يترتب عليه تغيير زاوية النظر وطرق المعالجة والمرجعيات التي تقود كل ذلك.

وبالرغم من وجود مناهج مختلفة تسعى لمعالجة الكثير من القضايا والمشكلات، إلا أنها تمر في الكثير من الأحيان بأزمة حادة، فهي كما يقول أدموند هوسرل متحدثا عن أزمة العلوم الأوروبية، بأنها واقعية أكثر من اللازم لذلك يقول: إن «علوما لا تهتم إلا بالوقائع تصنع بشرا لا يعرفون إلا الوقائع»( )، الأمر الذي جعل العلم لا يمتلك الأجوبة على كل الأسئلة التي يطرحها العقل البشري أو تحتاجها الروح البشرية في أفق تاريخيتها الوجودي المفعم بالتقلبات والقلق الروحي المستمر تجاه الطبيعة والدين والذات. فالموضوعية بالرغم من طابعها العلمي إلا أنها تختزل الكثير من الأسئلة البشرية المهمة والضرورية، بحجة الذاتية المفرطة والنسبوية والثقافوية والعلموية وغيرها من النزعات المتطرفة في الاتجاهين.

من هنا تأتي أهمية العلوم الإنسانية والاجتماعية في علاقتها الوثيقة بفلسفة العلم الضافرة التي تواصل تدشين الكثير من الحقول المعرفية بشكل مستمر، والتي تُركز على الإنسان وعلاقته بما حوله من منتجات، وعوالم، وشرائع، وتساؤلات وجودية وفلسفية وغيرها. غير أن هذا الحقل الإنساني والاجتماعي يكتنفه الكثير من التعقيد وعدم الوضوح، «فالعالم الاجتماعي له خصائص تميزه بشكل أساسي عن العالم الطبيعي، مثل: عدم التجانس، المرونة، والصدفة، حيث إنه ليس نظام عمليات يحكمها القانون، فهو مزيج من أنواع مختلفة من المؤسسات، وأشكال السلوك البشري، والقيود الطبيعية والبيئية، والأحداث الطارئة»()، وهذا يعني أنه يجب التنازل عن الفكرة الدوغمائية التي تقضي بضرورة أن تتشابه العلوم الاجتماعية مع العلوم الطبيعية في الكثير من التفاصيل والرؤى والمناهج. الأمر الذي جعل الكثير من الفلاسفة والباحثين لا يتحدثون عن مناهج بالمعنى التقليدي بل بنماذج، واستعارات مختلفة ومغايرة عند البحث والتعاطي مع القضايا الاجتماعية. فعلى سبيل المثال لا يمكن التنبؤ بأفعال الأفراد وتصرفاتهم بالرغم من النظريات الكثيرة، والخرائط الذهنية والسلوكية الممتدة منذ الولادة وحتى الموت، ذلك أن هناك عوامل كثيرة تتحكم في هذه التصرفات كاللغة، الخلفية الفردية، التربية وغيرها.

وبالرغم من ذلك، تبقى الفلسفة الحقل البشري الأكثر قدرة وكثافة على اكتناه الأفراد والمجتمعات من كل النواحي والأصعدة، قبل العلم وبعده، ذلك أن الأدوات العلمية بالرغم من أهميتها لها محدودية لا تستطيع اختراقها في التعامل مع الطبيعة البشرية، وهي المعضلة التي انتبه لها الكثير من الفلاسفة منذ قديم الزمان بالرغم من اختلاف الأدوات وخضوعها للكثير من العوامل التاريخية الطبيعية.

غير أن التقنية أعطت الفلسفة الكثير من النشاط والحيوية، وذلك منذ الثورة الصناعية ونقدها الحاد من قبل كارل ماركس (1818م – 1883م) وعلاقتها بالاغتراب من جهة، وموقف مارتن هايدغر (1889م- 1976م) من التقنية الذي يعتبرها «بأنها تتجاوز الوسيلة لتصل إلى نمط من الانكشاف»( ). فالتقنية الحديثة –بحسب هايدغر– «مختلفة عن سابقاتها، إلى درجةٍ أنها لا يمكن أن تقارن معها؛ لأنها مؤسسة على العلم الحديث الدقيق للطبيعة»( ). لكن لم يعد من الممكن رفض التقنية أو التعامل معها بموقف سلبي رافض لها ولنتائجها المختلفة، حيث أصبحت جزءا لا يتجزأ من الحياة المعاصرة، كما أصبحت تُشكل تحديا جوهريا على كل الأصعدة بما فيها الأخلاق بالدرجة الأولى وعلاقتها بكينونة الفرد ومنظومته الفكرية المتداخلة، وبشكل خاص مع ظهور الذكاء الاصطناعي الذي أجرى تحولا على المنهجية الفلسفية في تعاملها مع التقنية، واللغة، والأخلاق ومختلف الأبعاد البشرية بشكل عام، وهو موضوع الفقرة اللاحقة.

