عمان الثقافي

الأدباء العرب بعيدا عن الأوطان

24 مايو 2023
24 مايو 2023

يهاجر الكتاب من بلدانهم، بحثا عن فرصة حياة أفضل، أو لإكمال قصة حب، أو للدراسة، أو ليكونوا في قلب الثقافة العالمية، أو على سبيل التغيير، أو استجابة لنداء خفي غامض، أو لظروف سياسية صعبة. تتعدد الأسباب، لكن الجميع يتشابه في أنه يجد نفسه في ثقافة ومجتمعات أخرى، فإما يندمج ويصبح جزءا من قماشة تلك الثقافة أو المجتمعات، أو يصبح غريبا فيها. في هذا التحقيق يحكي أدباء عرب عن الأسباب التي دفعتهم للرحيل، وكيف اندمجوا في الغرب، وكذلك كيف ينظرون إلى أوطانهم من شبابيك الغربة.

يبدأ الشاعر العراقي المقيم في الدنمارك منعم الفقير كلامه بجملة دالة: «من يخسر وطنه لن يربح العالم»، ويفسر هذه الجملة بأن الإقامة في المنفى تغيير ما يراد له من ثبات، من عادات يومية كانت رائقة. وإجراء تعديلات على عادات ترفض أن تكون سالفة، مثل الجلوس في المقهى ومقاومة التحول من قدح الشاي إلى فنجان القهوة رغم الإغراء. وكذلك المطالعة، الكتابة، الشراء، والزيارات. وكلها تهدف إلى إشغال الوقت للكف عن طرح الأسئلة. في المنفى يتعاظم السؤال. فالجماعة المنفية رغم وحدة الانحدار وسعة الشراكة في أسباب النفي، بالإضافة إلى تعدد عقائدها، تختلف مواقفها من عملية النفي والعودة إلى الوطن وتنقسم على آليات المشاركة في تغيير ينهي ابتعاد الوطن عنهم، ورفض البقاء على الأحوال المتقلبة واضطراب المزاج والابتعاد عن الإصابة بالكآبة وتمكن اليأس. ويعلق: «اليوم التغيير في أي بلد لم يعد إرادة وطنية خالصة بل مصلحة دولية وبتوافق مع إرادة إقليمية خاضعة. والوطن يتحول إلى حكايات مهربة وصور وذكريات لاذعة اللوعة».

غادر الفقير العراق في الساعة الثالثة والربع يوم الخامس عشر من يناير 1979، مستقلا الباص من ساحة النهضة (وسط بغداد) إلى سوح العالم الذي يضيق بأية نهضة مع مرور الوقت. يقول: «لا تجربة في المنفى العراقي ماضية لتكون مرجعا لعزيمة ولتعزيز الموقف من النافين. وهناك مأساة حين يرى غيرك جلادك بطلا وأنت الضحية المضحى بها على مذبح الحرب القومية. وأكثر ما يدعو إلى القلق هو تغيير الأمكنة من شكل البيت إلى مضمون الحارة، المقهى ومحطات الانتظار. والأفضل من ذلك التغيير المعاكس لمواقف رفاق الأمس، إذ بالنسبة لهم الآن القضايا كانت نزوات والكفاح مجرد طيش لا يحض على ندم أو مراجعة.. وهذا ما ينذر بالتنصل من تلك الحالة الصحبوية والرفاقية. لكن المنفى منحنى قوة العزلة ولذة الانصراف وحرية التصرف وعدم الخضوع إلى ضرورة».

ويضيف: «أنا عراقي لا عراق له ولا عالم. بغدادي بلا عاصمة. لكن كل ما أكتبه تكون بغداد طرفا فيه مصدرا أو تطلعا. حيث البيوت والأزقة والوجوه وجنود عادوا في صناديق. والباعة ونشدان الأزمنة الضائعة. وبكاء أمي المسائي وخوفها الساكن فيَّ إلى حد الآن من مزنة فرح. الحزن شبهي. الفرح شبهتي. هذه مقتنياتي من عراق ومنفى. صورة عن مكان غادرني ومحق ذكرياتي فيه، وأصدقاء غدروا بالوفاء وأعداء كانوا أوفياء بعداواتهم وتطلعات بلا شرفة».

يكتب الفقير في قصيدة:

«كم مرة

ارتديت

سروالا ليس سروالي

وقميصا ليس قميصي

وقطعت

شوارع ليست شوارعي

وعشت أياما ليست أيامي».

الحياة حيث مَن تحب

الشاعر المصري المقيم في بلجيكا عماد فؤاد لم يعد ينظرُ إلى وجوده اليوم في بلد آخر غير بلده باعتبار أنه «هجرة» إلى بلد أوروبي ما، بقدر ما أصبحت هذه هي حياته التي بناها طوال الأعوام العشرين الماضية، ولا يستطيع تخيُّل حياة أخرى له غير هذه الحياة، خاصّة وأنه مؤمن بأنّ الحياة هي حيث مَنْ تُحبّ، وهذا الحبّ هو ما يقرّر أين توجد أو مِن أين تهاجر، لذلك فحياته في المهجر ليست حياة في المهجر بالمعنى الذي كان متداولًا قبل 100 عام مثلًا، اليوم يجد أن اشتباكه مع ما يجري في مصر من أحداث ربما أقوى بمراحل مما كان عليه حين كان لا يزال في القاهرة قبل 20 عامًا.

