No Image
عمان الثقافي

الإعلامي والروائي اللبناني حسن داود: لم تعد بيروت جنّة الثقافة والإعلام.. والصحف أقفلت أبوابها

26 أبريل 2023
26 أبريل 2023

لا نقول جديدًا إن قلنا: إنّ وضع الصحافة الثقافيّة اللبنانية والعربية في تراجع مستمر، ويوحي بانتقاله من درجة السيئ إلى الدرجة الأسوأ كل يوم، بل كل ساعة، حتى أن البعض من مؤسّساتنا الإعلاميّة العربيّة المرموقة ألغى ملاحقه الثقافية، التي كانت أسّست، وبجدارة، لولادة ورعاية كتّاب ومبدعين لبنانيين وعرب أفذاذ في مجالات الشعر والرواية والمسرح والسينما وحتى النقد أيضًا: «كعلم يتقدّم على الإبداع نفسه، لأنه يخترقه في صميمه، ويقوّم مجالاته، ويرسم مآلاته في ما يتناوله من كشوفات وأسرار عميقة» على حدّ تعبير الناقد الفرنسي الكبير رولان بارت.

طبعاً الحِجج على هذا الإلغاء، أو تقليصه، كثيرة ومتنوّعة، لكنها غير مقنعة بالنسبة إلى كثيرين ممن يؤمنون بدور الإعلام الثقافي الهادف، وتأسيسه للأسئلة النقدية العميقة والمتجاوزة في كل شيء، ولكل شيء، والدفع بها للإسهام في بناء إبداع جديد، ليس هو ملك منتجيه من العرب فقط، بل هو ملك الإنسانية جمعاء.

نعم، تُثار اليوم في بيروت، كما في أكثر من عاصمة عربيّة، مسألة الصحافة الثقافية، واقعا ومصيرا، والغيورون على هذه الصحافة، كثرٌ في لبنان، كما في الدنيا العربية، سواء بسواء. لكن على الغيارى، ومعظمهم من أهل الإبداع المفتوح، والثقافة النقدية الجادة، فهم لا يستطيعون فعل أيّ شيء يذكر إزاء هذه الهجمة الكاسحة عليهم، وعلى أدوارهم، والتي هي في الوقت نفسه هجمة على كل إبداع قائم ومفترض في هذه الأمة المستهدفة من كل حدب وصوب.

هنا حوار مع حسن داود، الروائي والإعلامي الثقافي المميز في لبنان، والذي كان أدار لسنوات طويلة الملحق الأدبي الأسبوعي لجريدة «السفير»؛ ثمّ في ما بعد، أسّس وأدار «نوافذ»، الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة «المستقبل». والجريدتان اللبنانيّتان توقفتا - مع الأسف - عن الصدور.

في ما يلي تفاصيل الحوار:

* حسن داود.. أنت أحد الذين أسهموا، وبعمق، في إغناء مسار الصحافة الثقافيّة في لبنان، من خلال عملك الفاعل والمتفاعل فيها، خصوصا ملحق «نوافذ» الثقافي الأسبوعي التابع لجريدة «المستقبل» اللبنانية، وكذلك على مستوى مقالاتك وتحقيقاتك وكتاباتك النقديّة التي أرسيتها على صفحات منابر إعلامية ثقافية لبنانية أخرى، وباتت جميعها تشكّل اليوم معلما ثقافيّا يُعتدّ به... لا بأس، كيف تقيّم تلك المرحلة الإعلاميّة الثقافيّة التي عرفتها بيروت، وأسّست لها بقوة ورياديّة جاذبة، محليّا وعربيّا؟

