956
956
عمان الثقافي

ابن رشد في رواية فرنسية - جلبرت سينويه يشيّد من الخيال بناء يشبه فيلسوف قرطبة!

26 يناير 2022
26 يناير 2022

ربما لم يحظ الفلاسفة المسلمون بالاهتمام الروائي، بقدر الاهتمام الذي أولته الروايات التاريخية العربية بشخصيات القادة والأبطال وبالأحداث التاريخية الكبرى، وأغلبها يدور في قالب روائي تاريخي تقليدي. ومع ذلك ظهرت بعض أعمال قليلة تناولت عدة شخصيات مثل ابن سينا، والغزالي، وابن حزم وابن عربي، لعدد من الكتاب العرب مثل يوسف زيدان وعبد الإله بن عرفة ومحمد علوان وربما غيرهم.

ولعل ما يجعل مثل هذه الشخصيات محل اهتمام في الكتابة الروائية يعود أولا لأهمية الدور الذي أداه كل منهم في تاريخ الفكر العربي من جهة، ولتوفر مادة توثيقية يمكن الاتكاء عليها في كتابة سيرة متخيلة وأهمها السير الذاتية التي كتبها بعضهم.

لكني كنت مهتما بشخصية فيلسوف وفقيه لم توفه الروايات العربية حقه وهو أبو الوليد محمد ابن رشد، الفقيه والطبيب وقاضي القضاة في زمن الموحدين في الأندلس، والشارح الأكبر كما عرف بفضل شروحه المهمة لتراث أرسطو، التي كلفه بها الخليفة الأندلسي عبد المؤمن؛ بترشيح من الفيلسوف الأندلسي ابن الطفيل.

وفي حدود اطلاعي، وقد أكون مخطئا، لا أعرف بوجود سيرة روائية لكاتب عربي عن ابن رشد الفيلسوف، وحتى لا أعمم أيضا، فقد قرأت كتابا للأطفال عن سيرته، ولم يعجبني على الإطلاق؛ لأنه اعتمد على إعادة ترديد الشائع عنه في المرويات التاريخية، من دون تشويق حقيقي لسيرة الرجل.

وربما كان للشاشة العربية السبق بتقديم سيرة سينمائية قدمها المخرج السينمائي الراحل يوسف شاهين في فيلم «المصير». وقد ركز الفيلم على مرحلة محددة هي الفترة التي شهدت فيها الأندلس تصاعد قوى التيارات المتطرفة التي تكالبت على ابن رشد وأوشت به لدى الخليفة المنصور الذي أمر بحرق كتبه وكتب الفلاسفة ونفيه إلى أليسانة، وهو عمل رمزي وتصور خاص لشاهين عن تلك المرحلة، لا يقلل ذلك من قيمة الفيلم، ولا أهمية هذا العمل.

ولكن هناك روايتان، على الأقل، في الغرب، والاثنتان ترجمتا إلى العربية، الأولى لسلمان رشدي « سنتان، ثمانية أشهر، وثمان وعشرون ليلة»، وجمع هذه الأعداد ينتج ألف ليلة. لكنها رواية مفرطة في السريالية والغرائبية، ولا تعد سيرة روائية لابن رشد بالمعنى المعروف، بالإضافة إلى أن منطقها نفسه لا يستقيم مع عقلانية ابن رشد؛ لأنه يعتمد فيها على جنية مستلهمة من الأساطير تظهر في حياة ابن رشد، بما يتناقض تماما مع منطق ابن رشد.

وأما الثانية فتحمل عنوان «ابن رشد.. كاتب الشيطان»، من تأليف الكاتب الفرنسي جلبير سينويه، وهو كاتب مهتم بالرواية التاريخية، وبتاريخ الفلاسفة المسلمين وعدد من أعلام العرب عمومًا، ومن أشهر أعماله عن ابن سينا كتاب «الطريق إلى أصفهان».

سيرة أبي الوليد

وقد شغفت بقراءة هذه الرواية بسبب الفضول في تعرّف الوسيلة التي يمكن بها تناول سيرة الشارح الأكبر، بكل ما يقتضيه ذلك من بحث مضن عن فجوات السيرة.

فالحقيقة أن ابن رشد شخصية صعب التعرف على تفاصيل حياتها لأسباب عدة منها أنه لم يهتم بأن يدون سيرته، فقد كان مهتما بالفكر والفلسفة والعلم، ولم يكن بين المهتمين بأن يضع سيرة لنفسه. ولأنه تعرض ليس فقط للنفي وحرق كتبه خلال فترة المحنة التي تعرض لها منفيا، بل ولما يشبه الإقصاء المتعمد، كما لو أن قوى عديدة تآمرت على أن تقصيه من الوجود وتقضي على أي أثر له.

