افتتاحية: هل تنقُصُ الكلماتُ إنسانيتها حين تكتبها الآلات؟
24 سبتمبر 2025
24 سبتمبر 2025
في كل مرة يظهر فيها اختراع جديد يلامس اللغة، نكتشف أن السؤال الأعمق يتجاوز التقنية في ذاتها ويغوص عميقا في معنى الكتابة ودلالتها. ويحضر هذا السؤال اليوم أكثر من أي وقت سابق في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي التي اقتحمت عالم الأدب هذه المرة.
تبدو الكثير من النصوص الإبداعية التي أنتجها الأدب على مستوى معقول جدا من الانسيابية، والتكثيف، وتناغم التراكيب، وكأن الآلة قد نجحت مبدئيا في محاكاة الإنسان. لكن ثمة بعد مهم من أبعاد الكتابة الإبداعية لم تستطع نماذج الذكاء الاصطناعي الوصول إليه بعد، ولا يبدو أنها ستستطيع، حتى لو وصل الذكاء الاصطناعي إلى حد الذكاء العام والخارق.. فهذه النصوص بعيدة كل البعد عن ذلك الأثر الذي نجده في النصوص الإبداعية، فلا نشعر بتلك الرجفة ونحن نقرأ النص الآلي، ولا يترك فينا ذلك الأثر الذي نبقى مسكونين به طويلا، أو نعيش أسرى لإيقاعه الساحر.
وهذا الأمر يعيد طرح سؤال قديم جدا حول مكمن أصالة النصوص الإبداعية، هل هي في يد من كتب أم في الأثر الذي يتركه النص في قارئه؟ هذا السؤال هو ما يجعل النقاش يتجاوز الجانب التقني إلى جوهر الكتابة وحرارتها.
لكن الأمر لا يقف عند الأسلوب؛ فالذكاء الاصطناعي يملك الآن قدرة فائقة باستخدام أرشيف بشري ضخم جدا يمتد إلى مئات القرون منذ اليوم الذي بدأ الإنسان فيه الكتابة، وهو وفق خبراء الخوارزميات يعيد تدوير كل ذلك الأرشيف وتقديمه في شكل جديد! هذا الأمر يطرح الآن في جميع دول العالم مشكلة حقوق الملكية الفكرية، ويفتح صراعا على من يملك حقوق الصور الشعرية والحبكات السردية وكل ابتكارات الخيال التي أنتجتها عقلية الإنسان طوال القرون الطويلة الماضية. وإذا كان التراث الإنساني مليئا بالقصص المتشابهة حد التناسخ فلماذا يمكن أن ينكر منتقد شيئا من هذا التناسخ في بناء هياكل الأدب التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، كأن يكتب رواية، على سبيل المثال، تتقاطع مع مسرحية تاجر البندقية الموجودة في التراث الثقافي العماني مع اختلاف المناخات المتعلقة بالبيئة وهي موجودة أيضا في ثقافة الكثير من الشعوب الأخرى. هذا الأمر من شأنه أن يعقد وضع ميثاق أو قانون يؤطر «إبداع» الذكاء الاصطناعي في حالة تقاطعه من نصوص إنسانية معروفة سابقا.
ثم هناك التحوّل في بنية التلقي. النصوص لم تعد تصل إلينا عبر الكتب أو الصحف وحدها كما كان يحدث سابقا، تغير الأمر في عصر المنصات التي تقوم بتلخيص كل شيء وتعيد ترتيبه ليقدم لنا على هيئة «نسخة قابلة للاستهلاك». هذا يطرح سؤالا آخر حول الذائقة.. فما الذي يمكن أن يحدث لها حين تصبح قراءتنا للعالم رهينة واجهات واحدة مصقولة؟ هل نفقد ذلك التعدد الذي كان يُغذي الخيال ويمنحه اتساعه؟ فتحولنا الخوارزميات إلى رؤية أحادية موجهة جدا؟! هذه الأسئلة أقرب إلى أن تكون أسئلة حضارية منها أسئلة تقنية لأنها تمس علاقتنا بجانب كنا نعتقد أنه محصور فقط على الإنسان، والإنسان المرهف بشكل خاص، فإذا بخوارزميات صنعها الإنسان بنفسه تأتي لتنافسه في أكثر شيء من شأنه أن يمس روحه ومشاعره ويعبر عنها على النحو الأمثل!
