No Image
عمان الثقافي

أن نُقرأ، أن نُرى

22 فبراير 2023
22 فبراير 2023

عدتُ للتو من لقاء مجموعة من الأستاذات من جامعة أنسبروك في النمسا، تتراوح تخصصاتهن بين الأدب والعلاقات الدولية وعلم النفس والحقوق. كُنَّ قد كتبنَ لي من قبل أنهن قررن زيارة عُمان بعد قراءة روايتي «سيدات القمر» بترجمتيها الإنجليزية والإيطالية، وأنهن يرغبن في لقائي للحديث عن الرواية. حدث لي مثل هذا مرات عدة منذ أن فازت روايتي؛ وجدتُها تصبح سفيرةً لبلادي، ووجدتُ الناس في نيوزيلندا وبريطانيا والمكسيك وإيطاليا وأماكن غيرها يخبرونني عن رغبتهم في زيارة عُمان بعدما قرأوا كتابي. وهذا ليس بغريب في تصوري، فأنا نفسي كذلك كثيرا ما قادني الأدب إلى الأماكن، مثلما قادتني الأماكن إلى الأدب. منذ سنوات عدة ذهبت للمرة الثالثة لزيارة مكة تتبعا لأثر شخوص رواية «طوق الحمام» لرجاء عالم، وفي اليابان تحسستُ أجراس المعابد، وتلمَّستُ خشب بيوت الشاي الصغيرة، وتفحصتُ الأبواب الورقية المتحركة (شوجي) التي تقسم البيت إلى غرف منفصلة مُهتديةً بوصفِ كاوباتا لها، وحاولتُ الامتثال إلى طقوس شرب الشاي كما وصفها تينيزاكي، وسافرتُ إلى منطقة البحيرات في بريطانيا من أجل مشاهدة الطبيعة التي وصفها الشاعر الإنجليزي وردزورث، تدرجات المساحات الخضراء والبرتقالية المنتهية ببحيرة رائقة. أوراق الأشجار الخريفية تتساقط بغزارة، كنت أفكر: كأنها حبات مطر. تتهادى بهدوء في الجو وترتمي بوداعة على الأرض الرطبة، تتكوم ولا تعترض على أقدام العابرين، القليلة على أية حال. يزعمون أن المشهد لم يكد يتغير منذ رآه وليام وردزورث قبل حوالي مائة وخمسين عاما. وتتبعت في منعرج النهر بكيرالا بالهند خطى السيدة التي أحبت رجلا من طبقة دنيا، حسب التقسيم الهندوسي، وعبرت إليه النهر كل ليلة، في رائعة أرانداتي روي «إله الأشياء الصغيرة»، وعلى الطرق المرصوفة بالحجارة في براغ بالتشيك، وفي الدروب الضيقة العريقة، وعلى الجسور الحجرية على النهر وقفتُ مع كافكا، وإن كان كافكا أيقونة براغ، واسمه في كل شيء من بطاقات البريد حتى علاقات المفاتيح ولا يكاد يخلو دكان من صوره وكتبه، فإن كاتبا تشيكيا آخر، ليس محبوبا في التشيك، ولم أر له أي صور هناك، وإن كان محبوبا في العالم أجمع، هو الروائي الفذ ميلان كونديرا، ظللت أفكر به وأنا أمشي بمحاذاة النهر، ولما زرتُ القاهرة فتنني أن أرى أسماء الشوارع تماما كما وردت في روايات نجيب محفوظ، وتلهفتُ لزيارة نيجيريا بعد قراءة تشماماندا في «نصف شمس مشرقة»، ولزيارة السودان بعد قراءة الطيب صالح وأمير تاج السر وحمور زيادة.

غير أن الاحتفاء بالمكان الروائي والرغبة في مضاهاته بالواقع، أو استكشاف الأماكن الحقيقية التي استلهمها، ليست هي الشكل الوحيد لما يحققه الأدب المحلي حين يصبح عالميا، ومقروءا في لغات شتى في أنحاء الأرض، وإنما الاحتفاء بالمكان هو أحد هذه التمظهرات العديدة، التي يتجلى أهمها في رأيي في إثارة الاهتمام بالأدب نفسه، الذي قد لا يكون معروفا من قبل، وقد يكون معروفا غير معترف به، وقد يكون مُتجاهَلا -كما هي حال الأدب العماني- لأسباب كثيرة، ليس هنا مقام بسطها. حين وقفتُ على منصة تتويج روايتي «سيدات القمر» بجائزة البوكر العالمية في 2019، قلت بأني آمل أن يفتح هذا الفوز الطريق أمام الأدب العربي العظيم، الذي يمتد عمره إلى أكثر من ألف وسبعمائة سنة، ليصبح مُتاحا ومقروءا في أنحاء العالم لأنه يستحق ذلك. ثم خصصتُ في المقابلات الإعلامية الكثيرة التي تلَت ذلك الحدث الأدبَ العُماني بمزيد من الحديث للعناية به، تحدثتُ مع صحفيين ومترجمين وناشرين، وجدتُ المنبر عاليا فرفعتُ صوتي ليسمعنا القراء، ليعرفوا تنوع وغنى الأدب العربي عامة والأدب العماني خاصة، وليدركوا أن القليل الذي وصلهم لا يمثل التنوع والثراء والعمق الذي يزخر به هذا الأدب.