ومع ذلك فقد استعيد الرجل على مدى نحو ألف عام بشكل يشبه استعادة شذرات متفرقة من بلاد بعيدة لاستعادة متن مؤلف، أو كما قد يحدث لجثة تفرقت أطرافها في أرجاء واسعة ويجري البحث عن كل منها لكي يستعاد شكل الجسد، أو شيء من هذا القبيل.

آثار لم تندثر

وقد تكالبت ظروف عديدة منذ العام 1198 (تاريخ وفاة ابن رشد) على طمس كل أثر له في الأندلس، وخصوصا أنه دفن في مراكش بعد أن عفا عنه المنصور واصطحبه معه إلى قصر الخلافة في مراكش، لكن رفاته نُقل، بعد شهور قليلة، من مراكش إلى مقبرة ابن عباس في قرطبة بعد وفاة الخليفة أبو يعقوب يوسف المنصور.

اختفت آثاره وكتبه إلا بعض النسخ التي احتفظ بها تلامذته ومريدوه، وهربوها بعيدا عن قرطبة، فنقلت إلى اللغة العبرية بواسطة اليهود الأندلسيين العرب، ومنها إلى اللاتينية، وهو ما تسبب في إحياء ابن رشد مرة أخرى لكن بلغتين وسيطتين، وبعد قرون عديدة أعيدت ترجمة أعماله، بالأحرى بعض أعماله، وعلى استحياء، إلى العربية مرة أخرى.

وقبل استعادته للعربية، وبسبب قمع اسمه ومحاولة طمسه، كانت هذه الاستعادة عبر أسماء مترجمة، مثل ابن رشد(Aben Rushd)، وأبرروش (Aberrosh)، وابن رشدٍ (Ibn Rusdin) ، أو بالأحرى ابن رُشدٍ، وسواها من ألقاب انتهت للاسم الشائع له في الغرب اليوم وهو أفيرويوس ‏Averroes. (وفق ما يشير له دومينيك أورفوا في كتابه ابن رشد طموحات مثقف مسلم).

لكن اللافت للانتباه أن أعماله أيضا أثارت في الغرب لغطا واسعا من قبل الكنيسة، لأسباب تتعلق بالفهم غير الدقيق للأفكار، ما جعل القديس توما الإكويني يعاديه، ويصفه بالمارق والشيطان، وسواها من أوصاف أدت إلى أن يجد ابن رشد لدى الثقافة المسيحية ما وجده من الثقافة الإسلامية المعاصرة له من إنكار وجحود وإقصاء.

ثم أعيد إحياؤه أخيرا في عصر النهضة من خلال بعض الفلاسفة الذين تبنوا أفكاره نقلا عن ترجمات موسى بن ميمون ومعاصريه وتجلت في أعمال عدد من الباحثين والمفكرين الذين اعتبروا مؤسسين للمدرسة الرشدية، والتي تجلت في أفكار بعض فلاسفة عصر النهضة من مثل الفيلسوف الهولندي سبينوزا، من دون إشارة مباشرة لابن رشد.

هذه المقدمة عن إحياء ابن رشد ضرورية لفهم النص السردي الروائي الذي كتبه جلبيرسينويه والصادر عن دار الجمل في ترجمة عربية لشكير نصر الدين تحت عنوان «ابن رشد أو كاتب الشيطان».

تحدي الكتابة عن ابن رشد

كنت أعلم أن المادة الخام اللازمة للشخصية الروائية التي يمكن تخيلها عن ابن رشد ككائن حي قليلة، لا تكاد تزيد على بضع شذرات. ومن الطبيعي إذن لكي يشيد الجسد الروائي أن يقيم الكاتب سقّالات عديدة، مثل الشخصيات القريبة التي لم تذكرها السير، خصوصا الأهل والمقربين، والمسالك الشخصية والطباع والأزياء وغيرها.

وتبينت أنه بالإضافة للسقالات المتوقع استحداثها، بدا سينويه مهتما بصناعة سقالات أخرى لقارئ غربي لا يعرف شيئا عن الإسلام والمسلمين. تفاصيل الوضوء، الصلاة، ومدى كون تناول الخمر مسألة محرمة، ولماذا أقبل عليه البعض في تلك الفترة، ومثل هذه التفاصيل التي قد تبدو شديدة المباشرة للقارئ العربي.