اتخذ عماد قرار ترك مصر عام 2003 ونفذه بدايات 2004، وبمجيء أوّل أبنائه إلى الدّنيا عام 2005 كان الأمر قد حُسم بأن هجرته من مصر ستكون نهائية، حرصًا على مستقبل هذا الطّفل. يقول: «بالتالي كان عليَّ أن أخوض أنا الآخر حروبًا أخرى للتَّأقلم مع هذا البلد الجديد ولغته الجديدة عليَّ، فبدأتُ تعلّم اللغة والدّراسة، وفي الوقت نفسه انسلخت عن أوهام كثيرة كنت مشغولًا بها حول الكتابة والشِّعر آنذاك، لأنّ الحياة فرضت عليّ أن أواجه تحديّات أخرى لأستطيع تربية أبنائي، فبدأت أعمل في مهن شاقة وعضلية، وكلّ هذا ترك أثره على كتابتي للشِّعر فيما بعد. ولا يعني كلامي هذا أنّ هناك أيَ بلد في العالم يمكن أن يكون بديلًا عن الوطن، فالوطن كما يقولون «ليس فندقًا نستطيع تغييره وقتما نريد»، الوطن بداخلنا جميعًا، نحمله معنا أينما ولَّينا، ولكنَّ هناك بلدانا تتيح لنا ظروف حياة أفضل طبعًا ممّا يمكننا الحصول عليه في وطن مرتبك وسقف حرِّياته في الحضيض».

أما عن التّأثير الذي تركتْه هذه الغربة على ما يكتب، فليس في مقدوره الكلام عن هذا التّأثر بقدر ما يحيل القارئ إلى أعماله الشِّعرية التي صدرت بعد خروجه من مصر، ليلمس بنفسه هذا التّأثير. يختم: «لكنّي أستطيع أن أقول إنّ الغربة جعلتني أرى مصر بشكل أفضل، بالضّبط كما لو كنت واقفًا أمام لوحة ضخمة في أحد المتاحف، وكي تلمّ بكلّ تفاصيلها تجد نفسك تبعد عنها قدر المستطاع كي ترى الصّورة ككل، ومن بعيد، قبل أن تقترب من جديد إلى تفاصيلها التي تعرفها حقّ المعرفة، الاغتراب عن الوطن ليس إلّا استكمال لمعرفتك بهذا الوطن الذي ابتعدت عنه ذات يوم».

قرار شاعري

الشاعرة والمترجمة المغربية المقيمة في ألمانيا ريم نجمي تصف قرارها بالهجرة بأنه «كان قرارا شاعريا لأنه كان مبنيا على حب من أول نظرة لألمانيا وبالخصوص مدينة بون التي عشت فيها سنواتي الأولى». وتستكمل: «أستطيع أن أقول إن الفرح كان ممتزجا بهواء المدينة، التي كانت في الصيف عبارة عن مهرجان مفتوح يحتفي بالحياة، بالشمس وبكل ما هو بسيط. كانت أجواء مبهرة لشابة في العشرين، قادمة من بيئة مختلفة، وهو ما دفعني إلى اتخاذ قرار باستكمال الدراسة في ألمانيا عوض فرنسا والولايات المتحدة التي كنت أفكر فيهما كوجهة دراسية».

يتصدر ديوان ريم الثاني «كأن قلبي يوم أحد» إهداء إلى صيف ألمانيا 2008، وهي السنة التي زارت فيها ألمانيا لأول مرة، وقررت فيها الانتقال للعيش هناك. ولعل ذلك الإهداء هو تعبير عن امتنان لهذا البلد الذي أنار في نفسها مشاعر أدبية وإنسانية، ما كانت لتدركها لولا الحياة اليومية فيه.

وهي ترى أن ألمانيا بلد غني على المستوى الثقافي والمعرفي والإنساني، وهو ما ترك أثرا في وعيها وفي عملها الأدبي، ليس فقط من خلال النافذة التي فتحتها لها اللغة الألمانية على الأدب الألماني وإنما على المادة التي توفرها الحياة اليومية والصور الهاربة إلى قصائدها، والأهم الإحساس بالحرية في الكتابة، فشعورها بالحرية كامرأة في الشارع والأماكن العامة، ترك أثرا في طريقة الكتابة، التي أصبحت أكثر حرية.

وتقول: «أعتقد أن بلد الهجرة لا يمكن أن يكون بديلا عن الوطن مائة بالمائة مثلما الوطن قد لا يكون بديلا عن بلد الهجرة إذا كنت تحبه وقضيت فيه سنوات كثيرة، من هنا أصبح لديَّ حلم يتكرر، أن أستيقظ في الصباح وأذهب إلى عملي في حي فيدينغ في برلين وأعود في المساء إلى بيتنا في الرباط. أحيانا يتسع الحلم لخيالات طفولية كأن أحصل على المقص السحري الكبير الذي سيقطع الجبال والسهول والبحر المتوسط من خريطة العالم، ثم أخيط خريطة برلين والرباط ليصبحا مدينة واحدة، حيث أصدقاء طفولتي ودراستي المغاربة يعيشون مع أصدقائي وزملائي الألمان. أشتري «بروتشن» من مخبزة الحي في برلين وفي المساء وأنا عائدة إلى بيتنا في الرباط أمر على المحلبة لأشتري «المسمن» الذي خبزته السيدة للتو. إن هذا الوطن هو الوطن الذي أحلم بالعيش فيه. كلما عدت إلى الرباط، كلما انبهرت بالمدينة، وأطرح على نفسي السؤال نفسه: «هل المدينة كانت جميلة هكذا عندما كنت فيها؟ أم أنها صارت كذلك بعد هجرتي؟» لا أعرف الجواب، لكني أعرف أني أنظر إلى وطني بإعجاب وحب وحنين كبير وأنا في الخارج. صرت أقدره أكثر بل وأكتشفه من جديد».