وأن الكثير من هذا القليل الذي وصلهم مليء بالكليشيهات والصور النمطية لعالم عربي أو إسلامي كأن لا شيء فيه يستحق الكتابة عنه غير الحروب والانقسامات الطائفية وقمع المرأة، أردتُ أن أوجه الانتباه إلى أن الأدب أكبر من ذلك وأغنى، وأنه مثل كل آداب العالم يتناول هذه الموضوعات الحارقة لكنه يُعنَى أيضا بكل المواضيع الإنسانية التي تتناولها الآداب، وأنه لا ينبغي أن يُعامَل كوثيقة على أحوال العالم العربي المضطرب، بل باعتباره عملا فنيا تخييلا تتأتى قيمته من جمالياته الفنية وليس مما يتيحه من «تلصص» على الحياة العربية «الغامضة»، وكأننا ما زلنا نعيش في عوالم ألف ليلة وليلة.

لقد كتبتُ أسماء الكُتّاب والكاتبات العمانيين للصحفيين والمترجمين، واجتهدتُ في تهجئة أسمائهم في اللقاءات المسموعة، وتحدثتُ ما أمكنني عن هذه الرواية أو تلك، كما استجبتُ لطلبات الناشرين لكتابة كلمة الغلاف لبعض الروايات العربية المترجمة، أملا في لفت الانتباه لها.

فهل أثار الأدب العماني الفضول؟ لا شك في ذلك، ووجدت بعض الأعمال طريقها للترجمة، وصدر بعضها فعلا، ولكننا نعلم جيدا أن صناعة النشر في الدول الغربية خاصة هي صناعة ضخمة، تتصارع فيها الاتجاهات، وتتدخل فيها عوامل التسويق والترويج، وتقلبات السياسة، والضخ الإعلامي، والجوائز، فوجود الكتاب الجيد لا يكفي وحده للنشر الجيد. والكتاب الفائز بجائزة كبيرة حظوظه أوفى بطبيعة الحال من الكتاب غير الفائز. ولا يخفى أن بعض الدول العربية تدفع أموالا طائلة من أجل الترويج لأدبائها، ولكن في الحقيقة لا قيمة لترجمة كتاب يصدر في البلاد التي كُتِب فيها، الدعم الحقيقي لا يأتي بالدفع لمترجم محلي ليترجم كتابا محليا لينشر نشرا محليا في لغة أخرى. لا بد أن تصدر الترجمات الإنجليزية في البلدان الناطقة بها، والترجمات السويدية في السويد، واليابانية في اليابان وهكذا، كما يحدث مع آداب الشعوب الأخرى، ومنها الآداب التي تُنشَر بالعربية وتصلنا مترجمة عبر دور نشر عربية.

وكما كتبتُ في مقدمة الأنطولوجيا العربية «كم رئة للساحل»: إن مستقبل الأدب العربي لمبشَّر بالنظر في منتَج أجياله الجديدة، وتنطوي بذرته على عظيم أمل في أن تحملنا أشجارها المستقبلية إلى آفاق أرحب، على المستوى العربي المحلي، وعلى المستوى العالمي، ليتبوأ الأدب العربي مكانته اللائقة بين آداب الأمم والشعوب، لقد آن الأوان أن يتجاوز العالم النظر إلى الأدب العربي باعتباره وثائق اجتماعية، وأن يتلقاه باعتباره إنجازا أدبيا. وهكذا نأمل أن يجد القارئ العالمي في الأدب العربي أصداء للقيم الإنسانية المشتركة التي تضمّنا جميعا -نحن بني البشر- كما يجد فيها خصوصية العالم السردي وفرادة اللغة الشعرية.

جوخة الحارثي أكاديمية وروائية عمانية حصلت ترجمة روايتها «سيدات القمر» على جائزة مان بوكر العالمية