وأظنه وقع في تلك المباشرة في مواضع عديدة، وبشكل بلغ حد التقريرية، وأحيانا بلغ حد البساطة التي تجعل من شخصية ابن رشد تبدو كدمية مصنوعة وليس كائنا بشريا من لحم

فالرواية تأتي في مسارين: الأول رسالة طويلة يكتبها ابن رشد إلى ابنه الذي يسميه المؤلف جهاد (وهذه مفارقة أخرى فبفضل بعض المخطوطات نعرف اسم ابنين من أبناء ابن رشد هما أبو القاسم أحمد بن رشد وهذا اهتم بالفقه، وأبو محمد عبد الله بن رشد، الذي شارك أباه في تأليف بعض كتبه في الطب وفق مراجع أشار لها دومينيك أورفوا في كتابه السالف الإشارة إليه).

المهم أن الرسالة الموجهة للابن، تتقاطع معها فصول تأخذ شكل مقاطع سردية تاريخية من تواريخ لاحقة على وفاة ابن رشد، في القرن الثالث عشر، وفيها تتجلى أشكال إحياء ابن رشد في الغرب، من جهة، ووصف التيارات الكنسية المتشددة التي عملت على شيطنة ابن رشد من جهة تالية.

في المسارين بدا الكاتب حريصا على توضيح أفكار ابن رشد، حول علاقة الفلسفة أو الحكمة بالشريعة، ورؤيته حول مفهوم المساواة، وكيف أنه لا ينطبق على مفاهيم التدبر والتأويل؛ لأن التأويل للخاصة أو من يحظون بالعلم والقراءة والفهم (في الحقيقة ابن رشد كان يقصد بهم من يقول عنهم القرآن الراسخون في العلم)، ورأيه في الغزالي ورده عليه لأنه هاجم الفلاسفة، وغير ذلك من أفكار.

في الجزء الموجه للابن في هيئة رسالة، أقام الكاتب من التخييل مجموعة من السقالات شيد عليها المحطات الرئيسة في حياته، مثل دراسته الطب على يد ابن زهر وابن الطفيل، وزواجه، ووقوعه في غرام امرأة أكبر منه عمرا، وصنع منها مادة جذابة روائيا، وتقديري أنها ضرورية لأن حياة ابن رشد أيضا، باستثناء الدراما الكبيرة التي عاشها في زمن المحنة، لا نكاد نعرف عنها شيئا. أو على الأقل لا نعرف عنها تفاصيل مشوقة كتلك التي تخص سيرة الغزالي مثلا، أو سيرة ابن عربي. كما أن الكاتب سينويه أفاد في هذه الأجزاء، وخصوصا عبر القصة المقترحة لقصة عشق جمعته بامرأة تدعى لبنى، وهو اسم شائع في الأندلس، للتأكيد عن مجموعة من السمات التي عرف بها ابن رشد وخصوصا فكرته عن حق المرأة في المساواة، وفهمه للأمر. وكذلك لتوضيح الموقع العلمي المتقدم لعدد من نساء الأندلس ممن كن يتمتعن بالثقافة، والحرية والاستقلالية.

خلخلة المنطق

مع ذلك فثمة بعض الهنات التي تخلخل مصداقية هذا الجزء، فهو يختار أسماء غريبة نسبيا: إذ يمنح اسم جبريل لأخيه مثلا، ويمنح الكاتب اسم سارة لشخصية ابنة عمه التي سيتزوجها، ولعمه اسم صالح، ولزوجة عمه أمل، ثم يطلق على ابنه الأكبر اسم جهاد، رغم أن الكثير من الكتب التي تناولت سيرة ابن رشد أجمعت على أن أكبر أبناءه يسمى أحمد وعمل بالقضاء والفقه، واللاحق عليه أبو محمد عبد الله وهو الذي عمل في الطب وساعد أباه في كتابة بعض الكتب الطبية، كما أسلفت.

بالإضافة إلى ألوان من التحيز لرواية تاريخية دون سواها في مثل إظهار شخصية خليفة الإمام ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين، وهو عبد المؤمن بن علي الكومي بوصفه رجلا صلفا شديدا، وهذا له علاقة بحروبه ضد المرابطين صحيح، وربما بتأثير من ثقة ابن تومرت به وقد كان متشددا، لكن عبد المؤمن أيضا كان رجل علم، تعلم جيدا، وأرسى منظومة تعليم متطورة بالنسبة لذلك العصر، وكان معروفا بمجالسته العلماء، وقد جعل من ابن الطفيل وهو فيلسوف وليس طبيبا فقط، أو بالأحرى مثقفا كبيرا بمفاهيم العصر اليوم، جعل منه طبيبه الخاص، وسيأخذ ابن رشد مكانه طبيبا لعبد المؤمن بعد وفاة ابن طفيل، وهو الذي كلف ابن رشد بشرح أرسطو، بعد أن قام ابن الطفيل بترشيح الأخير للمهمة. وهذا كله يتعارض مع السياق الروائي الذي التزم به سينويه في الرواية متكئا على رواية تقول إن اهتمام ابن رشد بشرح كتاب المجسطي (كتاب بطليموس عن الفلك والرياضيات) دفعته للذهاب إلى المغرب للقاء عبد المؤمن! رغم أن الرواية الشهيرة على لسان ابن رشد نفسه مذكورة في عدد من كتب السير الأندلسية، التي يحكي فيها ما دار بين ثلاثتهم في لقائه الأول بالخليفة الموحدي، وحوارهم حول مسألة الخلق، وكيف أن اللقاء انتهى بطلب عبد المؤمن من أبي الوليد شرح أعمال أرسطو بسبب صعوبتها.