الوطن البديل

الشاعر اليمني المقيم في باريس علي المقري لم يتخذ قرار الهجرة ولم يكن في يوم من الأيّام يفكّر بمغادرة المكان اليمني لولا اندلاع الحرب، فقد كان يسافر كثيرا من اليمن ويعود إليها، وبالرغم من كل الظروف التي قد تكون قاسية أحيانا ومكبِّلة لحرّية الكتابة والرأي إلا أنه مع هذا كان يرى أن هذا هو المكان الذي عليه أن يعيش فيه. الحرب انتزعته من هذا المكان الذي أحبّه ودمّر استقراره النسبي، لهذا وجد نفسه يغادره مع أوّل دعوة تلقاها.

يقول المقري: «كان الوطن والوطن البديل أحد اشتغالاتي الروائية، فالوطن قد يصبح بمحدّداته التاريخية والجغرافية والأيديولوجية معيقا لأي تطلع يطمح في تحقيقه أي فرد، أي يصير منفى لحياتنا، كما أن الوطن البديل ليس بالضرورة أن يكون هو الحل فقد يتعارض هو الآخر مع مطمح هذا الفرد، وبالتالي يصبح الوطن البديل منفى إضافيا بعد أن كان الكاتب يعيش المنفى في بلده. هناك جوانب من الصعب تحققها في المكان الذي قررنا العيش فيه بعيدا عن المكان الذي كنّا فيه أو عشنا فيه معظم سنوات حياتنا، حيث العادات اليومية في الأكل والشرب والزاوية التي نكتب فيها في البيت والمكتبة التي لا تعوض».

أسأله: كيف ترى بلدك من الخارج؟ فيقول: «أراه في صورة حزينة ومؤلمة، دماء وقبائل تتقاتل في معارك لا تنتهي».

أهل جدد

الكاتب المصري المقيم في الكويت إبراهيم فرغلي يؤكد أن اتخاذ قرار السفر جاء وسط سلسلة من قرارات شبيهة، بينها السفر إلى مسقط مثلا في التسعينيات، وأيضا إلى فرنسا التي كان يفكر في السفر والاستقرار بها في نهاية نفس الحقبة، وقد كانت تجربة قصيرة جدا، ولكن لم يستكمل إجراءات العودة لها. وبشكل عام ولأنه قضى أغلب طفولته وفترات من المراهقة في دول عربية مثل سلطنة عمان والإمارات، فلا يشعر بأي غربة حين يسافر إلى دولة عربية أو خليجية. لديه صداقات طفولة مع أصدقاء عمانيين، ولديه على مستوى العائلة وشقيقاته علاقات صداقة وثيقة بجيرانهم وأصدقائهم العمانيين في مسقط تمتد إلى اليوم، كما هو شأن علاقات كثيرة تكونت في الكويت خلال السنوات الماضية، وبالتالي فثمة روابط يربطهم بالمكان، بشكل لا يجعلهم ينظرون إليه باعتباره بلدا غريبا، بالعكس، فبالنسبة له حين يسافر إلى عمان يشعر أنه «عاد» إلى موطن الطفولة. يستدرك: «لكن مع ذلك لا يمكن أن يكون البلد الجديد بديلا عن الوطن، بل هو وطن آخر إذا صح التعبير، ولو حتى افتراضيا، وكلما استوعب المرء هذه العلاقة بالمكان كلما وجد نفسه محاطا بأصدقاء وأهل جدد من ثقافة المكان».

ويضيف: «من المؤكد أن الحياة في أي مجتمع تكوِّن لدى المغترب أفكارا عن الناس والمجتمع ويجد أنه يتأثر بها ويملك آراء فيها بحكم وجوده فيها، لكن التعبير عن ذلك مقيد بمدى حساسية المجتمع الذي يعيش فيه المغترب تجاه آراء الغير. وأعتقد أن العلاقة بالوطن الأصلي تترسخ كثيرا من خلال العلاقة من على البُعد لأسباب الحنين البديهية، وأيضا بسبب القدرة على رؤية الوطن بشكل متجرد، وبعين لن أقول محايدة وإنما متجردة وقادرة على استيعاب المشهد كاملا من بعيد. وهذا كله له تأثير نفسي واجتماعي، وككاتب مؤكد تؤثر تجارب الغربة في موضوعات الكتابة، وصحيح أنني لم أكتب عن تجربة الكويت بعدُ، لكن تأثير عمان في الكثير من قصصي الأولى وأيضا في روايتي كهف الفراشات مثلا كان لافتا».

مبررات الهجرة

من جهته يرى الكاتب العراقي المقيم في بلجيكا زهير كريم أن قرار الهجرة لا يحتاج بالضرورة إلى مبررات أو محرضات قوية، فالأمر يحدث على أساس أوهام أحيانا تتعلق بوجود الفردوس في المكان الآخر، أو بتشكل رغبة في تجريب حياة مختلفة أساسها اندفاع صبياني ربما، ويحدث أيضا لعدم استقرار شخص ما، اضطراب أو عدم ارتياح داخل الوطن، مثل هذه أشياء لا تبدو مصيرية أو ضرورية في كل الأحوال، لكن الهجرة في الوقت نفسه، تقدم لنا مؤشرات عن محرضات حقيقية، النزاعات العسكرية، ضغط الأنظمة الشمولية والحاجة إلى التنفس خارج غيمة الدخان التي تخنق الحريات. هناك أسباب اقتصادية بالطبع، لكنه شخصيا لا يستطيع أن يضع نفسه في أي من هذه الحقول، والتي تشكل قائمة مفتوحة من مبررات الهجرة، يعلق: «صحيح أني تركت البلاد في بدايات الحصار الاقتصادي على العراق بعد حرب الخليج، والذي اضطربت فيه فكرة العيش المعقول، لكني على المستوى الشخصي لم أكن مضطرًا فعلا للسفر من أجل الحصول على عمل أو تكوين ثروة صغيرة للعودة بها إلى البلاد، لم أكن مطاردا سياسيا كذلك على الرغم من نقمي على الوضع السياسي الذي شكلته نسخة متطورة من الدكتاتورية. اتخذت قرار السفر بسرعة، أردت أن أواجه نفسي، وهذه ذريعة ذات طبيعة شعرية ربما، أردت ربما أن أبتكر نسخة أخرى مني تواجه العاصفة، حاجة نفسية غير مفهومة في أن أكون وحيدا في تحدي الظروف، لكني أستطيع أن أجزم بعد سنوات طويلة جدا، أن جذورنا لا تنبت في الأماكن التي نستقرّ فيها مهما طال الزمن. سوف تتشكل لنا ذاكرة، يكون لنا أبناء وعائلة وأصدقاء، سوف نكشف عن أسرار المكان الجديد، نعشقه، لأنه سيضيف لنا حتما غنىً في التجربة الثقافية والإنسانية، يغير فينا تصورات وأفكارا وسلوكيات، يمنحنا قدرات ومواهب أخرى، لكن المكان الأول باق، بل هو مكان ضاغط، لأن المكان الأول هو الطفولة، وهي مساحة سوف تظل مهيمنة على الذاكرة، غير قابلة للمحو».