2) الذكاء الاصطناعي والخلفية الفلسفية:

- يتسم مصطلح الذكاء الاصطناعي بالحداثة الزمنية، في حين أن الفلسفة موغلة في القدم برؤاها وجدلها ومصطلحاتها، وتاريخها، وأعلامها في مختلف الأزمنة والأمكنة. غير أن الذكاء الاصطناعي يختلف عن الذكاء الطبيعي في مواضع كثيرة، حيث إن الاصطناعي يحُيل إلى عمليات معقدة تقوم بها الكثير من الأجهزة التقنية المتطورة التي يتم برمجتها عن طريق فرق كبيرة من العلماء والفنيين في مجالات مختلفة. تشترك الفلسفة مع الذكاء الاصطناعي في مصطلحات، وعمليات تتكرر باستمرار، وتحديدا مع الفيلسوف الألماني كانت (1724م – 1804م) الذي يعتبره الكثير من الباحثين «العرّاب الفكري» لعلوم الوعي المختلفة التي تؤسس للذكاء الاصطناعي، مثل التعلم العميق، وظائف العقل، والإدراك وغيرها من المفاهيم. فعلى المستوى التاريخي، تشير أدبيات الذكاء الاصطناعي إلى أن هذا المصطلح تم صكه عام 1956م من قبل عالم الحوسبة والإدراك جون مكارثي وذلك في مؤتمر دارتموث في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي من الممكن لهذه الآلات «أن تُحاكي كل جانب من جوانب التعلم أو أي ميزة أخرى من ميزات الذكاء، من بينها استخدام اللغة، صياغة المفاهيم المجردة، حل المشكلات التي تواجه البشر في تحسين الذات»()، وغيرها من الوظائف. غير أن هذا الطموح في تلك الفترة كان يشكل تحديا كبيرا لهذه الآلات مقارنة مع البشر بشكل خاص والأنواع الحية الأخرى بشكل عام التي تتمتع بالكثير من القدرات الروحية والعقلية والتصورات والعواطف وحتى الجوانب الروحانية المختلفة كالأخلاق وغيرها. كما كانت التحديات الأخرى موضع اهتمام كبير من قبل الفرق البحثية الكثيرة التي جاءت بعد مكارثي التي جعلتها كأولوية في المشاريع المستقبلية، والتي تتضمن:

1) التفاعلية Reactivity: وهي تتضمن القدرة على إدراك بيئتهم، والاستجابة للتغييرات التي تحدث فيها، وربما تعلم أفضل السبل للتكيف مع تلك التغييرات.

2) الاستباقية Pro-activeness: القدرة على أخذ زمام المبادرة من أجل تحقيق أهدافهم الخاصة.

3) البُعد الاجتماعي: القدرة على التفاعل مع البشر الآخرين.

أثارت هذه الطموحات وغيرها الكثير من التساؤلات الفلسفية حول الطبيعة البشرية من جهة وماذا يعني أن تكون إنسانا، وحول طبيعة ومستقبل الذكاء الاصطناعي من الجهة الثانية، وحول المعرفة وطرق التوصل إليها ومعالجتها من الجهة الثالثة، وحول الواقع المتعدد الذي يتضمن المكان والزمان والتغيرات التي أحدثتها التقنية في هذا الجانب من الجهة الرابعة. كما أثارت من جانب آخر الكثير من التساؤلات حول الجانب الأخلاقي الذي يعتبر في صميم الحقل الفلسفي الذي يتسع للكثير من العناصر والنقاشات الأخلاقية التي تصدرت المشهد وبشكل خاص الأخلاقيات التطبيقية Applied Ethics، التي تُشكل تحديًا كبيرًا للنظريات الأخلاقية الكلاسيكية والحديثة وبالتحديد قبل الوصول لعصر الذكاء الاصطناعي. لذا كان من الضروري العودة للعراب الفكري، ولكن بطريقة علمية أكثر من ذي قبل، فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد مخططات ورقية، وهندسية، ونظريات بل يتطلب تطبيق هذه الأفكار بشكل خاص على الآلات بعض الخبرة (Erfahrung) التي بحسب كانت حدثا يوميا عاديا يقع كل يوم، كما إنها موحدة Unified أي أن التجربة تحدث بشكل منفرد، ولا يمكن الحصول على تجارب مختلفة في وقت واحد بالرغم من تفاوت المحفزات، كما أنها -وهذا هو المهم- ليست مفاهيم مجردة، بل تأتي معايشة الأحداث بما تتضمنه من أخطاء وتناقض وصواب عاملا حاسما في مسار التجارب الفردية. لكنها في مقابل ذلك ليست شيئا معطى للجميع، أو أمر مسلم به وجاهز ينطبق على جميع الأفراد، فعندما أفتح عيني، يقول كانت، أرى أشياء كثيرة، بخصائص مختلفة تتغير بمرور الوقت. لكن هذه التجربة هي حدث معقد لا يحدث إلا إذا كان عدد لا يحصى من العمليات الأساسية يعمل كما ينبغي.