قبل تسلّمي تحرير ملحق «نوافذ» الثقافي الأسبوعي في صحيفة «المستقبل» اللبنانيّة، كنت قد عملت مسؤولًا للملحق الأدبي الأسبوعي في صحيفة «السفير» اللبنانيّة. لم يكن الوقت الذي سبق تكليفي كافياً لتحضير المواد المطلوبة، أو لإعداد خطّة عمل، أو للاتصال بمن سيشاركون في الكتابة إلى جانب فريق العمل الصغير. كل ذلك كان يمكن إرجاؤه، أو على الأصح، الاهتداء إليه بالتدريج. لكن إصداري العدد الأول كان دالًا على كيف سيسير عليه الملحق الثقافي الجديد، أسئلةً ورؤيةً على نحو ما. ما زلت إلى الآن أتذكّر بعض محتويات ذلك العدد، وعلى رأسها تغطية المعرض الفني الاستثنائي الذي كان أقامه الناشط الثقافي اللبناني جورج الزعنّي تحت عنوان: «لبنان أيام زمان». كان اللبنانيون آنذاك واقعين في أسر الحرب الأهلية المُطبِقة على أنفاسهم للسنة الخامسة على التوالي؛ وكان المسلحون سادة مدنهم وأحيائهم وحراكهم اليومي.

هكذا فالحياة المدنيّة كانت مغيّبة، والحنين إلى زمن ما قبل الحرب كان في ذروته. جورج الزعنّي أدرك الأمر بفطرته الثاقبة، فدعا اللبنانيين إلى أن يحملوا إليه صورهم العائلية وبعض مقتنياتهم التاريخية المخبّأة في منازلهم، فاستجابوا له على نحو كاسح، وكان معرضه الفني المغاير بأسلوب مغاير، والذي أثار، في النتيجة، دهشة معظم مرتاديه.

باختصار، وعلى ما أعتقد، فإنّ احتفاء «ملحق السفير» بذلك المعرض الضخم الذي ضمّ ما ضمّ من صور عائليّة حميمة ومقتنيات ذات خصوصيّة نادرة ودالّة، ساعد في تحويله إلى مناسبة وجدانية للبنانيين، بل واعتراضية على كلّ الميليشيات المتسلطة بالسلاح على حياتهم اليومية ولقمة عيشهم اليومي.

مقطع القول، كان الاحتفال بذلك المعرض/ المهرجان قد تحوّل إلى وجهة إضافية في العمل الثقافي؛ أعني أنني، منذ البداية، رغبت في توسعة مجال الإعلام الثقافي الذي درجت عليه الصحف الأخرى، وحصرته في أبواب ثابتة هي: الرواية، الشعر، المسرح، السينما، الفن التشكيلي.... إلخ. وعليه لم تكن الصحافة الثقافية لتخرج عن هذا التقسيم؛ ولذلك لم تستطع إشراك قرّاء من غير المهتمّين بتلكم الأبواب. أعني، بترجمة أخرى، أنّ الملحق رفد توجّهاته السابقة بقاعدة عريضة من أعمال استثنائيّة لمعماريين، وفوتوغرافيين، ودارسي عادات، وخبراء مدن، وراصدي حيوات معلومة ومجهولة، أسهمت جميعها في تنويع أفق العمل الإعلامي الثقافي، وتوسعة قاعدة متابعيه وقرائه.

وهذا ما دأبت على الاستمرار به في عملي اللاحق في ملحق «نوافذ» الثقافي في صحيفة «المستقبل»، حيث برفقة زملاء قديرين، أمكن لنا أن نُصدِر، وعلى مدار سنوات طويلة، ملاحق ثقافية، كان هاجسها تنويع مجال العمل الثقافي وإغنائه عدداً بعد عدد. أذكر أننا أنجزنا ملفّات عديدة، كان من بينها تغطيات واسعة لما تغيّر في بيروت من أنماط عيش، وطرز لباس، وهندسة بناء، وأشكال حياة، وأيضاً ما تغيّر على مستوى تطورات التعليم والأفكار النوعية المتجاوزة، وطرائق السكن، وغير ذلك مما أمكننا رصده وتقديمه بشكل مفارق على مدى سنة كاملة شملت تقريبا أبرز ما تغيّر في عقود القرن العشرين.