بين مدينتين

الكاتب المصري المقيم في نيويورك حسام فخر يتساءل في البداية: ما هو ذلك الشيء الذي ندعوه بالوطن؟ هل هو بقعة جغرافية محددة ثابتة لا تتغير مع مرور الوقت؟ أم أنه صورة ذهنية وعاطفية لمكان معين في فترة زمنية فاتت وولّى أمرها؟ أم أنه مجموعة من الناس القريبين من القلب يشعر الواحد في صحبتهم بالطمأنينة والسلام والدفء؟ ويجيب على نفسه: «لا أعرف.. عندما كتبت رواية «يا عزيز عيني» عام 2004، افتتحتها ببيت أحمد شوقي الشهير «وطني لو شُغِلتُ بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي» وبمثل لاتيني شهير يقول «حيث رغد العيش، يكون الوطن» ولم أعرف أيهما أدق تعبيرا عن مشاعري المتضاربة. وبعد انقضاء ما يقرب من عقدين، ما زلت لا أعرف.. عشت حياتي بأكملها في حالة شيزوفرانيا عاطفية وجغرافية. لي في مدينتيّ الأم، القاهرة ونيويورك، ألفتان وغربتان وإحساس دائم بالحنين إلى المكان «الآخر» وكلاهما تقعان في نقطة ما، متغيرة وغير ثابتة، بين الوطن والمنفى/المهجر. أحبهما لدرجة الهيام، وأكرههما لدرجة البغض، ولا يملك قلبي أن يختار بينهما. كلما تركت واحدةً متجها إلى الأخرى، يجتاحني إحساس بالارتياح والبهجة لا يدوم إلا لأيام على أحسن تقدير، ثم يغزوني الشوق الممض إلى الأخرى».

ويضيف: «بعد أربعة عقود ونيّف من هذا الانقسام، أظن أنني وصلت إلى اقتناع راسخ أن العالم كله هو وطني ومنفاي ومهجري. لا أفضّل مكانا منه على غيره، ولا أجد نفسي بالكامل في أي بقعة منه أكثر من غيرها. لم يعد يهمني أين أعيش؟ ولا أين أُدفن؟ كلها أرض الله. الوطن هو العالم، أو هو أصدقائي، وهو بيتي وأسرتي الصغيرة، وهو لغتي التي أتمسك بها كمرساة وطوق نجاة. كل ما عدا ذلك أكذوبة».

مستقبل وظيفي

الكاتب السوداني المقيم في قطر أمير تاج السر سافر في منتصف التسعينيات من السودان بحثا عن مستقبل وظيفي في مجاله الطبي، كان يعمل بشكل مرهق في قسم النساء والتوليد بمستشفى بورتسودان، عنده عيادة لا تأتي بالكثير، وجاء قطر حيث لم يكن المستقبل زاهيا في مجال الطب فقط، ولكن أيضا في مجال الكتابة، هناك عثر على حياة طيبة للغاية، كون أسرته، وطور من كتابته التي كانت رواية واحدة فقط وسط قصائد كثيرة بعضها بالعامية وبعضها بالفصحى، هناك في الدوحة، يوجد هدوء، ويوجد وقت عظيم بعد نهاية الدوام الرسمي، وتوجد حكايات كثيرة جدا في الذاكرة يمكن اجترارها وكتابتها.

يحكي: «حقيقة لم يؤثر الاغتراب في نمط كتابتي وأقصد أفكاري، فقد كنت لا أزال مرتبطا بالوطن وأسافر سنويا، وأجدد الحكايات التي أكتبها في أعمالي الجديدة، وكما قلت اعتمدت على ذاكرتي وخيالي كثيرا، وأقول بكل صراحة: إنه لولا وجودي في قطر ما كان مشروعى كبر واتسع بهذا الشكل، وتعرف أن البحث عن لقمة العيش في بلدان مثل السودان، تأكل الوقت وتعيق المشاريع الإبداعية. بالنسبة للاحتكاك الثقافي خارج الوطن فهو موجود طبعا، والسفر والمشاركة في اللقاءات والندوات وغير ذلك يمنح الكاتب ثقافة عظيمة».