بالإضافة للخبرة، يأتي الحدس Anschauung كمفهوم فلسفي أساسي لدى كانت الذي يعني تمثيل أو استحضار كائن معين (على سبيل المثال، هذا الطائر بالتحديد) أو تمثيل سمة خاصة لكائن معين في وقت محدد. فالحدس فردي، وخاص، ولا يمكن مشاركته مع الآخرين ولا فهمه من قبلهم بنفس الرؤية والوضوح، حيث إنه يعتمد على عناصر مترابطة.

بالرغم من وجود التجربة التي تولد الخبرة، والحدس الذي يستحضر الأشياء، إلا أن توحيد هذه العناصر في الكثير من ردات الفعل المختلفة ليس منفصلا عن ما أسماه كانت توحيد الحدس Unifying Intuition التي تعني أنها بحاجة لتركيب منطق معين بعد كل هذه العمليات السريعة في لمح البصر. تحتاج هذه العلميات لتتوفر في الآلات لتعاون الفلاسفة وعلماء التقنية والفنيين لدمج كل هذه العوامل وغيرها ذات الخلفية الفلسفية عند برمجة الآلات وتلقيها للأوامر المختلفة من المستخدمين، غير أنها في الواقع المعاش لا تحتاج للكثير من الوقت، فهي تحدث بين طرفة عين وانتباهتها.

لا تقتصر الخلفية الفلسفية على هذه النقاط فقط، فالتعاضد الكبير بين الفلسفة والتقنية والمنطق لم يعد من الممكن تجاهله وبشكل خاص مع صعود المنطق الرمزي، حيث إن هذه الوظائف لا تقوم بدون لغة برمجية تتخذ الآلات بناء عليها مجموعة من القرارات السريعة المنطقية المبنية على عدد كبير من العمليات والخوازميات السلوكية التي بدورها تتحكم في كل العناصر المذكورة أعلاه، ومن ضمنها وربما أهمها العناصر اللغوية التي إذا أخذنا في الحسبان بأن النطق والتفاعل الفوري الطبيعي بين البشر، يسلط الضوء على قضايا فلسفية نوقشت منذ فترة طويلة، لكنها الآن تخضع للاختبار العملي المباشر.

بناء على ما سبق، نجد أن ظهور الذكاء الاصطناعي ساهم بنسبة كبيرة في منح الفلسفة حيوية غير مسبوقة، وذلك على عكس التصورات الشائعة التي ترى أن الفلسفة لم يعد لها مكان في عالم التقنية. فمع تسارع وتيرة التقنيات غير المسبوق لم يعد المنهج كما كان سابقا، كما لم تعد المصطلحات محصورة بين الواقعي والرمزي والخيالي، بل أصبح التداخل بين هذه العوالم الشعار الواضح والتطبيق الفعلي للكثير من النظريات.غير أن التحدي الكبير في السياق، يشمل القيم التي رافقت هذه التقنيات، بما فيها التقنيات الطبية، التي تشهد اشتباكا عمليا كبيرا بين هذه العناصر، التي تضع كل هذه النظريات أمام التطبيق الفعلي والواقعي لها.الأمر الذي يعني بأن العصور القادمة ستشهد انتعاشة فلسفية خصبة بين حقول كانت لفترة طويلة تبدو غير ذات صلة.

علي بن سليمان الرواحي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والفلسفة