* ألا ترى معي أنه بات من الضروري، وحفظًا للأمانة التاريخية، عدم تجاهل أسماء صحافية ثقافيّة رياديّة أسّست لمداميك مثل هذا الإعلام في لبنان، على غرار طلال رحمة، رئيس القسم الثقافي الأسبق في مجلة «الحوادث»، وكذلك فاروق البقيلي، رئيس القسم الثقافي الأسبق في مجلة «الأسبوع العربي»، إذ يتمّ تجاهلهما، إمّا عن قصد أو عن عدم دراية بما قاما به.. والرأي الثاني هو الأرجح، كما أسرّ لي به ذات يوم الشاعر الكبير أنسي الحاج؟

طلال رحمة وفاروق البقيلي كانا حاضرين في الوسط الثقافي والإعلامي، وكانا رائدين، ليس في عملهما الصحافي فقط، ولكن في حضورهما ككاتبين ومثقفين أيضاّ. هما يبدوان الآن، كما لو أنهما شاركا في رياديّة إعلامية ثقافية سابقة على تجربتنا.

أمّا المجلات الأسبوعية التي عملا فيها، فكانت أقلّ قابليّة للانتشار مثل جريدة «النهار» وجريدة «السفير». المهم أن يكون المنبر الإعلامي منبراً له صدارته الأولى، أقصد لجهة التوزيع والانتشار، إذ هذا ما يتيح للمطبوعة الاستقطاب والتأثير على الناس وبناء رأي عام أعرض في وسطهم.

من ناحية أخرى، أرى أنه يمكن للصحف أو المجلّات أن تكون، فيما خصّ توجّههما إلى قرّائهما، أشبه بجزر أو مقاطعات لكل منها جمهورها. هذا بالطبع سيجعل من أسماء مهمّة أقل حضورا مما تقتضي أدوارهم وثقافتهم. هذا ولنقل أنّ الصحافة، بتنوّع كتّابها وصفحاتها، تميل إلى نسيان ما جرى في تواريخها، حيث يحلّ اللاحق محلّ من سبقه.

لملحق جريدة «النهار» الثقافي تاريخ إعلامي عريق في المضمار الذي نتكلم عليه الآن، وذلك مذ أسّسه وأشرف عليه الشاعر والإعلامي أنسي الحاج، والذي كان من أهم إنجازاته أنه دفع بجديد التجارب الإبداعيّة والنقديّة، لبنانيّاً وعربيّاً، إلى تأكيد حضورها في المشهد الثقافي العربي العام، بعدما كان هذا المشهد محتكراً من دوريّات ثقافية شهرية ذات طابع إيديولوجي على وجه الخصوص.

كما نافس «ملحق النهار الثقافي» في عصره الذهبي، كبرى منابر الحداثة الأدبيّة والنقديّة اللبنانيّة الراسخة في حينها، خصوصا مجلّات: «شعر» و«مواقف» و«حوار»... ما تعليقك؟

أذكر، كما يذكر كثيرون من أبناء جيلي ذلك الاحتفاء الذاتي صباح كل يوم أحد، حيث كنّا نقصد أقرب مكتبة لشراء صحيفة «النهار» بملحقها الثقافي المصاحب، ونبدأ بشغف تصفّحه قبل تصفّح الجريدة نفسها. كان الملحق مرشدنا إلى عيش الثقافة في وقت ما كنّا نحاول الخروج من طرق تعلّمها المدرسي. كان يساعد على إدخالنا في ما يسمّى راهن الحياة الثقافية، محليّا، وعربيّا، ودوليّا.. وأننا به ومعه، نوجد في حاضر ثقافي فاعل وحيوي.

وفي ما خص المجلات الثقافية التي ذكرتها، فأعتقد أننا كجيل ثقافي، كنّا آخر مَن أدركته مجلّة «شعر»، أقصد أننا لم نعش أوج زمن انتشارها، بل أتيح لنا أن نعرف، وبالمعايشة فقط، أواخره. لكن سمعة هذه المجلة كانت حاضرة وغالبة من دون أن نكون هناك.. من دون أن نحضر، ولا أيّ خميس من خميسها (كان الخميس من كل أسبوع هو موعد اجتماع صالونها الأدبي)، أو حتى أن نشهد صدور أعدادها. وهذا النقص عوّضناه بالاحتفاء بالمجّلة واستذكار ما كان كتب، أو قيل، أو رُوي عن اجتماعات أركانها وحواراتهم من أمثال الشعراء: يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة وأحيانا محمد الماغوط... إلخ. ولا غرو، فإنّ ذكرى «شعر» ما زالت حاضرة وبقوّة حتى الآن، على الرغم من انقضاء كل تلك السنوات الطويلة على توقّفها عن الصدور في خريف عام 1970.