بين غرب وشرق

وبشكل عام يجد القارئ الجزء السردي الخاص بالغرب بعد وفاة ابن رشد، أكثر إحكاما وموضوعية، ربما لأنها الثقافة التي يعرفها الكاتب بشكل أكبر بطبيعة الحال، بالإضافة لأهميتها في توضيح المفاهيم المغلوطة التي أشاعها بعض الكهنة المتشددين عن ابن رشد، وعملت على شيطنته ولعنه لترهيب وقمع محاولات قراءة أفكاره التي ضمنها شروحه لأرسطو، وغيرها من الكتب.

هذه الشيطنة التي كان لها أثر كبير في الفنون والآثار الفنية الغربية، من مثل قيام الشاعر الإيطالي الكبير دانتي بذكر اسم ابن رشد في الكوميديا الإلهية، في أحد مواضع الجحيم مع فلاسفة آخرين، وقيام عدد من الفنانين الإيطاليين برسم صورة ابن رشد ساقطا أسفل قدمي توما الأكوين، تأكيدا على انتصار الأخير عليه، وغير ذلك.

ربما لا يحتل هذا النص في مجال التخييل والتقنيات الروائية ما يمنحه التميز السردي، على الأقل من وجهة نظري الشخصية، ولأسباب سبق أن أوردتها، وإن كنت أتفهمها لطبيعة شخصية ابن رشد وظروف حياته. لكنه في الوقت نفسه يبقى نصا ضروريا، ولعله كاشف للكثير من الالتباسات حول شخصية ابن رشد وأفكاره، من جهة، وموضحا أيضا لأهمية ومعنى العقلانية عند الإمام الفقيه الأكبر كما حرص على وصفه تلامذته والنساخ الذين نسخوا كتبه في لغتها العربية. فقد كان فقيها له دور كبير في الفقه خلفا لجده ابن رشد الجد، إضافة إلى دوره في شرح المذاهب، كما تولى القضاء في كل من إشبيلية وقرطبة. وله اجتهادات عديدة في كثير من المسائل الفقهية. وكتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد أثر من الآثار الدامغة على هذا الدور والمعرفة الفقهية الواسعة التي كان يتمتع بها.

وهذا النص أيضا كاشف لأهمية ابن رشد في الثقافة الإنسانية بشكل عام، لأن أفكاره، حوربت في ثقافتين مختلفتين، أو بالأدق من فصيلين متشددين ومتطرفين في الثقافتين الإسلامية والمسيحية على السواء، بما يجعل منه نموذجا كاشفا لتلاقي التطرف في مجموعة من العوامل المشتركة في ضيق الأفق والتعصب والانحياز للعاطفية اللاعقلانية على حساب التدبر والفهم.

وفي الرواية نفسها التي نتناولها هنا إشارة إلى أن الإمام الغزالي نفسه الذي عادى أنصاره أفكار ابن رشد، إذ تعرضت كتبه هو نفسه، أي الغزالي، للحرق أمام جامع قرطبة نفسه؛ أي في مكان قريب من موضع حرق كتب ابن رشد، ومنعت كتب الغزالي في فترة أخرى في الأندلس.

ولكن في مرحلة أخرى، قريبة من عصر النهضة، بدأت أفكار ابن رشد تنتشر وتؤثر حتى أنها اختلقت مدرسة فكرية عقلانية عرفت بالرشدية، وفي أطيافها وبإلهام منها انطلقت مرحلة التنوير الفكرية في أوربا.

ولهذه الأسباب جميعا ما يجعلني أتساءل وأبحث عن أسباب غياب نص روائي في السرد العربي يتقصى سيرة رجل امتلك عقلا وحكمة أجمع عليها كل من تقرب منه، وفق إجماع السير التي تناولت شخصيته، وتمكنت أفكاره أن تجلو غبار الوأد والنسيان، وتتجاوز رماد الحريق، ولهيب النمائم والأكاذيب التي فحت بها نفوس المتعصبين والرافضين للعقلانية.

إبراهيم فرغلي كاتب وروائي مصري