فقدان الروحالفنان التشكيلي ومصمم الأغلفة المصري المقيم في كندا عمرو الكفراوي يرى أن من هاجروا في سن متأخرة مثله، في الثلاثينيات، من الصعب إيجاد مفهوم جديد للوطن بداخلهم يحل محل أوطانهم الحقيقية. لكن من الممكن إيجاد نمط حياة جديد قادر على سد فراغ الغربة. الغربة كما قالوا مريرة، خصوصا لمن عاش حياة غنية بوطنه، فطعم الأشياء مختلف ولون البيوت والشوارع لا يملأ الصدر بالحنين. تاريخك الذي تحمله على كتفك لا تستطيع ربطه بأي شيء في الغربة، تماما كما أن تاريخ الوطن الجديد لا يمسك بشيء ولا تتجاوب معه ولا يثيرك. التفاصيل الصغيرة التي تغيب عن حياتك الجديدة تملأ الروح بالفقدان.

تأثير الغربة ثقافيا بالنسبة له كان مفيدا جدا. يقول: «أعتقد أنه في العموم تجربة السفر والعيش بعيدا عن الوطن هي تجربة غنية ثقافيا. أولا أتيحت لي الفرصة لعمل ماجستير في الفن المعاصر في جامعة «كونكورديا»، وهي واحدة من أعرق جامعات أمريكا الشمالية. ثانيًا، الهجرة تجعلك ترى ثقافتك بعين محايدة وتفهم جمالها وعيوبها أيضًا. أعدت قراءة العديد من الكتب التي قرأتها منذ فترة بعين جديدة. وشاهدت أفلاما مصرية قديمة كأنني أراها لأول مرة. في رأيي أهم ما يميز تجربة الهجرة هو إعادة اكتشاف نفسك كفنان. أن ترى تجربتك أكثر وضوحًا وتستطيع التعمق في قراراتك الفنية بناءً على رؤية جديدة لنفسك وثقافتك».

دوامة في بحركلّ شيء حصل بالصّدفة. بالنسبة للكاتب الجزائري المقيم في سراييفو سعيد خطيبي. في العشرينيات من عمره وصل إلى باريس بصفته طالبا في الجامعة. لكن باريس تشبه دوّامة في بحر. من السّهل أن تبتلع أي أحد. وجد فيها ما لم يعثر عليه في الجزائر: صخبها الثّقافي. تلك المكتبات والمتاحف والمعارض الفنيّة والحفلات الموسيقية، ذلك الضّجيج الذي جعل منها (حفلة) مفتوحة على الدّوام على رأي همنجواي. الجزائر أيضا كانت تعجّ بهرمونات ثقافية، لكن باريس كانت أكثر نضجا في تعاملها مع الشّأن الثّقافي. يعلق: «كان يكفيني اشتراك بمبلغ بسيط في مكتبة عامّة فأطلب ما أشاء من أحدث الإصدارات، وأطالعها بالمجان. بعدما كنت أشقى في الوصول إلى الإصدارات الجديدة، في الجزائر، باتت شقّتي الصّغيرة (التي كنت أؤجرها مع زميل طالب آخر) تكتظ بالكتب، بترجمات لآداب العالم، من اليابان إلى أمريكا اللاتينية. باريس جعلت منّي قارئا محترفا. في هكذا جوّ ينسى الكاتب نفسه. ثم تعدّدت أسفاري شرقا وغربا. ولحد الساعة يحصل أن أستيقظ صباحا فأسأل نفسي: لماذا أنا هنا؟ لماذا لست في مدينتي الصّغيرة بوسعادة، جنوب الجزائر؟ سرت خلف حلم ولا أزال أشعر أنني لم أخرج من حلمي صوب القراءة والكتب. سفري كانت له دوافع معرفية وثقافية، لكن من باب الإنصاف، فالبلد الجديد لا يمكنه أن ينوب عن بلد الأصل. سؤال آخر ينقر رأسي كلّ وقت: لماذا يمتلكون هذا التّنوع الثّقافي بينما نحن لا نمتلكه؟ يحصل ألا نتشبه بهم في شؤون سياسية أو صناعية، لكن الثّقافة فعل ديمقراطي، لماذا نجحوا ونحن فشلنا؟ أظنّ أن الكاتب يُهاجر قصد العثور على أرض تسقي مخيّلته، بينما أنا مخيّلتي ظلّت وفية للأمكنة الأولى، للأمكنة التي جئت منها. مع أن هناك نقطة وجبت الإشارة إليها، أن السّفر أتاح لي النّظر إلى الجزائر بشكل أفضل. كلما ابتعدت عن الجزائر استطعت أن أعود إليها بمخيّلة صافية، خالية من تشوّهات الواقع الذي نحيا فيه».

الحنين للغرباءلم تتخذ الكاتبة المصرية المقيمة في ألمانيا نهى عبد الرسول قرار السفر وليست متأكدة إذا ما كان قرارها من البداية. القرار الذي اتخذتْه فعلا هو الارتباط والزواج بشخص انجذبتْ إليه واتسقت أفكاره مع أفكارها، فيما عدا فكرة الإقامة لفترة طويلة بالخارج. لم تقرر السفر لكن لم ترفضه، كان يبدو في البداية كخطة قصيرة الأجل، للدراسة أو اكتساب خبرة جديدة.

لا تستطيع نهى أن تتخيل بديلا عن الوطن والعائلة وأصدقاء الطفولة، بالرغم من أن مواكبة الحياة والاستمرار فيها تتطلب فعلا إيجاد بدائل. وتعتقد أن كلمة «بديل» محيرة وظالمة لكل الأطراف، للعائلة في مصر، للأصدقاء في البلد الجديد، وأيضا للمغترب/ـة. ففي اللحظة التي تجد فيها «بديلا»، تعي أنه في النهاية ربما مجرد بديل، تساورها شكوك حول مدى حقيقته وعما إذا كانت تتوهم كل شيء. وتتساءل إذا كانت الحقيقة الوحيدة هي التي تركتها في الوطن ورحلت.