نعم، أنا أرى أن ملحق «النهار الثقافي» كان شكلا من أشكال الاستمرار لذكرى مجلة «شعر» ووجودها واحتفائها بالشعر العربي وثورته الحديثة.

أما مجلّة «مواقف» التي أسّسها الشاعر أدونيس في عام 1968، فكانت أيضا معلما متقدما من معالم التجديد الإبداعي والفكري والنقدي على المستويين اللبناني والعربي، وكانت قد صدرت تحت شعار مركزي: «للحرية والإبداع والتغيير». شخصيا لم أكن من قرّاء مجلة «مواقف» فقط، بل كنت، إلى ذلك، حاضرا على ولادة أعدادها، عددا بعد عدد. كان تأثيرها فينا كبيرا، وقتما كنّا طلّابا في الجامعة اللبنانيّة، وكان عميدها الشاعر أدونيس أستاذنا في الجامعة المذكورة. وقد حرص منذ عددها الأول على أن تكون مجلة عربيّة متميّزة، وتتطوّر عبر ذلكم التميّز المفتوح، إذ حوى العدد الأول مقالة فلسفيّة ترحيبيّة للمفكر المصري زكي نجيب محمود حملت عنوان: «ميلاد جديد». كما تضمّن مقالات وكتابات لكبار من أمثال: المستعرب الفرنسي جاك بيرك، والروائي نجيب محفوظ، ود. ناصيف مصار، ود. حليم بركات، ود. أنطون مقدسي، وسلمى الخضراء الجيوسي، وسليم عبّو، ومنير العكش، وخالدة سعيد.. كما تضمّن قصائد للشاعر نزار قباني.

وبتوالي أعداد مجلة «مواقف» التي توقفت عن الصدور في عام 1994، نخلص إلى نتيجة ومفادها أنها شكلت فعلا (في زمنها) منبرا ثقافيّا وإبداعيا رياديّا وجريئا على كل الأصعدة الكتابيّة، بخاصة النقدية منها والشعر والتنظير للحداثة. كما ترجمت في المحصلة مقولة أدونيس التي أوردها منذ العدد الأول: «لن يكون هناك موضوعات مقدسة لا يجوز بحثها».

بوجيز العبارة، علّمتنا «مواقف» الكثير.. وعرّفتنا على رموز كبيرة من المبدعين العرب وغير العرب.. كانت سبّاقة في تقديم نتاجهم وخطابهم الإبداعي بشكل ناضج ومفارق ومفيد للغاية.

أما بخصوص مجلة «حوار» التي أصدرها الشاعر توفيق صايغ (1923 – 1971) في عام 1962، فلا أتذكّر في الواقع أكثر من مقالات متفرّقة قرأتها حول ظاهرتها. وفي النتيجة اعترف بأنني لم أكن من متابعيها على النحو المطلوب، بخاصة وأنها كانت قد توقفت عن الصدور في عام 1967.

وهكذا يا صديقي، ربما أكون قد استعضت عما فاتني من كبير توغل قي مجلتي «شعر» و«حوار» بقراءة «ملحق النهار الثقافي». كما بصفحة «النهار» الثقافيّة اليوميّة، التي أدارها الشاعر شوقي أبي شقرا بكفاءة عالية، وحرص خلالها على اكتشاف وتقديم كل ما يستجدّ في ثقافتنا.