في كل زيارة لمصر تكتشف نهى شيئا جديدا عن علاقتها بالمكان وبالتالي عن ذاتها. تقول: «في آخر زيارة تأكد لي أن الحنين، بعكس ما يزعمه الكثيرون، ليس فقط للأهل والأصدقاء أو حتى الشوارع التي نشأت بها. اكتشفت حنينا حتى للغرباء، إلى ما يجمعني بهم بشكل أخص، طريقة التعامل والحوار، النكتة، سهولة التواصل والأرضية الثقافية المشتركة، المرونة في التنقل بين مستويات استخدام اللغة، ولكن للحق، ربما لم أكن لأستطيع، خاصة لكوني امرأة، وطبيعة نشأتي المتحفظة، أن أصل إلى تلك الحرية في التعبير والتواصل مع الناس في الأساس لولا سفري في المقام الأول. أحيانا أشعر بأننا لم نرحل هروبا من واقع لم نتسق معه، بقدر ما رحلنا هروبا من ذواتنا في الأساس».

بلاد الله الواسعة

الكاتب السوداني المقيم في السعودية عثمان الشيخ يبدأ كلامه بالإشارة إلى أن مفردات السفر، الهجرة، الاغتراب، تحمل في ظاهرها ثلاث دلالات مختلفة، فالمسافر يعود والمهاجر قد يعود والمغترب حتما سيعود. وفي باطنها تحمل دلالة واحدة وهي أن المُتصف بها لم يعد ينام في بيته أو داره أو وطنه. تختلف الأسباب بحسب كل شخص، ولكنه عندما اتخذ هذا القرار؛ اتّحدت عدة أسباب لتكوينه ويظل أقربها إلى نفسه أن يسافر إلى بلاد الله الواسعة سعيا خلف التجربة والمغامرة والحياة، بعيدا عن وطنه وليس لخلق وطن بديل؛ لأن الوطن عنده هو اتحاد اللغة والثقافة والأهل، والتراب والجذور، وحكاوي الجدّات، منزله ومكتبته الصغيرة التي تركها خلفه.

يعلق: «مهما توفّرت لي سُبل المعيشة السهلة؛ يظل هناك نداء خفي يسيطر عليّ بأن عُد إلى هناك. فهذا التنازع بين ما أنا عليه الآن وما كنت عليه بالأمس وما أتصوره عن الغد، يوجد في داخلي تساؤلات عميقة كل ليلة، فما أن أخلد إلى فراشي حتى تتداعى عليّ الأسئلة وتنهشني الأفكار: لماذا أنا هنا؟ وكيف أتيت؟ وكيف يكون شكل الحياة إذا عدت إلى هناك؟ أجوبة هذه الأسئلة تتحكم في اختياراتك لما تقرأ من كتب، وتؤثر على ما تكتب من نصوص، وعلى حواراتك مع الآخرين من زملاء عمل ورفقاء سكن وحتى العابرين في الطريق. ورغم كل ذلك، أجلس هنا وتبعدني مسافات شاسعة، يظل وطني، محل انتمائي، وملهمي. وكما قال أحد الكتاب بأن المرء يكتب رواية واحدة وتظل أعماله التالية كلها تدور حولها، كذلك الوطن مهما سافرت وتغرّبت وهاجرت يظل هو الرواية الأولى والقصة الأجمل التي تدور حولها كل الأشياء».

الحياة المسروقة

في البدء أرادت الكاتبة العراقية المقيمة في السويد زهراء حسن أن تواصل دراستها في الخارج وتحديدا في لندن، ولكن وبسبب الموانع التي تواجهها الفتاة، فقد قوبلت فكرتها بالرفض المطلق، ولكن وبعد المعاناة الحقيقية مع ما تصفه بـ«الاستبداد المطلق في العراق» صارت فكرة الهجرة تسكنها ليل نهار وذلك بسبب الجوع الفعلي إلى الحرية، حرية الرأي والاعتقاد وحرية الكلمة، فقد كانوا وقتها في العراق لا يعرفون ما هي الكلمة التي ستأخذهم خلف الشمس، لذا صار قرار الهجرة بديلا حقيقيا عن الحياة المسروقة. تقول: «دخلنا من حرب إلى أخرى ومن ثم إلى حصار خانق، لقد سُرقت حياتنا بأكملها، ناهيك عن كوني امرأة يتم التعامل معها كمواطنة درجة عاشرة، تسمع باليوم آلاف الجمل التي تهين كرامتها، كما كان عليها أن تثبت براءتها طوال الوقت من الوقوع في الخطأ، وكأنها جاءت من جنس الملائكة لا من جنس البشر، كل هذه الأسباب مجتمعة حدت بي إلى اتخاذ قرار الهجرة».

وهي ترى أنه لا يمكن للبلد الجديد أن يكون بديلا عن وطن عشت فيه طفولتك وسرت في شوارعه وعرفت روحه وعرف روحك، كانت تعتقد أن البلد الذي ستهاجر إليه سيكون بديلا عن الوطن الأصلي لكن هذا في حد ذاته كان ضربا من الخيال، فالبلد الجديد يختلف عن وطنك الذي تركته هناك، عليك أن تتعلم لغة جديدة وتتعرف على أناس جدد في بلد يختلف جملة وتفصيلا عن وطنك الأم، لن يكون البلد الجديد بديلا عن الوطن الأم لكنك ستعيش فيه كمهاجر تتعرف إليه كما يتعرف الصغير اليتيم إلى الناس الجدد الذين سيؤثرون على حياته برمتها.