* يقال إنّ تراجع الصحافة الثقافيّة في لبنان، إن لم نقل موتها الآن، يعود في المقام الأول إلى ما حلّ بالبلد من كوارث وفواجع تسبّبت بها الحرب الأهليّة، وما رافقها من انهيار للمجتمع بفئاته كافة، بخاصة فئة المجتمع المدني التي بين ظهرانيها تنتعش أصلا العملية الثقافية، وتقوى بأسئلتها النقدية الجريئة والمتجاوزة... وفي المقام الثاني هو الاستخفاف بالإعلام الثقافي والنظر إليه كضرورة تبويبيّة في الصحافة، خصوصا في زمن انتفاخها المالي والإعلاني؛ ولدى شحّ المال وتراجع الإعلان في تلكم الصحافة، فإنّ أول ما يُضحّى به هو صفحات الثقافة، والملاحق الثقافية، الأمر الذي يعكس في النتيجة، المستوى الهابط والنفعي التجاري للأغلب الأعمّ من أصحاب منابرنا الصحفيّة بوجهيها اليومي والأسبوعي.. ماذا تقول؟

كنّا نرى ونحن في السنوات الأولى من الحرب، ويا للمفارقة، أنّ الثقافة تشهد ازدهارا لم تعرفه في السنوات السابقة. يرجع ذلك لأسباب كثيرة، بينها أن السلوكات الاجتماعية والمعتقدات السياسية والمنظومات الفكرية الراسخة تعرّضت لامتحانات خلخلت رسوخها وثباتها. كان علينا أن ننتظر بداية الثمانينيات من القرن الماضي حتى نرى كيف تجري مراجعة اليقينيات. الثقافة التي أخرجت من عزلة ميادينها الأدبية والفنية، أتيح لها فرصة أن تمتحن مسارات التفكير الحزبية والإيديولوجية. في ما يتعلّق بالملاحق الثقافية، كانت بيروت في تلك السنوات تشهد ما يمكن اعتباره عصرها الذهبي. لم يعد اللبنانيون وحدهم هنا، بل انضم ّإليهم كتّاب وشعراء من دول عربيّة عدّة، قدِموا من سوريا والعراق ومصر، كما من تونس، طبعا إضافة إلى الفلسطينيين الذين كان وجودهم يفيض عن الحضور العارض. أتذكّر، فيما كنت أعمل في جريدة «السفير»، كيف كان الجميع هنا، في السنوات التي سبقت عام

1980، وكيف كان كل شيء يُناقش في الصفحة الثقافية والملحق الثقافي الأسبوعي، وكيف كان الشعراء العرب يلتقون في الغرف نفسها التي تُعدّ فيها الصفحات الثقافية.

الآن، نحن في المرحلة التي كان ينبغي أن يوصلنا إليها بقاؤنا في الحرب، تلك الحرب التي لم تكن فصولها اللاحقة مثلما كان أوّلها. الصحف التي كانت آنذاك مستقطبة للقرّاء المثقفين، تراجعت أو أقفلت أبوابها، ولم تستطع الصحف الناشئة التي حلّت محلّها، أن تقوم بالدور نفسه. وبالموازاة، لم تعد بيروت هي مصدّرة الكتب للعالم العربي، بل إنّ الكتب التي صارت تصدر في بلدانها، قلّما تصل إلى هنا. زد إلى ذلك المكتبات التي أقفلت، وانصراف الإعلام التلفزيوني عن تخصيص مساحات من بثّه للثقافة.

* يبدو أن أزمة الصحافة الثقافية في لبنان تكشف أيضا عن عمق أزمة النخب الثقافية اللبنانية والعربية، خصوصا لجهة غيابها التاريخي عن التحوّلات المخيفة والمؤسفة التي أصابت الهياكل الإعلاميّة الثقافيّة في لبنان؛ فعلى الأقل كان ينبغي لها أن ترفع الصوت عالياً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مشهد هذا الأفول الكبير، خصوصا أنها كانت المستفيدة سابقا من منابر بيروت الثقافيّة في نشر نتاجها الإبداعي والنقدي.. واستطرادا في تكوين وتزخيم ذواتها الإبداعية والفكرية التي هي عليها اليوم... بماذا تعلّق؟

إلى ما ذكرته أعلاه، لا يغيبنّ عن بالنا توقّف التواصل بين المثقفين من جهة، وبينهم وبين قرّائهم من جهة أخرى. هل يمكن المقارنة بين الندوات التي كانت تعقد في الزمن الذهبي السابق، بلقاءات «الزوم» اليوم، والتي تُختتم من دون وعد بالتواصل بين الحاضرين، بل من دون تبادل تحيّات الوداع؟!.

أما في ما خصّ سؤالك عن رفع صوت الكتّاب والمثقّفين، فإنني أرى أنهم، في فترة ازدهار الصحافة الثقافيّة، لم يكونوا هم أصحاب المبادرة، على غرار ما كانه سابقوهم. صارت إدارات الصحف، وسياسات الدول الممولة لها، هي التي تحدّد وجهة الكتابة، وليس مبادرات تقوم بها مجموعات ثقافية (كما في مجلة «شعر»)، أو أفراد (كما في مجلة «مواقف»). لقد سارعت الصحف، فيما هي تُقلّص أدوارها وعدد صفحاتها إلى الاستغناء عن صفحاتها الثقافيّة، هكذا كما لو أنها اكتشفت أنّ الثقافة لا مكان لها في عالم يتقوّض من دون أن يسعى إلى التخفيف من ضراوة منازعاته. السياسة بقيت في المركز الأول، المتفاعلة في ظلّ المواجهات والحروب. وهذه، على الرغم من ضراوتها، لم تستطع النجاة من الترهّل والإملال.. وليتذكّر قارئ هذا الحوار ما تكرّره نشرات الأخبار المتكاثرة كل يوم، بل كل ساعة من ساعات اليوم، هكذا كما لو أنّ العالم علِق في شرك المناورات الكلاميّة غير القابلة للتغيّر.

لقد تفرّق المثقفون، وكثيرون منهم كانوا العاملين في الصفحات الثقافيّة، مستمرين في تفرّقهم إلى ما بعد العزلة التي فرضتها عليهم الجائحة. لم تعد مدينتهم بيروت هي جنّتهم، وهم باقون فيها، لأنهم تأخرّوا عن الانتقال إلى بلدان الهجرة.. وما أكثرها هذه الأيام!!.

* يقال إنّ تحوّل الصحافة الورقيّة إلى صيغة إلكترونيّة، أسهم بدوره في تراجع الإعلام الثقافي الجدّي في لبنان وغير لبنان، خصوصا في ظلّ فوضى النشر السائدة على المواقع الإلكترونيّة واختلال معايير التقييم للمواد الثقافيّة المتدفقة من كل حدب وصوب.. ما تعليقك؟

أفضل ما يمكن أن يتحصّل من قراءة مواقع التواصل، هو قراءة الأخبار عن إصدارات الكتب والإعلان عن مناسبات فنيّة ستحصل. قليلا ما نقرأ نقدا لكتاب أو لعمل فنّي، وإن وقعنا على ذلك، فبنقل ما كُتب قبلا في إحدى الصحف. ربما كان ما تعطيه وقائع التواصل ثقافة عامة سريعة يظنّ المقبلون عليها أنها تعوّض عن قراءة الكتب. هكذا يجد واحدنا نفسه غارقا في ما يتوالى على الشاشة الصغيرة لمحموله الإلكتروني. فهنا تغلب التسلية على المعرفة، حتى في ما خصّ ما هو ثقافي. هي تسلية تتيح لمتداولها أن ينتقل من الخبر اليومي إلى الزجل إلى الطرفة إلى عجائب الحيوان وتاريخ الاختراعات وطرائف البشر غير المنتهية.

نعم، يصعب مقاومة هذا الدفق الذي لن يضيف جديدا، رغم غرائبيته وتنوّعه، إلى مخيّلة متتبّعه أو ثقافته. ذاك أن ما يُدهش في ما نتداوله على «الفايس بوك»، قليلا ما يمكث في الذاكرة، بل وفي العقل أيضا، طالما أنه لا يحثّ على التفكّر أو التساؤل.

هي خواطر لا أكثر، تأتيني أنا الذي ما زلت أؤثر الأنماط القديمة في القراءة والكتابة وسواهما. ربما يجد الجيل الجديد من المثقفين طريقةً ما ليجعل التواصل مفيدا في وقت ما هو مسلّ. وما زالت الخطوات التي قطعتها في اتجاه هذا العالم الجديد قليلة ومتردّدة ومقتصرة على ما هو ضروري، مثل أن أكتب مقالاتي وكتبي على الحاسوب.