التأثير الثقافي يتأتى من كونك تتعلم لغة جديدة وعن طريق هذه اللغة ستتكون لديك قراءات بلغة أخرى غير اللغة العربية، أي أنك ستطلع على الروايات والكتب باللغة السويدية وهذا تأثير ثقافي كبير كما أنك ستحتك بثقافة البلد نفسه وتتأثر بها وتؤثر فيها وإن كان تأثيرنا على المدى القريب بالكاد يُذكر، لكن على المدى البعيد ستحدث تغيرات حقيقية حينما ندخل فعلا في نسيج المجتمع السويدي، أما نفسيا فهناك الغربة اللغوية، فأنت بحاجة إلى أن تتحدث بلغتك بانسياب واضح، دون الحاجة إلى التوقف هنا وهناك حين تكون ابن ذلك المجتمع الذي تعرفه ويعرفك، لكنك حين تأتي مهاجرا إلى البلد الجديد سيكون من الصعب عليك أن تتحدث عن مشاعرك وأحاسيسك بلغة أخرى قد لا تستطيع التعبير بها كما تعبر بلغتك الأم وهنا تبدأ فعلا في طريق الغربة اللغوية.

وتقول أخيرا: «صار العراق أجمل في عيني بعدما عشت في السويد فترة لا بأس بها ودخلت في عمق مجتمعه، الإنسان هو الإنسان في كل مكان، معرفة البلد من الداخل واكتشاف روح المدينة التي تعيشها جعلني أرى العراق وأرضه وشمسه في غاية الجمال، السويد بلد جميل ومنظم، تعلمت منه الكثير، كنت متشوقة جدا لطعم الحرية ومفهوم احترام الإنسان ولكن حين اكتشفت المجتمع الجديد ودخلت في تفاصيله اليومية زادت معرفتي بخبايا النفس البشرية، فالإنسان أتى من الغابة ومن صراعاتها، لذا توصلت إلى الحقيقة التي لم أعرفها وأنا في العراق، إذا لم يجرب الإنسان الهجرة والعيش في البلد نفسه لن يكتشف الجمال ولا الصعوبات ولن يعرف مفهوم الغربة على حقيقته. البعد يُجمِّل الأشياء. صار العراق أجمل في عيني وأنا في السويد كما كانت السويد أجمل في عيني وأنا في العراق».

الحياة في بلد آخر

الكاتب السوداني المقيم في النمسا طارق الطيب تخرّج عام ١٩٨١ في جامعة عين شمس، وقُبل فورا لدراسة الماجستير مع «سوداني» أنهى «دبلومات» سابقة وأتي بعائلته في منحة، و»أُردني» بالصورة نفسها وبمنحة. يعلق ساخرا: «وبقيت أنا «بمحنة» أنني سوداني غير مبعوث، رغم أنني وُلدتُ في القاهرة ودرستُ فيها كل مراحلي من الكُتّاب حتى الجامعة. رفضتْ السفارة السودانية في مصر إعطائي منحة استكمال الدراسات العليا. الحجة الغريبة هي أن الطلاب السودانيين في مصر يحصلون عليها حتى الحصول على درجة البكالوريوس فقط، وما بعد ذلك فله أخاديد مختلفة! وفي النمسا ستتكرر الحجة نفسها».

ويضيف: «سُمِح لي في جامعة عين شمس بحضور المحاضرات، ثم اضطررتُ للتوقف قبيل امتحانات الماجستير بأيام، لأنني لم أتمكن من دفع الرسوم الدراسية الباهظة بالعملة الصعبة آنذاك، بعد أن تغيرت قوانين الجامعات بمصر. سافرتُ إلى العراق؛ الدولة الوحيدة المفتوحة للجميع دون تأشيرة في ذاك الوقت. كان لي مطعم هناك يخسر كل يوم ويُدفع الى الإفلاس العاجل، وهي حكاية أطول».

يرى الطيب أنه يمكن للبلد الجديد أن يكون دائما بديلا عن «الحياة» في الوطن، لكنه لن يكون أبدا بديلا للوطن. سافر إلى فيينا فأرهقته في البداية. يقول: «لا لغة ولا أهل ولا أصدقاء ولا مال، ولا حتى مناخ يحنّ عليك بدفء يسير. في ما بعد منحتني فيينا مفاتيحها لأفتح الأبواب المغلقة وأعيش كالبشر. قبلتني جامعة الاقتصاد في فيينا لتحضير أطروحتي للدكتوراه مجانًا باعتباري من دول العالم الثالث، ولما حصلتُ على درجة الدكتوراه اعتبرتني من نسيجها العلمي وعهدت لي بالتدريس في جامعتين من أكبر جامعات أوروبا وجامعة ثالثة حديثة، ولما انشغلتُ بالكتابة الأدبية ونشرتُ اعتبرتني من نسيجها الأدبي، وطلبتْ مني تمثيلها في الملتقيات الأدبية العالمية».

التأثير النفسي بالحصول على جنسية أوروبية ليس بالسوء الذي يظنه البعض، بحسب الطيب، فالآفاق تُفتح وخصوصا السفر والتواصل الأكبر ثقافيا والأوسع. صار الأمر مفتوحا له كنمساوي لتمثيل النمسا رسميا مرات وفي دول عديدة مثل مصر، المكسيك، أيرلندا، أمريكا، جنوب أفريقيا وغيرها. نفسيا لم يشعر بخيانة. يعلق: «فلمْ ولنْ أصبح فجأة ضد بلادي بسبب الجنسية، ولماذا أنسى بلادي أو أتناساها؟ هنا في النمسا لم يطلب منى أحد يوما التفتيش في أوراقي وكتاباتي عند التمثيل والحضور وبصفة خاصة داخل الجامعات والمدارس. ولم أكن رحيما فيما كتبتُ عن النمسا وأوروبا في ما يتعلق بالإخفاقات السياسية الإنسانية الغربية، ويمكن الرجوع لروايتيْ (وأطوف عاريا) و(بيت النخيل) على سبيل المثال، ولم يطلب مني أحد التخلي عن تعريفي عن نفسي وعن أصولي السودانية والمصرية. لي بلاد ثلاثة أرتبط بها إلى الأبد: السودان بلد أبي ومصر بلد جدات أمي والنمسا بلد زوجتي. لا مشكلة عندي في التذويب التام لهذه الحدود. ولا أشعر بصراع المغترب، ولا بأنني أتمزق «بين» ثقافات بل أعيش «في» ثقافات»!

التوازن بين عالمين

الناقد المصري المقيم في كندا وليد الخشاب يؤكد أنه لم يتخذ قرارا بالهجرة من مصر، وإنما اتخذته الهجرة، رويدا رويدا. كان حريصا على التفرغ لدراسة الدكتوراه خارج مصر من خلال منحة دراسية، نظرا لصعوبة العمل البحثي والجامعي الخالص، واضطراره للعمل بالإذاعة والترجمة لتوفير ظروف مناسبة لأسرته. وزاد من صعوبة البحث العلمي في منتصف التسعينيات، ما لمسه من تخلي المؤسسات عن دعم حرية البحث وسماحها بصدور حكم بتكفير الدكتور نصر أبو زيد بسبب دراساته الناقدة للتراث. حصل على منحة كندية لدراسة الدكتوراه في الأدب المقارن بجامعة مونتريال عام 1997، وكانت الخطة هي العودة بعد الدكتوراه للتدريس بجامعة القاهرة. لكنه فوجئ بأنه يشعر بالراحة والأمان في مونتريال، وبأن المحيطين به من سكانها يتعاملون معه باعتباره جارا لا غريبا، ووجد ابنيه وقد اندمجا في المجتمع الكندي سريعا ويشعران بالألفة فيه، ففوجئ بنفسه وقد قرر أن يسعى للاستقرار في كندا.

يقول: «ليست كندا بديلا عن مصر، ولكنها مُكَمِلٌ لها. كندا للاستقرار العملي وتوفير الهدوء والدعم المادي للبحث من مرتب ومكتب ومكتبة وشبكات تواصل. ومصر لتجديد شباب الضحك والأنس والتواصل العاطفي مع الأصدقاء والأهل. ظني أن كل إنسان يحتاج الجانبين، ومنذ تحرير السوق في مصر السبعينيات اضطر الآلاف للسفر ليحققوا التوازن بين الجانبين العملي والعاطفي. كثيرا ما تكون غربة المصري مؤقتة ببضع سنين، أما ظروفي فجعلتني أسعى للتوازن بين عالمين: رحلة الشتاء لكندا والتدريس، ورحلة الصيف لمصر والأحباب. ولعل كندا قد حافظت على مصر كعين ترتوي منها الروح، ولولاها لارتبطت بمصر عندي صورة محل العمل الذي تحفه قيود الإدارة والرقابة».

كأنها في محطة

الكاتبة السورية المقيمة في إسبانيا نسرين أكرم خوري ترى أن الأسئلة المتعلقة بالهجرة ربما كانت أكثر الموضوعات التي تواجه المهاجر في كل تفاصيل حياته الجديدة، ولكن الإجابات عنها -بالنسبة لها على الأقل- دائما تكون مربكة، أي شديدة الشبه بحركتها في الفضاءات الجديدة.

قرار السفر بالنسبة لها لم يكن قرارًا واعيًا بكل معنى الكلمة، فالسفر بالنسبة للناس في سوريا موضوع على رأس القائمة منذ أكثر من عشر سنوات، حتى بالنسبة للذين ليس في نيّتهم الإقدام عليه. تقول: «لم أكن سابقا باقية بقرار، وحين خرجت لم أخرج بقرار، الظروف حركتني ووضعتني حيث شاءت، من ثمّ ترافق حدث السفر مع بداية الطريق نحو الأمومة، لذا فتمّ الأمر على هذا النحو: البقاء في المكان الأنسب حاليًّا بالنسبة للطفل القادم. أما عن مفردة استقرار، أفتقد الشعور بها منذ زمن طويل، شعوري الدائم أنني في محطة، لكن وبينما أنا في هذه المحطة غيرت القطارات وجهتها، ولم أعد أعرف ما الّذي أنتظره. وقد يكون هذا أيضا جوابا عن موضوع الوطن والوطن البديل، حين أمرّ بالمطبخ من جانب قطرميز المكدوس الّذي حضرته أمّي وأرسلته لي، يأتيني شعور لحظيّ بأنني في البيت، ثمّ أسارع إلى إبعاد مثل هذه الأفكار المبتذلة عن رأسي، لكن في الوقت نفسه أجدني حريصة على أن يظلّ محافظا على مكانه الّذي يجلب لي هذا الشعور».

وتختم حديثها قائلة: «التأثير النفسي كان أكبر ممّا تخيلت، لديّ تصوّر أن منبع ذلك بالنسبة لي ولكلّ الّذين خرجوا من ظروف مماثلة هو أن خيار العودة مسلوب منك. من المفترض أن إسبانيا قريبة ثقافيا منّي، لكن شعور الغربة الثقافية حاضر في أبسط الأمثلة، كأن يتحدث الزملاء بشغف عن أغانٍ رائجة، لا تعني شيئًا بالنسبة لي. من بعيد يبدو كلّ شيء مضخّمًا، بما في ذلك الألم، لكن أحاول الحفاظ على صورة البلد بعيني الطفلة التي كنتها يومًا، حين كانت العائلة تجتمع كلّ مساء بينما السفر يحصل في الأغاني والأفلام».