* أترى أنه من واجب ما تبقّى من صحافة جديّة ومسؤولة في لبنان التخطيط للعودة بالإعلام الثقافي إلى سابق دوره وزخمه (على الرغم من اختلاف الزمان وتبدّلات المكان) وذلك بالتوازي مع عودة الحياة الثقافيّة، وإن بالتدريج للبنان وعاصمته الجريحة بيروت؟

يبدو، بلغة السياسيين، أن ما حصل قد حصل. لقد انتقل النشر إلى بلدان كتّابه وقرّائه، ولم تعد بيروت مثلما كانت، مطبعة العالم العربي. الصحف أيضا، تلك التي حلّت محلّ بعض سابقاتها، آثرت البقاء في محيطها اللبناني، ولا أعلم إن كانت توزّع أو تُقرأ في الخارج. وليس جديدا التذكير بأنّ بعض الجامعات ألغت بعض اختصاصات العلوم الإنسانيّة، وأنّ الجامعات التي أبقت على بعض تلك الاختصاصات تقدّم حوافز ومنحا للطلاب كي تُبقي الإقبال عليها. لقد انتقل الاهتمام بالثقافة إلى بلدان يمكن لها إنشاء مؤسّسات، إعلامية أو جامعية أو نشرية، بات يعجز لبنان عن حمل أعبائها.

* مع تغييب الصفحات والملاحق الثقافيّة المفارقة والهادفة، تحوّلت صحافة المنوّعات التلفزيونية في لبنان إلى بديل هزلي لها... والبعض مما نؤشر عليهم من «نجوم التلفزة»، بات هنا يصدّق نفسه على أنه يؤسّس لتجارب إعلاميّة ثقافيّة بديلة وعتيدة، فأيّ مفارقة تلك التي نقف عليها اليوم يا صديقي، خصوصا في ظل انعدام أي رادع يحدّ من ظاهرة هذا الهذيان المفتوح؟

لقد ألغت التلفزيونات البرامج الثقافية من مجمل أنشطتها. اختلف الحال عما كان عليه في الماضي القريب. الذريعة هي أنّ الثقافة لا تجلب مُعلنين، وهذا صحيح مع الأسف، إذ إننا كنّا، حتى في زمن عملنا في الصحافة الثقافيّة، معترفين بأنّ السياسة تأخذنا كصحفيين ثقافيين على عاتقها. لا برامج ثقافية الآن في التلفزيونات. إن وُجدت يغلب عليها الترفيه، أعني ما يتعلّق بالقصائد التي تكتب لتلحّن. وفي أحيان يخطر لإحدى الأقنية أن تعيد التذكير بالشعر العربي القديم، على جاري برامج سبقت. لقد غلب الترفيه، والكلام على خفايا الحياة الخاصة للفنانين، والسياسيين أحيانا.

يبقى أن المهم ليس تغييب البرنامج الثقافي فقط، بل إفراغ أكثر ما يُنقل ويذاع من أي مضمون قد يذكّر بأنّ الترفيه، ومعه السياسة، يمكن لهما أن يحملا شيئا يوقف المُشاهد للحظة كي يفكّر بما سمع، أو أن يستخلص منه شيئا يدفع إلى التأمّل.

* أيّ صورة تتخيّلها للبنان وبيروت من دون صحافة ثقافيّة مسؤولة ومؤثرة في إطارها المحلّي.. واستطرادا العربي العام؟

هذا ما يصعب التنبؤ به. أتذكّر هنا، وهذا ما لا ينبغي إغفاله، كيف أنّ انتقال الثقافة والمثقفين لم يكن إلى البلدان الغنية فقط، ثمة بؤر ثقافية لبنانية وعربية في معظم بلدان العالم الغربي اليوم. هل سنكون قادرين على استعادة هؤلاء، أو وقف طموح أولئك الذين ما يزالون هنا للانضمام إليهم؟.. علينا أن ننتظر إذن، إمّا أن يعود الزمن إلى الوراء، أو أن يطير قافزا فوق كل ما أسّست له السنوات الكثيرة التي مرّت.

* أخيرا أسألك: ماذا تحبّ أن تسأل؟

كأني، بعد كل ما عشته، صرت تاركا الأسئلة لغيري.